ضراوة الحكي بين الحفاظ على سينمائية الصورة ومسرحتها
إحدى مميزات مشاهدة الأفلام في المهرجانات أنها تمنح المتلقي الفرصة الآنية لعقد مقارنات فورية بين الشرائط السينمائية المتنوعة شكلاً ومضموناً، قد يبدو هذا بشكل أكثر وضوحاً ومباشرة مع تشابه التيمات والموضوعات مثلما حدث مع الأفلام المغاربية – التي عُرضت مؤخراً بمهرجان أبو ظبي السينمائي السادس المنعقد في الفترة 11- 19 أكتوبر 2012 – “المغضوب عليهم” للمغربي محسن بصري، و”مانموتش” للتونسي نوري بوزيد، و”عطور الجزائر” لرشيد بن حاج. فالأعمال الثلاثة تعكس هواجس مبدعيها ومخاوفهم من آثار المدّ الديني الذي يعصف بالعالم العربي، في معالجات سينمائية متابينة تشي بالمستقبل الضبابي الذي يُواجهه العلمانيون والليبراليون والمستنيرون في ظل الإرهاب الفكري وتنامي الأصولية والتشدد. مثلما يتشابه معهم بدرجة ما الفيلم الوثائقي الكدني “المستقبل أمامها” للمخرجة نيشا باهوجا، والذي يرصد سقوط المرأة الهندي بين شقي رحى، بين الأصولية المتشددة التي تنادي بالحفاظ على التقاليد حتى لو كان ذلك بإشعال فتيل الحرب واللجوء لقتل الأبرياء، وبين الرأسمالية التي تنتهك جسدها وتستثمره لتغرف من وراءه مليارات الدولارات، وذلك من خلال تسليط الضوء على مسابقة ملكة جمال الهند مقابل الذراع النسوي في الحركة الهندوسية المتشددة.
على صعيد مغاير هناك نوعية آخرى من الأفلام تكون موضوعاتها بعيدة كل البعد عن بعضها البعض، لكنها تقترب في الشكل السينمائي والفني الذي تصطبغ به، فيأسرنا بعضها بجلاله وفنيته وأصالته، بينما يُصيبنا البعض الآخر بالضجر رغم أهمية موضوعه وسمو أفكاره الفلسفية. مثلما حدث مع فيلمي “حجر الصبر” للمخرج الأفغاني عتيق رحيمي – مواليد عام 1962 – و”جيبو والظل” للمخرج البرتغالي المخضرم مانويل دي أوليفيرا البالغ من العمر 104 سنة، وقد عُرض الأثنين أيضاً بمهرجان أبو ظبي السينمائي السادس. ووجه المقارنة الذي أقصده بين الفيلمين هو الإستناد بشكل أساسي على الحكي بضراوة ومدى نجاح كل منهما في التواصل مع المتلقي من عدمه، رغم بلاغة الموضوع في كليهما.
حجر الصبر
في “حجر الصبر” تقع مشقة الحكي على بطلة الفيلم – الإيرانية المعروفة جولشفيتي فرحاتي- الزوجة التي تخامرها الشجاعة أثناء سقوط زوجها في غيبوبة كاملة في أن تسرد مسأة حياتها ومعاناتها في مجتمع أفغانستان بكافة أشكال إرهابه وترويعه للمرأة. معظم أحداث الفيلم تدور في غرفة واحدة حيث يرقد الزوج المغيب، إلى جانب عدة لقطات آخرى شحيحة جداً وسريعة ترسم صورة لما يحدث في المجتمع من حولها سواء لجارتها أو في السوق، أو في بت خالتها “المومس”، إضافة إلى عدة جمل سريعة وعابرة لشخصيات ثانوية جداً. في حين يقع على عاتق البطلة مهمة إنجاح الفيلم من خلال البوح وتجسيد تلك الحالة النفسية المأزومة لها في كافة حالاتها ما بين التردد والإقدام، والشجاعة والجبن والخوف، والتعرض للقهر النفسي والإنتهاك الجسدي، وما بين الفرح والحزن، والغضب والتسامح ثم القدرة على القتل لإنقاذ روحها.
كانت كاميرا المخرج بأحجام لقطاتها المتنوعة وزواياها المختلفة طوال 98 دقيقة – هى مدة العرض – تسمح للمتلقي بالإقتراب إلى درجات متباينة من الشخوص، من العينين واليدين والشفتين، وملامح الوجه، ورعشة الأيدي، واختلاجة القلب، مما سمح للجمهور بالتماهى مع البطلة غارقاً في عوالمها متجاوباً مع مسأتها كأنما هى مأساته الشخصية دون أن يشعر بمدة السرد السينمائي.
