رامي عبد الرازق: هل السينما اختراع رباني؟

لقطة من فيلم "الحياة اللذيذة" لقطة من فيلم "الحياة اللذيذة"

على الرغم من أنني شخص أرق إلا ان النوم كان يمثل بالنسبة لي دوما تذكرة مجانية لمشاهدة فيلم مختلف كل ليلة، ففي رأيي ان السينما اختراع رباني قديم قدم البشرية الأولى. ورغم أنها لم تظهر إلى الوجود بشكل ملموس سوى منذ مئة عام وقليل إلا ان كل البشر تقريبا منذ فجر الخليقة قد مارسوا فعل المشاهدة السينمائية لمئات وربما آلاف المرات من خلال الأحلام.

عندما كنت صغيرا كنت اسأل نفسي دوما لماذا نحلم؟ لماذا اختار الله لنا تلك الوسيلة الممتعة لقضاء ساعات الليل؟ ألم يكن من الممكن ان نغمض اعيننا في المساء ونفتحها في الصباح دون أن نشعر بمرور الوقت ودون أن نشاهد او نعي شيئا، لماذا قيل على النوم الميتة الصغرى رغم ذلك الدعاء الأثير الذي كانت امي تلقنني اياه دوما (اللهم ان اخذت نفسي فأرحمها وإن ارسلتها فاحفظها) وكنت افهم معنى ان اخذت نفسي أي قبضت روحي ولكن ماذا تعني “إن ارسلتها”؟ ارسلتها إلى أين؟!

ان الأحلام بالنسبة لي هي اكبر وأهم دليل على “وجودية” السينما وارتباطها العضوي والنفسي والذهني بحياة البشر. وهذا التصور بالطبع لم ينضج إلا بمرور الوقت ومدوامة التفكير في هذا العالم الغريب. ولهذا فإن ما قدمه الأخوان لوميير إلى الدنيا من قدرة على تجسيد هذه الاحلام وإخراجها من شاشة الذهن إلى شاشة العرض هو نقطة تحول في تاريخ البشرية كلها لا يجب ولا يمكن أن ننساها ابدا. السينما ان نشاهد حلما بشكل جماعي.

 اذكر انني شاهدت يوما فيلما تسجيليا عن فيلليني في التليفزيون المصري! وهو امر غريب جدا ان تشاهد فيلما عن فيلليني في التليفزيون ولكن كان هذا منذ سنوات طويلة. لم اكن اعلم من هو فيلليني ولكن ابي قال لي انه مخرج ايطالي شهير وكان الفيلم يحتوي على لقاءات مع مارشيللو ماستورياني وصوفيا لورين وقالت لي امي وقتها انهم من اشهر واهم الممثلين الأيطالين وانها شاهدت لهم افلاما كثيرة.

https://www.youtube.com/watch?v=5YJJ6Vmsu68

كان الفيلم مملا بالنسبة لطفل صغير ولكن شيئا ما استوقفني في حديث فيلليني عن المادة البصرية والحكائية التي كانت تمده  بالصور والحكايات عبر الاحلام. أذكر مشهدا من الفيلم تتحسس فيه يد كفيفة حائطا خشنا بينما صوت فيلليني يتحدث عن علاقته بروما.

بعد ذلك بسنوات عندما بدأت في محاولة كتابة بعض السيناريوهات طلب مني المخرج اكرم فريد أن اكتب له سيناريو فيلم قصير عن فكرة ملخصها ان شابا وفتاة يجلسان متجاورين في احد الحدائق العامة ويتحدثان لفترة طويلة وتبدأ بينهما ملامح اعجاب او تعلق عاطفي ولكن في النهاية نكتشف ان كلاهما كفيف.

