صورة داعش في السينما التونسية
سعاد زريبي- تونس
أثار فيلم “بنات ألفة” (2023) للمخرجة كوثر بن هنية، اهتماما كبيرا منذ عرضه في مهرجان كان في دورته الأخيرة، وهو الفيلم الذي عاد بالسينما التونسية الى مسابقة المهرجان بعد عقود طويلة، لكن لن نتطرق في هذا المقال لهذا النقطة التي نالت لأهميتها تحليلا وتأويلا مطولا على أغلب المنصات العربية والغربية.
يدور فيلم “بنات ألفة” حول قضية تسفير الفتيات الى بؤر التوتر، وتطرح المخرجة من خلاله موضوع الإرهاب ومختلف اشكالياته، وهو فيلم يتبع سلسة من الأفلام التونسية ترجمت معاناة الشعب التونسي بمختلف أطيافه وفئاته من ظاهرة الإرهاب. فهناك فيلم “فتوى” (2018) لمحمود بن محمود، الذي ينقل معاناة عائلة تونسية بعد وفاة ابنها الذي تورط مع الجماعات الإسلامية المتشددة وكانت قد أصدرت فتوى بقتل والدته التي كانت تنتمي الى الطبقة السياسية، ونشرت كتابا حول التطرف الديني والجماعات الإرهابية في تونس، الأمر الذي وضع ابنها طعما بين أيدي المتشددين.
“مروان” في هذا الفيلم هو شاب تونسي ذو اهتمامات فنية، فهو محب لفن البورتريه ولكن حال انتماءه الى “الجماعة” دون مواصلة موهبته في فن الرسم.
لم تستطع الجماعة تطبيق الفتوى الصادرة في حق الأم، الناشطة السياسية والحقوقية ولكنها طُبقت على زوجها وهو في طريقه نحو مغادرة البلاد.
تناولت بعض الأفلام قضية الشباب الذي انتهت بهم تجاربهم في تلقى الدروس في بعض المراكز الاسلامية الى التسفير الى بؤر التوتر أو القيام بالعمليات الارهابية داخل البلاد، مثل فيلم “زهرة حلب” (2016) للمخرج رضا الباهي. في هذا الفيلم لم تجد الأم من سبيل لإنقاذ ابنها الشاب الذي قادته تجربته نحو سوريا من أجل الجهاد و “نصرة الإسلام” سوى الذهاب إلى الرقة للبحث عنه، لكنها تواجه مصيبتها الأول عندما تتعرض للاغتصاب من طرف زعيم الجهاديين، ثم تقتل من طرف ابنها وهي في محطتها الأخيرة من أجل لقائه.
قصة مأسوية عاشتها سلمى في فيلم “زهرة حلب” مثلما عاشها الأب إبراهيم الناظور في فيلم “فتوى”، وهذه السمة التراجيدية التي اختفت في فيلم غازي زغباني الذي قدم صورة كاريكاتورية لشخصية المتطرف الديني ومن الجهادي حيث يصور في فيلمه “الهربة” (2020) وفيه نرى أحد الإرهابيين وهو يجد نفسه في بيت بائعة الهوى “نرجس” بينما كان يهرب من الشرطة التي تلاحقه فوجد الأمان تحت سريرها هربا من مصيره ومن الحكم عليه بالسجن.
وتكمن خصوصية هذه الأفلام الثلاث أنها لا تنطوي تحت راية السينما الوثائقية بل استطاعت أن تطرح مشكل الإرهاب على الجمهور التونسي والعالمي من خلال الشكل الدرامي القصصي، من أجل النقاش العمومي داخل الفضاء العمومي.
يقول اندريه بازان في تعريفه للسينما الواقعية أنها ليست استعادة للواقع بل إنشاء لواقع جديد وفق معايير جمالية تبتعد بالفيلم عن التوثيق المباشر.
في هذه الأفلام على اختلاف مخرجيها في ارتباطها بمعالجة نفس القضية، فإنها قد شكلت هندسة مشتركة في فهم وتصوير “الإرهاب” المبني أساسا على بنية “الصراع”: صراع الأماكن، الهويات والثقافات والحضارات، صراع في الأزمنة وصراع بين الأفراد ورؤاهم تحاكي أزمة صراع مجتمعي عميق.
يخترق الانغلاق الأماكن حيث لا نشاهد أبوابا أو نوافذ، والبيوت تحكمها الظلمة، تتصاعد النقاشات الحادة بين الشخصيات، وترتكز الأفلام على بنية معقدة من التقاطعات تصل حد الانكسارات والفجوات التي تسقط فيها الشخصيات في ظلمة الصراعات. وتتصارع اصوات شخصيات داخل العمارة في فيلم “فتوى”، وتتهاوى مبادئ “المتطرف” تحت سرير نرجس في فيلم “هربة”، أما في “زهرة حلب” فالبطلة وزوجها يبحثان في مناطق انعزل فيها الإبن من أجل تعلم مبادئ الجهاد حسب مفاهيم التنظيم الإرهابي، حيث تصدر الجامع القائمة، وهو المكان الذي أحكمت الجماعة الإسلامية غلقه من أجل تعليم دروس الجهاد.
تنطوي الأماكن في هذه الأفلام تحت راية الصراع فتنقسم الى قسمين حيث تنعدم روابط التقاسم le partage ويعلن الانقسام نفسه عنوانا لها اذ نجد من جهة العمارة،”الحومة الشعبية”، قاعة السينما، الحانة، قاعات الأفراح، سيدي عمر، البيوت التونسية، تربة الباي المشرفة على البحر في فيلم “فتوى” حيث دفن الشاب والزاوية حيث نجد ملامح للهوية التونسية القائمة على التضامن وتقاسم الأحاسيس والمشاعر في صلب حياتهم اليومية.
ومن جهة مقابلة هناك الجام، الجبل، المراكز الإعلامية، بيوت الجهاديين، البادية السورية. أنها أماكن تجاوزت صفتها الأولى كأماكن إقامة أو مكان يؤدي فيه المسلم شعائره الدينية بل إنها كشفت عن صراع بين هذا وذاك، الهُنا والهُناك، الداخل والخارج، الأنا والاخر، الجماعة والشعب، ظلاميون وحداثيون حيث يبدأ الصراع بنزاع الرؤى والأفكار وينتهي بسقوط الأجساد.
لم تقتصر هذه القطيعة على صراع الأمكنة بل رافقها صراع الأسماء وهو بالأساس صراع هويات، في توظيف محكم عملت عليه هذه الأفلام التونسية بكل دقة، فنجد من جهة: سلمى، نرجس، مراد، مروان، فاطمة، إبراهيم الناظور، لطيفة في طرف مقابل أبو سوف، أبو حمزة، أبو الوليد، الأمير نزار، جند الله … وبين هذا وذاك ينشئ صراع يحدث ما يسميه جون لوي كمولي “صدمة البصري” un choc visuel: الموت بكل طرق تنفيذ الحكم: رميا بالرصاص أو ذبحا. وهي صورة تمثل ما يسميه جون لوي كومولي في كتابه “داعش: السينما والمجتمع”- “صورة التنفيذ”Image d’exécution.
لكن السؤال يبقى: متى تتفوق السينما في العالم على قوة صناعة المشهد التي باتت داعش خبيرة في صناعته في كل مرة في أي مكان من العالم، بواسطة ما يسميه كمولي “الانتشار”la diffusion الذي استطاعت من خلاله أن تنتشر أكثر من أفلام هوليود نفسها؟