“رقصة علي وزين” عن ترويض الفقد في أشكال الفرح
نور هشام السيف
ضمن مسابقة منصة الشارقة للأفلام في دورتها الخامسة التي تنظمها مؤسسة الشارقة للفنون كانت أولى عروض الأفلام الروائية في سينما سراب المدينة الفيلم التركي “رقصة علي وزين” (2021) للمخرج محمد علي كونار.
عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان اسطنبول السينمائي، كما حصل على جائزة أفضل فيلم في مهرجان سيلينتو السينمائي الدولي، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان أضنة غولدن بول.
حلم بمرتبة الأمل
تجري أحداث الفيلم في قرية كردية صغيرة بالقرب من بينغول يقتل فيها (علي) الشقيق الأصغر لبطل الفيلم (عيسى) أثر اشتباكات مع قوات الأمن التركية، ثم تسلم جثته إلى العائلة في مسقط رأسه، بعد اسبوعين من الجنازة تحلم والدته (زين)-تقوم بالدور الممثلة الإيرانية (مريم بوباني)- بترتيب مراسم زفاف لفقيدها حتى لا تندثر حياته المنقوصة التي بترت على عجل ، من هنا يبدأ الصراع النفسي بين أفراد عائلة ( علي ) الحاضر الغائب طيلة مدة العرض.
هنالك مدارس مختلفة في تناول أفلام الفقد
استخدم المخرج رقة الأسلوب السينمائي خلال لحظات صمت مكثفة ومشحونة لسيدة ملكومة لكنها لا تدمع ولا تجزع. هناك اتجاه خفي يدفعها نحو الديناميكية القصوى لإتمام العرس الذي حلمت به، وفي جمودها و رعونتها تعميق للأثر الانفعالي البصري حول ما سيقع لاحقا من تسلسل للأحداث.
من جانب آخر نرى الشخصية الموازية لزين متمثلة في (عيسى) ابنها البكر -يقوم بالدور الممثل التركي (سوات أسطا) وهو الصوت الجهوري في الفيلم، لم تنحصر مجاهرة عيسى في إعلاء صوت الضمير فحسب بل لصوته أيضا ترددات متباينة بسبب الهشاشة الناتجة عن الفقدان ومحاولة ثني والدته عن هذه الفكرة السخيفة كما يردد أمامها أكثر من مرة، فكرة دعوة أهل القرية لحفل زفاف شخص ميت!
الرقص على الجراح
من أجل تلك التصورات المتراكمة مسبقاً والتي تنبأ بها العنوان برقصة، فهي تنفذ بالفعل بعد ضغوط عديدة وهنا تلعب الكاميرا دوراً كبيراً في لفت انتباه الجمهور حول منظور القرية جغرافياً وطبيعة أهلها سيكولوجيا.ً
بعد تلك الزفة كان صعباً على زين السير فوق ذات الخطوط التي رسمتها والتي ستحملها تبعات طويلة لن تنتهي أبداً من ذاكرتها مهما حدث.
في مشاهد متواترة غير منطوقة نلمس الصراع بين عيسى ووالدته حيث ما فتئت الراحة بشكل أو بآخر حول تداعيات هذا العرس المزيف.
عيسى الخائف من ثرثرة أهل القرية، المكسور على أخيه الأصغر، المشفق على والدته بوجهها المرفوع دائماً وجسدها المسنود بلا حول على حائط من هواء، يراقبها وهي تلاحق الشاه قبل ذبحها فتتماهى صورتها في الشاه المنتقاة للذبح يلتقطها قبل السقوط ويحتضنها بقوة.
التوتر يبلغ مبلغه عند جميع أفراد العائلة الأخ والأخت والزوجة والأبناء بلا شعارات عالية متصاعدة، تترامق الشخوص بنظرات خاطفة، الصمت المطبق والقاء الكلمات بمحدوديتها الواجبة هما أداة التوتر.
الان فقط أرثي أمومتي
كل هذا السرد الفيلمي وما اعتراه من اضطراب رقيق خفي وناعم وساحر، يجعلك تدرك أن هذه السيدة المتظاهرة بالقوة والثبات تشبثت برأيها ودفاعها عن فكرة حالمة في رؤاها، قاسية في تطبيقها، هل وجه المخرج للمتلقي بشكل مباشر أن الفكرة خاطئة؟ لا، كون الأحكام على لسان الشخصيات تفاوتت بشكل طفيف والفيصل فيها مشروعية التعبير عن الحزن ومدى التماهي معه وإن جاء على هيئة منام .
فكانت النهاية فيضانا لتلك المشاعر المكبوتة من خلال مشهد بديع بعد أداء تلك الرقصة.
تدخل (زين) غرفة فقيدها (علي) في حركة جسد اندفاعية وسريعة، تستعيد رائحته وهي تحتضن ملابسه، فراش سريره، اشياءه الصغيرة، ثم تطلق بركانا من الآهات يصحبه بكاء مرير وحشرجة الأمومة المبكية من جوف ينزف قهرا ووجعا كان مختفيا في أعماقها.
مشهد قصير نقل مشاعر ظلت محبوسة في زنزانة الروح لأسابيع مضت حتى سددت في النعش المسمار الأخير، بيد أن لحظة الإفراج عنها تصاعدت معها نغمات موسيقى تصويرية لا تتلاءم مع اللحظة الانفعالية الحساسة، لوهلة تشعر بالاغتراب من موسيقى عالية الصدى ومزعجة في انتقالها من طبقة إلى طبقة. لكن رغم نفورك منها تدرك أنها تستدعي الانتباه إلى لحظة المنتهى، منتهى الانهيار، منتهى الفقد، منتهى الفاجعة، وفي هذا ايضاً اختفاء الأدوات السينمائية التي تغذي بكلاسيكياتها درامية اللحظة.
الترنيمة الأخيرة:
ينتهي الفيلم كما بدأ بمنظور بانورامي للقرية الهادئة في خارجها، الضائعة في ضباب مغبر لا تعقل فيه من الداخل، ثم تبدأ موسيقى الفيلم البديعة مع تتر النهاية موسيقى توشي بفقدان الأمل توشي بخداع الأوهام توشي عن الحزن حين نرعاه يوماً بعد يوم ثم نلفه في طرد محمي ونضع عليه ملصق يقول: احترس.. قابل للكسر!