“ريميني”: يبيع الجنس ولكن بمشاعره

فيلم أولريتش سيدل في مهرجان برلين

عرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي الـ72، أحدث أفلام المخرج النمساوي المثير للجدل، أولريتش سيدل (70 سنة) وهو يحمل هذه المرة عنوان “ريميني” Rimini وهي اسم البلدة الساحلية الايطالية التي تقع على شاطيء البحر الادرياتيكي، وارتبطت باسم المخرج الأسطوري فيديريكو فيلليني الذي ولد ونشأ فيها. لكن ريميني التي ظهرت في أفلام فيلليني وأشهرها “8 ونصف” ليست هي بالطبع ريميني التي يصورها لنا أولريتش. إنه يقدم رؤيته الخاصة للبلدة التي تصبح قاتمة في الشتاء، حيث يهطل المطر، ويتساقط الثلوج لتملأ الشاطيء، وتفرغ الحانات والمطاعم من روادها، وتغلق الفنادق أبوابها ما عدا القليل الذي لايزال يراهن على ورود مجموعات قليلة العدد من السياح، معظمهم من الألمان والنمساويين من كبار السن المتقاعدين، وينتشر في شوارعها المهجورة أعداد من اللاجئين السوريين والافارقة الذين يعيشون على الكفاف.

لكن “ريميني” ليس فيلما من النوع التسجيلي أو غير الخيالي كما كان “سفاري” و”الطابق تحت الأرضي”، ففيه يعود أولريتش إلى عالمه الروائي الخاص بعد ثلاثيته الشهيرة “الحب” و”الإيمان” و”الأمل”. وبطله هو نقيض للبطل بالطبع، فهو رجل في منتصف العمر، يدعى “ريتشي برافو” (يقوم بالدور الممثل المفضل عند أولريتش، مايكل توماس)، كان في الماضي مغنيا مشهورا لكنه فقد بريقه وترهل وأدمن على الخمر، يعيش وحيدا في منزل ملأ جدرانه بصوره الشخصية من أيام مجده. أما الآن فقد أصبح يغني في الحانات وصالات فنادق الدرجة الثالثة لمن يتيسر وجودهم من عجائز النساء، يلتقط رزقه القليل من الشاب الإيطالي المسؤول عن مثل هذه الحفلات الليلية البائسة، ويساومه ويناقشه في الأجر القليل الذي يدفعه له، لكنه يتحايل على شظف العيش ببيع جسده للنساء المتقدمات في السن. كما أنه يؤجر بيته أحيانا للسياح، وينتقل للعيش في فندق مهجور مغلق متداع.

“ريتشي” الذي يعاني من الشعور الشديد بوطأة الزمن، ومن الوحدة وقسوة الزمن، يبدو رغم كل هذه الكآبة، نشيطا مرحا، لا يكف عن مداعبة النساء، بل وعندما يقوم بزيارة احداهن لممارسة الجنس معها، يبدو وكأنه يستمتع بكل قطرة من العشق الجسدي، ويبث نساءه كلمات الغزل والحب وكأنه فعلا يرتبط بهن ارتباطا عاطفيا. وهو في ذلك يبدو صادقا، لا يزيف مشاعره.

هذا الرجل الضخم الجثة العملاق في تكوينه الجسماني، يجمع في طيات شخصيته المتناقضات: المرح والاكتئاب، الاقبال على الناس والعنصرية التي تتبدى فيما يلقيه من تعليقات ساخرة مسيئة للعرب والمسلمين تحديدا، وبين الطيبة والاستغلال، وعندما يصلح من أمر نفسه وما فعله في الماضي، يريد الحصول على “التطهير” والتكفير ساعيا إلى الخلاص، فإنه يلجأ إلى الاحتيال والنصب، فالغاية عنده تبرر الوسيلة، لكن أولريتيش لا يصدر أحكاما عليه، كما لم يكن يصدر أحكاما أخلاقية على كل أبطال أفلامه الماضية، فهو فقط يرصد ويتوقف امام تناقضات الشخصية، لكي يقدم لنا بورتريها لصورة من عصرنا، تحمل هموم العصر وينعكس عليها بقوة، بطش الزمان.

أولريتش سيدل أثناء التصوير

أولريتش مخرج- مؤلف، صاحب بصمة خاصة وأسلوب مميز، وهو جزء أصيل من سينما الفن الأوروبية التي تتعارض تماما مع سينما الحبكة التقليدية المسلّية، فأفلامه مقلقة، قاسية، جافة، عنيفة، مليئة بأنماط من السلوك الإنساني مما خفي تحت سطح التهذيب الظاهري، والتحفظ التقليدي من على السطح، لشخصيات تنتمي للطبقة الوسطى. وتبدو المشاهد القاسية التي يصورها كما لو كانت مقصودة لتعذيب المشاهدين، فهو لا يعبأ بالتعاطف مع الشخصيات التي يصوّرها، ولا بالتماس الأعذار لها، بل يتفنن في تعريتها وقذفها في وجوهنا لإحداث الصدمة المطلوبة، صدمة الوعي.

لقطات أفلام سيدل، طويلة، والكاميرا عنده ثابتة في معظم الأحوال، فهو يصرّ على أن يستخرج من الشخصيات التي يصوّرها التأثير القوي الذي يريد إيصاله إلى الجمهور، فهو لا يحنو على المشاهدين، ولا يستخدم القطع للانتقال بعد أن يكون “المعنى” قد وصل، بل يظل يضغط ويلحّ لكي يتأكد من وصول “التأثير”. وهو يمزج في أفلامه الروائية بين الممثلين المحترفين وغير المحترفين، من الأشخاص العاديين الذين يقومون بأدوارهم الحقيقية في الحياة.

