“ضغط عالي”.. رسالة مباشرة وتمرد مضمر

فى أجواء هادئة إلا من صخب الامتحانات والدعاية الانتخابية نزل فيلم “ضغط عالى” إلى دور العرض فى ٣ أبريل على استحياء ليواجه مصيرا معروفا سلفا، وهو التجاهل شبه التام من قبل جمهور يتهيأ لمسلسلات رمضان وأفلام عيد الفطر التى يهيمن عليها نجوم الشباك الكبار. وبرغم صعوبة التوقيت إلا أن ذكاء صناع الفيلم، الذين يفهمون طبيعة السوق السينمائية وسيكولوجية الجماهير المصرية جيدا، جعلهم يختارون هذا التوقيت لضمان فرص أكبر للمشاهدة بعيدا عن المنافسات الشرسة للكبار.

تدور أحداث الفيلم عام 2012 فى أحد الأحياء الشعبية حول مهندس الكهرباء الشاب حسين الصالح (نضال الشافعى)، الذى يتعرض لحادث يؤدى إلى شحن جسمه بطاقة كهربائية عالية، ولأن الأحداث تدور فى فترة شهدت فيها مصر انقطاعا يوميا للتيار الكهربي، فقد استغل حسين هذه الطاقة لإنارة الحى الذي يعيش فيه، وتشغيل أجهزتهم الكهربائية التى توقفت عن العمل، كما استغلت الحكومة هذه الطاقة فى إنارة البلد بكاملها. الفكرة مثيرة وجذابة، وهى التى أغرت محمود صابر بكتابتها وإنتاجها، ودفعت عبد العزيز حشاد للعودة إلى السينما، وهو المقل فيها قياسا بعمله فى المسلسلات.

الفيلم من نوعية الكوميديا الاجتماعية التى تحمل مضمونا سياسيا. جاء السيناريو موفقا فى اختيار تيمة واحدة (انقطاع الكهرباء) ذات دلالة خاصة للتعبير عن واحدة من أهم الفترات التى مرت بها مصر فى السنوات الأخيرة، وهى فترة حكم الإخوان.

وكان الفيلم صريحا ومباشرا عندما وضع تاريخ الأحداث على الشاشة، وأعاد لأول مرة منذ سنوات مشاهد من خطابات الرئيس الأسبق محمد مرسي، وتصريحات هشام قنديل رئيس حكومته.

يبدو للوهلة الأولى أن الفيلم دعائى جاء فى هذا التوقيت ليذكر الناس بمساوئ الحكم الإخوانى وانعكاسها السلبى على حياة المواطن البسيط، إلا أن النظرة المدققة تكشف لنا عن أن الأحداث إنما تلمح إلى نوع من العلاقة بين الحكام والمحكومين يمكن أن توجد في أى زمان وأى مكان.

لا ينتمى حشاد إلى ذلك النمط من المخرجين الذين يهتمون بعنصر التكوين فى الصورة السينمائية، ويعتمد كثيرا على الجملة البصرية المباشرة التى لا تتجاوز وظيفتها التوصيلية. وفى المقابل يستعيض حشاد عن غياب البلاغة البصرية باختيار موضوعات غرائبية ذات جاذبية خاصة، تبدى ذلك بوضوح منذ فيلمه الأول ”كامب” ومسلسله ”هى ودافنشى”.

ثراء الفكرة وجاذبيتها منحت السيناريو مساحة كبيرة لخلق العديد من المفارقات الكوميدية المضحكة، من قبيل المشهد الذى يصور ”حسين” نائما فى السرير فى حجرته والأسلاك الكهربائية خارجة من جسمة لتنير البيت وتدير أجهزته الكهربائية وقت انقطاع التيار، ليس هذا فحسب بل إن الجيران فى الحارة وقفوا أسفل البيت وهم يقومون بتوصيل الكهرباء إلى بيوتهم عن طريق مشترك ألقت به ”أم حسين” متصلا بسلك خارج من جسم ”حسين” فى الطابق العلوى. وتتوالى المفارقات فى تحكم ”حسين” فى مباريات الكرة المذاعة تليفزيونيا فى المقهى، وفى إنارة فرح إبن الوزير.

حاول حشاد، خلافا لنهج الفيلم القائم على التصريح والمباشرة، أن يضمن فيلمه بعض الإسقاطات السياسية من خلال استخدامه لموسيقى فيلم ”شئ من الخوف” فى أحد المشاهد ولصوت ”أبلة فضيلة” فى مشهد آخر، وهى تقص على الأطفال حدوتة الثعلب والأرانب. غير أن الرمز فى هذه المشاهد لم يكن إلا تأكيدا على أن الفساد لا يرتبط بفترة حكم معينة، فمن المعروف أن فيلم ”شئ من الخوف” كان ينطوى على نقد للحقبة الناصرية، وصوت ”أبلة فضيلة” كان من الأصوات الإذاعية المميزة لفترة حكم مبارك.