كان التحدي الدرامي هو المحافظة على تلك المفاجأة طوال الوقت سواء على مستوى الشخصيات أو على مستوى التلقي. وجلست لساعات افكر في كيفية الخروج من مأزق الحديث عن شئ ما دون ان تبوح شخصية لاخرى أو للمشاهد بطبيعة عاهتها البصرية ووجدتني اتوقف امام الذكرى الباهتة التي تركها فلليني في رأسي حيث تحدث عن الاحلام واستعدت تلك اللقطة الغامضة عن اليد الكفيفة التي تتحسس حائط خشن وبشكل تلقائي قمت بربطها مع الحقيقة العلمية التي تقول أن الشئ الوحيد الذي يشاهده فاقدي البصر هو “الأحلام” ( انها السينما الربانية الخاصة والخالصة) وبالتالي فإن حديث شخصيات الفيلم عن الأحلام وهي شئ بصري جدا لا يمكن بأي حال أن يجعل الشك يتسرب إلى نفوسهم او نفوس المشاهدين حتى اللقطة الأخيرة!

وكتبت السيناريو منطلقا من تلك الفكرة وأسميته الغروب وهي اشارة بصرية اخرى لها علاقة مباشرة بالنور واللون والظل وتمثل التوقيت القصير الذي تستغرقه عملية التعارف والمقاربة بين الشخصيات وكأنها لحظة حلم اخرى يمكن أن يعثر فيها كل منهم على تؤم روحه لكنه يخسره بسبب خوفه الداخلي من عاهته.

حقق السيناريو الاثر النفسي والوجداني المطلوب منه على مدار سنوات من قراءته رغم تأجيل تنفيذه عدة مرات إلى أن استأذنت اكرم في اعطائه لمخرجه شابة تدعي سارة شلباية ليكون مشروع تخرجها من الاكاديمية الدولية لعلوم الأعلام حيث كانت في الدفعة الأولى من خريجي قسم السينما بالاكاديمية وقامت بتصوير الفيلم بكاميرا 35 مم. وأذكر أن دور الشاب الكفيف تم اسناده للممثل اشرف مصيلحي ولكنني لا اذكر الممثلة التي قامت بدور الفتاة الكفيفة. وقد حصلت سارة على تقدير امتياز عن هذا المشروع الذي لم اشاهده حتى الأن.

وبعد سنوات اخرى تصادف أنني كنت في لجنة تحكيم الدورة السادسة عشرة لمهرجان الإعلام العربي، والتقيت بالدكتورة نجوى محروس العميدة السابقة للمعهد العالي للسينما، وبينما كنا نتبادل المعلومات للتعارف تحدثتُ بشكل عابر عن هذا السيناريو فوجدتها تذكره بالتفصيل وتشيد به وتعتبره واحدا من اجمل المشروعات التي اشرفت على تنفيذها أثناء انتدابها للأشراف على مشاريع التخرج في الاكاديمية الدولية ساعتها شعرت بحنين شديد للذكريات الأولى عن السينما والاحلام والتي تطمسها تدريجيا الوقائع الجامدة والميتة للحياة اليومية.

يقول هتشكوك: إن السينما هي الحياة إذا اقتطعت منها اللحظات المملة.

 واظننا يمكن ان نكمل العبارة بقولنا “اذا اقتطعت منها اللحظات المملة واضيفت اليها الأحلام”!

الفيلم الاول

(في حياة كلمنا وهم كبير اسمه الفيلم الأول.. لا تصدق هذا الوهم ففيلمك الاول هو فيلمك الأخير).

هكذا كنت اتندر دائما مستلهما روح الجملة الشهيرة التي كتبها احسان عبد القدوس في مقدمة قصة الوسادة الخالية. ولم اكن اقصد بهذه السخرية الفيلم الأول في الكتابة ولكن الفيلم الاول في المشاهدة.

فرغم انني اذكر عشرات الأفلام التي شاهدتها وانا في سن صغيرة إلا انني لا اذكر الفيلم الاول الذي شاهدته لأول مرة في دار العرض او السينما كما نقول! وبعد سنوات من الاستغراق في المشاهدة والذهاب إليها الآف المرات أجد أن العبارة الساخرة التي كنت اصوغها بلا مبالاة تتبلور تدريجيا في داخلي متخذة منحى فلسفيا شيقا. فالفيلم حالة خاصة جدا وكيان قائم بذاته هو حلم وحقيقة، خيال وواقع، رؤيا وفكرة وحالة مختلفة وبالتالي كل فيلم جيد نشاهده هو في الحقيقة فيلمنا الاول فلا يوجد فيلم يشبه فيلما، كما (لا توجد قصة تشبه قصةولا فكرة تشبه فكرة ولا لحظة تشبه لحظة ولا حبة رمل تشبه حبة رمل) والجملة التي بين الأقواس مقتبسة من حوار فيلم حتى نلتقى للكاتب الرائع يوسف عز الدين عيسى على لسان عماد حمدي لفاتن حمامة.

