ظهور واختفاء سُعاد حُسني في فيلم تسجيلي لرانيا اسطفان

كانت المخرجة اللبنانية رانيا اسطفان قد وقفت في منتصف صالة سينما “زاوية” بوسط البلد، حيثُ الإضاءة خافتة، والجمهور في انتظار بدء العرض، حين قدمت فيلمها بعبارة واحدة “بعد ما سعاد دارت العالم، هلأ رجعت ع بيتها”.

الشغف بجمال سُعاد حُسني، لا يمكن اعتبار هذا رأيًا انطباعيًا هُنا، هو المُفتاح الأكثر أهمية في تلقي الشريط السينمائي “اختفاءات سُعاد حسني الثلاثة”، فاسطفان التي كتبت أطروحتها السينمائية عن سُعاد في أستراليا، قررت مُعايشة روح الفنانة الاستثنائية مرّة أخرى مدة عشر سنوات هي مُدة إنجاز الفيلم، هُنا لا يُمكن تجاهل نوع الفيلم التسجيلي، وأنه تم إنتاجه بشكل مُستقل وبمنحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق عام 2011.

يتكوَّن الشريط التسجيلي من مشاهد مُجمعة لسُعاد من أفلامها السينمائية طوال تاريخها، ووفقًا لرؤية نفسيَّة وفنيّة معينة تقوم لرانيا اسطفان بإعادة سرد سيرة سُعاد مرّة جديدة بشكل مُلبِّس داخل الفيلم، كانت عبارة واحدة تتردد بأشكال مُتباينة في أفلام سُعاد التي اُقتطعَت منها اللقطات، ” الخيال دايمًا بيكون أجمل من الحقيقة”. الأمر الذي يبدو مُحمِّلًا بالمعنى داخل الشريط لم يكن أكثر من مُصادفة على أرض الواقع، العبارة التي كانت تقولها سُعاد في أفلامها، أو يقولها آخرون عن الشخصيّات التي كانت تلعبها، تبدو كأيقونة انبنت عليها حياة سُعاد على الأقل داخل هذا الشريط. يتكون الفيلم من مُقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة، تحكي فيه المُخرجة اسطفان حكاية بديلة أو مُفترضَة لحياة سُعاد حسني ملكة الظهور والاختفاء، منذ البدايات الأولى، الانطلاق والشغف اللانهائي بالحياة، مرورًا بالصعود والنجاح والتحقق ثم الانهيار إلى الموت انتحارًا في نهاية الأمر.

على مستوى الحكاية تلتقط رانيا، المُتعلقة وجدانيًا كثيرًا بسُعاد، من أفلام السينما المصرية، ما يمكن أن يُعيد حكي قصة حياة سُعاد حُسني، الجديد في الفيلم ليس هُنا، حكاية سُعاد الحقيقية معروفة، على الأقل في شكل محدد ومحفوظ، لكن ما تلعبه اسطفان فنيًا هو محاولتها الدؤوبة للاقتراب من روح الفنانة المُعذَبة، كأنما تتفرج اسطفان على سُعاد التي أتت العالم بتصورات مثاليّة عن الحُب والفن والتحقق تصورات ربما لم تجدها فعليًا، هُنا حيثُ لا يُمكن الاختلاف مع ما تقره رانيا من أن موت سُعاد هو موت انتحار، إن حياة تحتمل كل هذا الحزن، الوجودي ربما، السابق على الحياة، الذي لا يحتاج إلى كثير من مُسببات منطقيّة على أرض الواقع ، ولا يعدمها أيضًا، حياة مثل هذه سوف تقود إلى الانتحار الرمزي على الأقل.

اللعبة في “اختفاءات سُعاد حسني الثلاث” هي لعبة مونتاج، تحاول استنطاق صمت سُعاد في المشاهد التي تتكلم فيها في السينما، غوايتها كأنثى، وحدسها الدائم، على الأقل يبدو كذلك في أفلامها الأخيرة، بدنو السقوط وحتميته، جمعت اسطفان مشاهد  من أفلام سينمائية عديدة لسُعاد وهي على شفا السقوط من بناء شاهق، كأنما اسطفان تُبعثُ سُعاد عن طريق الخيال، الذي هو لعبة الفن المُفضلَّة، مرّة جديدة من أفلامها، كي تقول الأشياء التي تخصها، عن حياتها على نحو لا يمكن وصفُه، إنما فقط الاستغراق به.

بحلول نهاية العرض، بدا فيلم رانيا اسطفان كتحية لعدّة اختفاءات، اختفاء هذا الدور المؤثر للسينما المصرية في البلاد التي حولها، لبنان مثلًا، الدور الماضي الذي لم يعد، اختفاء حقبة الفيديو، اختفاء سُعاد الإنساني والفني، والاختفاء الالتباسي لها داخل الفيلم، كل مشاهد الفيلم ليست سُعاد فعلًا، إنها شيء يشبهها، الأدوار التي لعبتها، في الحياة والسينما، لكنها أيضًا سُعاد على نحو ما، داخل الشريط لا يمكن تجاهل طريقة صناعته البسيطة والمؤثرة من مُخرجة تقول عن سُعاد أنها “فاتت على عيلتها”، و”أنها أبدًا لم تسأمْ منها، لأن أحدًا لا يسأمْ من شخص يُحبه”، هنا حيثُ الفن في أبسط صوره وأكثرها عُمقًا، حين يتصل بالوجدان، لا وجدان المُتلقي فقط، لكن الفنان أيضًا.

Visited 36 times, 1 visit(s) today