نجح الفيلم فى تقديم شكل مختلف من الكوميديا السوداء يتسق والخطاب المباشر لرسالة الفيلم. فالسواد هنا لم يعد معنى مجازيا يلمح إلى المصائر الكارثية التى تنتظر شخصيات العمل، لكنه صار سوادا حقيقيا ناجما عن انقطاع الكهرباء عن البلاد وغرق المواطنين، حكاما ومحكومين، فى الظلام. غير أن المعنى المجازى لا يغيب كلية، وإنما يظل مباطنا للمعنى المباشر، فالظلم ظلمات، وكلاهما يقطع الحياة عن المواطن ويتركه فى مواجهة مصير ضبابى غامض.

بالرغم من أحداث الفيلم المتلاحقة، إلا أن النصف الأول كان يشوبه البطء لغلبة الطابع المسرحى الذى كان يسيطر على أداء معظم الممثلين، وأفتعال الكثير من المواقف المجانية التى حشرها السيناريو بهدف الإضحاك، مثل مشاهد القسم والمستشفى واجتماعات وزراء الحكومة.

لكن يحسب للسيناريو قدرته على تصحيح أوضاعه سريعا بحيث نجح فى لملمة خيوط فكرته، وإعادة طرحها بصورة مكثفة أوصلته إلى ذروة منطقية ونهاية مفتوحة احتشدت فيها كل المعانى والرموز التى حملتها أحداث الفيلم، وعبر عنها صراحة بكلمات ذات دلالة ظهرت على الشاشة قبل نزول تتر النهاية.

يرمز إسم الفيلم ”ضغط عالى” إلى المعاناة الشديدة التى يلقاها المواطن البسيط، الذى يعيش فى ظل نظام لا يمتلك حلولا حقيقية لمشأكله. 

والمفارقة أن الحل يأتى دائما على حساب نفس المواطن المسحوق تحت وطأة هذه المشكلات. يتأكد ذلك بصريا من خلال المشهد المتكرر لحسين الذى يجلس بمفرده فى غرفة مظلمة بعد توصيل شبكة من الأسلاك الكهربائية فى جسمه ورأسه من أجل إنارة مدينة بكاملها، وفى كل مرة يفقد جزءا من طاقته وصحته العامة الآخذه فى التدهور والانهيار.

كان يمكن للفيلم أن ينتهى عند المشهد الرومانسى المؤثر، الذى يصور ”حسين” المريض بإحدى المستشفيات وهو يغادر غرفته مترنحا للوصول إلى كابل الكهرباء المقطوعة بالمستشفى، والالتحام به، فى مشهد تراجيدى كاد يودى بحياته، من أجل إنارة غرفة العمليات التى ترقد فيها حبيبته ”أيتن عامر” بين الحياة والموت.

غير أن السيناريو كان يدخر مفاجأة آثر أن ينهى بها ملحمته الفانتازية، مؤكدا على المعنى الأساسى الذى تحمله رسالة الفيلم المباشرة، والتى أبى السيناريو إلا أن يفصح عنها كتابة، وهو المعنى الذى يصور المواطن المصرى البسيط بوصفه طاقة متجددة، تعمل دائما على حل مشكلات الوطن، وإن كانت الرسالة، بالرغم من مباشرتها، تنطوى على نوع من التمرد المضمر بين السطور عندما تشير إلى أن هذا المواطن ذهب إلى غير رجعة. وهو ما يعني أن على الحكومات القادمة أن تعمل على حل مشكلات البلاد، التى تديرها، بنفسها دون انتظار الحل من قبل شعب أنهكته الأزمات، وبات من حقه أن يستريح بعد طول عناء.

جاء أداء نضال الشافعى مبالغا فيه، خاصة فى النصف الأول من الفيلم، لأنه كان يجمع بين أسلوبى كلا من محمد سعد وكريم عبد العزيز، لكن سرعان ما تحسن الأداء فى النصف الثانى من الفيلم، وربما كان للسيناريو دور فى هذه المبالغة، لأنه لم يكن موفقا فى رسم شخصية حسين (المهندس الكهربائي)، التى ابتعدت كثيرا عما يفترض أن تكون عليه من حيث المستوى التعليمى والأخلاقى، واقتربت من شخصية اللمبي فى الفيلم الذى كان يحمل نفس الإسم. كما جاء أداء أيتن عامر وباقى طاقم الممثلين على قدر الدور، دون أن يترك أثرا فى نفوس المشاهدين بعد مغادرة صالة العرض، وهو ما يتناسب مع سيناريو لا يطمح إلى أكثر من توصيل رسالة بسيطة ومباشرة فى قالب كوميدى واجتماعى.

الفيلم يستحق المشاهدة، ولديه من وسائل الجذب ما كان من الممكن أن يحقق له نجاحا جماهيريا أكبر لو عرض فى موسم عيد الفطر، بعكس توقعات صناعه، كما كان يمكنه أن يحقق نجاحأ أكبر فى أى موسم لو قام ببطولته واحد من نجوم الشباك مثل محمد سعد أوكريم عبد العزيز اللذين تأثر بهما نضال الشافعى فى أدائه لشخصية ”حسين الصالح”.

ضعف الإمكانيات أفقد الفكرة كثيرا من ألقها، لكنه لم يحل دون توصيل الرسالة التنويرية للفيلم. وهى رسالة ينبغى أن تنطوى على تساؤل ملح وخطير: إلى أى مدى يمكن لزيادة الضغط أن تؤدى إلى توليد التيار، وإلى أى مدى يمكن أن تؤدى إلى الانفجار؟!

Visited 112 times, 1 visit(s) today