انت لا تستحم في نفس النهر مرتين ولا تشاهد نفس الفيلم نوبتين. ففي كل مرة هناك شيئ ما جديد يحدث في داخلك او في داخله.

اذكر ان والدي رغم وجود الفيديو لدينا منذ سنوات مبكرة إلا أن الذهاب إلى السينما شهريا كان مسألة محببة ومفروغ منها بالنسبة لهما. وكان ابي رحمه الله يتطوع دائما بالحديث عن تاريخ دور العرض التي يصطحبنا إليها تماما كما ذكرت من قبل تطوعه بالحديث عن خلفيات الأفلام واسماء الممثلين وتاريخهم.

في هذه السن المبكرة ورد على سمعي اسماء سينما ريالتو وكولومبيا واولمبيا وسينما سهير و”سيما مصر” ولست اذكر لماذا كان يصر على حذف النون بالذات عندما يقرن كلمة سينما بمصر والحفاظ عليها في اسماء باقي السينمات. وبالطبع سينما مترو وريفولي وراديو. كان ابي عندما يشاهد فيلما في التليفزيون يقول لي لقد شاهدت هذا الفيلم سنة كذا في سينما كذا وكانت التذكرة وقتها بكذا او ينظر إلى امي ويقول لها (فاكرة لما شفنا الفيلم ده سنة كذا في اول عرض له ايام ما كنا مخطوبين ؟)

كانت السينما جزءا مهما واساسيا من حديث الأسرة اليومي رغم أن والدي لم يكونا من ممارسيها ولكن فقط من محبيها والشغوفين بها. والغريب أنني الأن عندما اشاهد أيا من الأفلام “عبر الدش” التي سبق وأن شاهدتها في السينما اجدني اقول لمن حولي ايا كان: لقد شاهدت هذا الفيلم في السينما سنة كذا تماما كما كان ابي رحمه الله يفعل، فهل التباهي بمشاهده الأفلام مسألة جينية أم هي سلوك اجتماعي متوارث لدى محبي هذا الفن وإن كنت اضيف الأن على تلك الجملة الخالدة بحكم عملي (اني شاهدت هذا الفيلم في السينما وكتبت عنه كمان سنة ما عُرض).

كنا نسكن وقتها في شارع احمد سعيد بالعباسية ونمر يوميا بالسيارة امام سينما سهير و”سيما” مصر في شارع الجيش وكانت تلك السينمات قد صارت او لعلها كانت دائما من سينمات الدرجة الثالثة ولم يكن ابي يصطحبنا لها بالطبع ولكنه كان دائم الحديث عنها كجزء اساسي من ذكرياته وعلاقته بالسينما في سنواته الاولى.

اما السينما المفضلة لدى الأسرة فكانت سينما مترو وتليها سينما حديقة النصر الصيفي التي كانت تعرض ثلاثة افلام في برنامج واحد والتي تربى بداخلها أجيال من السينمائين اسعد حين اتخيل أنني قد أكون جلست في مقعد سبق لاي منهم الجلوس فيه وان لم تكن سينما حديقة النصر تحتوي على مقاعد ولكن دكك خشبية طويلة جدا ومدرجة بشكل نصف دائري.