ولا تخضع أفلام سيدل لما يعرف بـ “النوع″ السينمائي أو التصنيف، فهي تجمع بين فيلم الطريق والفيلم الدرامي والتسجيلي والكوميديا السوداء، كما أن واقعيتها ليست تلك الواقعية المذهبية الكلاسيكية المعروفة، بل الواقعية إلى أقصى درجاتها قسوة.. الواقعية الممتدة على استقامتها، التي تصبح- بسبب المغالاة في تصوير خشونة الواقع: واقع الشخصية وواقع المحيط، بعقلانية باردة ومن دون أيّ اعتبار لإبداء مشاعر التعاطف- أقرب إلى السوريالية، مع نزوع واضح نحو العبث، والتجريد، واللامعقول.

والشكل عند سيدل هو المضمون، بمعنى أنه ليس من الممكن تجسيد الواقعي-اللامعقول، الصادم، المزعج، إلا بلغة مقابلة، هي لغة صارمة لا تنشغل كثيرا بجماليات الصورة وحركة الكاميرا، حتى لا ينحرف الفيلم عن مساره وهدفه، ورغم ذلك فأفلامه تمتلك جمالها الخاص من بنائها وما تحتويه من صور وتصميمات داخل الكادر. وهو في هذا الفيلم تحديدا يصنع بمساعدة مدير تصوير أفلامه “ولفجانج ثالر”، كادرات بديعة من حيث التكوين، ويستخدم حركة الكاميرا في لقطات طويلة تتابع الشخصية الرئيسية خلال سيره داخل ممرات الفنادق المهجورة.

إنه يكشف في بساطة آثرة، كيف أن “ريتشي” رغم كل مرحه وعبثه ومجونه، إنسان حزين، يبدأ الفيلم بعودته إلى فيينا لحضور جنازة أمه. ويلتقي بشقيقه الأصغر يشربان الخمر معا، ثم يصوبان البندقية ويطلقان الرصاص على الزجاجات الفارغة. أبوه رجل مسن يقيم داخل أحد منازل المسنين، إنه فاقد للذاكرة، لا يدري من أمر نفسه شيئا، سنرى قرب النهاية كيف أنه يمكن ان يرتد إلى أيام النازية ويتذكر نشيدا من تلك الأناشيد الوطنية الصارخة. لكن لا تواصل بين ريتشي والشقيق والأب. وفي الثلث الأخير من الفيلم تظهر فتاة شابة هي “تيسا”، ابنة رتيشي التي تخلى عنها بعد أن هجر أمها وقد جاءت الآن تطالبه بأن يعوضها عن إهماله لها طوال تلك السنين. وهي لا تريد المشاعر، بل المال. ويتعين عليه أن يقدم لها 30 ألف يورو في ظرف أيام. والفتاة تعيش على الهامش مع لاجيء سوري صامت لا يتكلم قط طوال ظهوره في الفيلم، وهي ستأتي بحبيبها هذا وأصدقائه المسلمين للإقامة في منزل ريتشي حيث يفرضون عليه نظامهم ونسق حياتهم الخاص، وكأنه يدفع الآن ثمن تجاهل واقعه.

في الفيلم كالعادة في أفلام سيدل، مشاهد صادمة، تدور في الفراش، حيث يمارس ريتشي الجنس بتفاصيله مع امرأة بعد أخرى، وجرأة ما بعدها جرأة في تصوير تلك التفاصيل الحميمية مع نساء ودعن الرشاقة من زمن، بدينات كعادة النساء في أفلامه، ومشاهد أخرى للغناء التقليدي العتيق الذي يؤديه ريتشي بأسلوبه الخاص وهو يرتدي معطفا مزركشا، أو حلى ملونة بما يشي بطابع أسلوب الستينيات والسبعينيات.

رغم قسوة الفيلم على الجمهور، إلا أنه يتميز بجاذبية لا تقاوم، وسحر ينبع من أسلوب السرد الواثق الهاديء وانتقالاته المفاجئة، والحضور القوي للمكان، بكل تفاصيله الحقيقية التي تصل للتسجيلية، الشوارع والشواطيء المهجورة، والمقاهي والحانات وردهات الفنادق وصالات الاحتفالات. وريميني هنا تبدو في صورة معاكسة تماما لصورتها عند فيلليني. إنها ريميني العجوز التي فقدت سحرها تماما مثل ريتشي نفسه الذي يوشك أن يلقى مصيره ويدفع ثمن تهاونه مع عائلته. وسيدل أستاذ في العمل مع الممثلين، ويعرف كيف يستخرج من الأداء أقصى ما يمكن التعبير عنه، كما أنه يصور المشاهد الحميمية بكل ثقة وثبات، ويصر على انتزاع التفاصيل، وتصميم المناظر عنده أساسي في نقل الإحساس بالمكان، وبالشخصية في إطار المكان. وما الغرف المهدمة الفقيرة والأسرة العارية فيها، وغياب التيار الكهربائي وبالتالي الضوء بدرجة كافية، سوى تعبير عن حالة الفراغ التي يعاني منها بطله- اللابطل.

Visited 18 times, 1 visit(s) today