عالم المسرح
على النقيض من تلك الحالة جاء فيلم “جيبو والظل” البالغ طوله 91 دقيقة. إنه أقرب إلى عالم المسرح من السينما إذ يقوم أساساً على الحوار الطويل المتوالي والذي يكاد لا يتوقف، كما أن الكاميرا تقف على مسافة بعيدة من الشخوص كأنها في موقع المتلقي لا تُبارح مكانها أبداً إلا فيما ندر لتغيير زاوية التصوير فقط لكن من دون أن تقترب. ورغم أهمية تيمته ومغزاه الفلسفي، لكن مشاهدي هذا الشريط – ليس فقط الجمهور العادي ولكن أيضاً نقاد ومخرجين كبار _ لم يتحمل أغلبهم البقاء أمامه طويلاً وظلوا ينسلون واحداً تلو الآخر من القاعة أثناء عرضه، ومَنْ صمد حتى النهاية كان عدداً ضئيلاً جداً.
لقطة من فيلم “حجر الصبر”
قطعاً لا يُمكن اعتبار قرب الشريط السينمائي من عالم المسرح نقيصة أو سبباً جوهرياً لهروب الجمهور. صحيح أن الفيلم كله، باستثناء لقطتين، يدور في غرفة واحدة لكن هذا ليس سبباً للإحساس بالملل الذي أصاب كُثر من المشاهدين، بل على العكس، فالحوار الذي كان يتناوبه شخصين أو ثلاثة أو خمسة في بعض الأحيان كان ميزة إضافية تُسهم في نجاح “جيبو والظل” أكثر مما حدث في حجر الصبر الذي اعتمد أساساً على بوح البطلة وفقط.
ذلك ما من شك أن اتخاذ المسرح شكلاً فنياً لتناول عملاً سينمائية يُصبح ميزة إضافية للعمل في أغلب الأحيان لو أجاد المخرج توظيف إمكانياته، فلا يُمكن نسيان فيلم مثل “ماندرلاي” للعبقري لارس فون ترير الذي تدور أحداثه على خشبة مسرح في مكان واحد لا يتبدل، ومع ذلك لا يمكن للمرء أن يبارح تلك الخشبة بذهنه ولو لوهلة ضئيلة من الزمن.
إذن ما هو المختلف عند “أوليفيرا”؟ في البدء لابد من الإشارة إلى أن العمل يستند أساساً على فكرة تكاد تقترب من مسرحية “في انتظار جودو”. هنا تنتظر عائلة مكونة من ثلاثة أفرد؛ أب مسن وأم ملتاعة وزوجة شابة، غائبهم المنتظر. إنه الابن الذي اختفى منذ عشرين عاماً. تعيش الأسرة وهماً عظيماً يحلمون فيه باليوم الذي يعود فيه الغائب. وذات ليلة يتحقق الوهم المنتظر، ويعود الغائب فتنقلب الحياة إلى جحيم كارثي. فقد تحول الابن إلى لص، وها هو يعامل أبويه وزوجته بغلظة وفظاظة وقسوة، ثم يختتم الليلة بسرقة أموال الشركة المؤتمن عليها والده ثم يفر هارباً، وعندما تُمسك به الشرطة يصطحبهم إلى البيت مُؤكداً أن السارق الحقيقي هو الأب، والذي لا يُنكر بدوره مُصدقاً على اتهام الابن خوفاً على حياة الأم التي لم تكف عن البكاء طوال سنوات.
في تقدير كاتبة هذه السطور أن الإشكال الأساسي الذي وقع فيه صاحب “جيبو والظل” هو عدم قدرته على توظيف خصائص وإمكانياته المسرح لصالح شريطه السينمائي، خصوصاً أن الكاميرا ظلت طوال الوقت على مسافة بعيدة من الشخصيات، بحيث لم تسمح لنا بالاقتراب من الملامح والوجوه والأيدي ومسام الجلد، فحتى في المسرح رغم ثبات موقع المتلقي لكنه يقترب من الممثلين ويظل يروح ويجيء بينهم من خلال الإضاءة وتركيزها على بعضهم ومدى كثافتها، بينما عند “أوليفيرا ظلت الكاميرا في موقع ثابت بعيد – كأنما تلتزم الحيادية – لكنها كانت حيادية مفرطة لأنها عوضاً عن الحيادية حجبت عنا تلك القدرة على التماهي مع أفراد تلك الأسرة أو على معايشة مشاعر الشخصيات، مما خلق حاجزاً قوياً بين أبطال العمل وبين المتلقي، فقد كانت جمل الحوار والعبارات الفلسفية شديدة العذوبة كأنها تأتي من وراء جدار سميك. وصحيح أن المخرج الكبير تمكن بمهارة وحرفية عالية من ضبط الإيقاع والزمن النفسي للشخصيات، وصحيح أن التكوينات البصرية بالفيلم كانت قادرة على أن تمنح الصورة جماليات خاصة يتراشق فيها الظل والنور بإضاءة مصابيح الكيروسين، كما أن أداء الممثلين كان مبهراً خاصة كلوديا كارينالي وجان مورو، والممثل ميشيل لونسديل، مع ذلك فإن ابتعاد الكاميرا وبقاءها على تلك المسافة ظل هو النقيصة الأساسية بالشريط السينمائي المبهر والذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة بالأفلام الروائية بمهرجان أبو ظبي السينمائي السادس.
* ناقدة من مصر