تراودني من ذكريات الشغف الأول بالمشاهدة تلك الشرفة التي كانت تطل من احد البيوت القديمة على شاشة السينما وكانت اسرتي تتحدث عن ان ساكني تلك الشقة ومستخدمي الشرفة لديهم خاصية مميزة جدا وهي المشاهدة اليومية للأفلام مجانا وكانت امي تعترض دوما على ذلك بأنه من الممل جدا ان تظل تشاهد نفس الأفلام كل يوم طوال فترة عرض البروجرام الأسبوعي او الشهري للسينما. وأذكر ان في احد افلام محمد خان لعله “احلام هند وكامليا” او ربما فيلم اخر قام بتجسيد هذا الهاجس ام تراه كان فيلم “حلق حوش” بطولة هنيدي وليلى علوى وعلاء ولي الدين عندما كانوا يسكنون في سطح احد البيوت امام السينما ويتأثرون بمشاهدة الأفلام. كنت اتصور نفسي اسكن في تلك الشرفة القديمة واشاهد الأفلام ليل نهار على الشاشة القماشية الكبيرة وبعد ذلك بسنوات شاهدت ما فعله عامل السينما الفريدو في فيلم “سينما باراديزو” لتورناتورى عندما حرك عدسة آلة العرض وجعلها تعرض للجمهور في الشارع على جدران احد البيوت. يا إلهي ان السينما لم تترك هاجسا وإلا واقتنصته من فضاء الذهن واعادة تخليقه على الشاشة!

كان ابي وامي يحرصان على ان يعيدا احياء ذكرياتهما الأسرية عن السينما من خلال دخولنا المتكرر لسينما حديقة النصر حيث كنا نذهب في صحبة اسرة تعادلنا عددا من جيراننا في العمارة ويقوم الوالدان (والدي ووالدا جيراني) بشراء كمية من السميط والبيض المسلوق والدقة من احد الباعة خارج السينما ونجلس في الداخل لنأكل ونحن نشاهد احد الأفلام الهندية التي كانت جزءا اساسيا من اي بروجرام في السينمات متعددة الأفلام.

من فيلم “غزل البنات”

وكان الجيل الاول (والدي ووالدي جيراني) يتحدثون عن ذكرياتهم مع المشاهدة السينمائية وأكل السميط والدقة وهم صغار وقد تذكرت جزءا مهما جدا من تلك الاحاديث وانا اقرأ كتاب الناقد امير العمري “شخصيات وافلام من عصر السينما” وخاصة الفصول الأولى التي كنت اشعر أن ابي هو من يرويها.

اما سينما مترو فأتصور أنها أول دار عرض أدخلها في حياتي الواعية على الأقل وكان ابي يحكي لنا دوما عن نادرة لا يفتأ ولا يمل من تكرارها كلما ذهبنا إليها وهي أنها كانت تحتوي في الأربعينيات أو الخمسينيات لا اذكر على اقوى جهاز تكييف “مركزي” في دار عرض، وأن الناس كانت تدخل إلى سينما مترو “زمان” قبل انتشار المكيفات المنزلية لتروح عن نفسها في الصيف وفي الظهيرة وتأخد “تعسيلة” او “تقيل شوية” وان احد الشخصيات المرموقة سياسيا في وقت ما قديما كان عندما يبحثون عنه ولا يجدونه في مكتبه يذهبون ليجدوه نائما في احد مقاعد سينما مترو في التكييف.

ولست ادري الان هل كانت تلك النوادر حقيقية أم ترسبات خيالية من تلك الصورة النمطية الكلاسيكية التي شاهدناها كثيرا عن المشاهد النائم الذي يغط في تعسيلة رائعة داخل احد دور العرض اثناء الفيلم وبجانبه البطل يشكو من شخيره او يستغل نومه لتقبيل حبيبته في الظلام!

خايفه على رامي من هياتم

 كما راكمت السينما والأفلام في رأسي عشرات الخيالات المرعبة طوال سنوات طفولتي الاولى كان لها الفضل ايضا في الكثير من اكتشافات سنوات البلوغ وحركة المشاعر وعناصر الشهوة البكر اللذيذة والغامضة.

لم اكن قد بلغت بعد بداية سنوات المراهقة المبكرة او حتى البلوغ البيولوجي عندما بدأت اتنبه إلى حرص امي المستمر على تجنب مشاهدة بعض المشاهد او افلام بعينها. واذكر ان اول تعليق ينبهني لاهمية أو خطورة هذه المشاهد من وجهة نظر امي وبالتالي يثير فضولي إلى اقصاه عندما كنا نشاهد فيلما في السينما في صحبة مجموعة من اصدقاء الأسرة. وعندما خرجنا سمعت امي تقول لصديقتها (انا كنت خايفة على رامي من هياتم) وهياتم هي الراقصة الشهيرة التي تحولت إلى ممثلة اغراء معروفة بكميات اللحم الابيض خلال افلام الثمانينيات وجزء من التسعينيات.

ظل التعليق يدور في رأسي ليلة كاملة. لماذا كانت امي تخشي على من هياتم؟ الغريب انني لا اذكر اسم الفيلم ولا اذكر هياتم في هذا الفيلم على الأطلاق بل اتصور ان هذا الفيلم كان فيلم “احترس من الخط” بطولة عادل امام واخراج سمير سيف وكان احد اشهر الأفلام الكوميدية التي حققت نجاحا كبيرا في الثمانينيات، وكانت هناك ممثلة ربما تشبه هياتم تقدم مشهد اغراء يتلخص في انها تنزل من السيارة فتركز الكاميرا في لقطة قريبة على ركبتها وسمانة رجلها وتذهب للتحدث بدلال مع احد شخصيات الفيلم وفي المشهد التالي ترتدي هذه المراة ” الهياتمية” المجهولة ملابس داخلية سوداء تكشف عن ثنيات من لحمها وهي ترقص لهذه الرجل الذي التقته في المشهد السابق لتحصل منه في النهاية على اوراق او معلومات تدين سمير صبري الذي كان الخصم الدرامي لعادل امام في الفيلم.

لو ان امي كانت تظن ان هذه الممثلة هي هياتم فأظن انه كان لديها الكثير من الحق في التخوف من هذه الهياتم علي” كطفل” يتشكل وعيه تدريجيا من خلال مشاهداته او كما كنت احب ان اتندر عندما كبرت قليلا وصرت ادرك مغزى هذا الخوف انها – اي امي- كان يجب أن تخاف على هذه الهياتم مني.

في الحقيقة اتصور ان هذا المشهد لو اضفنا له مشهد الفتاة القربان في فيلم “الوصايا العشر” يمكن ان يعتبر بداية علاقتي بالجانب الحسي في السينما.

صحيح ان هذا الجانب لم يكن مؤثرا في علاقتي بالافلام خصوصا في سنوات المراهقة ولكن هذا لا يمنع ان ذلك الجانب من الأفلام شغلني كثيرا في عشرات المشاهدات خصوصا مع حالة الرقابة المنزلية التي كانت امي تمارسها علينا في البيت.

من فيلم “المذنبون”

كانت اشهر حوادثي للتخلص من اسر هذه الرقابة والأنفتاح على هذا العالم المحرم هو محاولتي العثور على نسخة فيلم “المذنبون” الأصلية التي كنا نمتلكها على شريط فيديو.

لم يكن ابي وامي من هواة تجميع الأفلام ولكن كانت هناك بعض الشرائط التي كانوا يحصلون منها على نسخ كهدية او تقوم أمي بتسجيلها من التليفزيون لإعادة مشاهدتها مرة أخرى، وكان اشهر الافلام الموجودة لدينا هي نسخة فيلم الازمة الرقابية “المذنبون” بطولة حسين فهمي وسهير رمزي وإخراج سعيد مرزوق ونسخة فيلم “غريب في بيتي” بطولة نور الشريف وسعاد حسني وهياتم (هياتم مرة أخرى) وإخراج سمير سيف ويبدو أن وجود هياتم في هذا الفيلم كان – ولا يزال – مصدر قلق لأمي على اعصابي ومشاعري الذكورية رغم أنني اعترفت لها بأن هذه الممثلة او الراقصة لم ولن تمثل اي جزء من تخيلاتي الحسية عن السينما او النساء.

اما الأفلام التي كنا نقوم بتسجيلها من التليفزيون فاذكر منها فيلمين الاول هو “لص بغداد” وهو فيلم خيالي كلاسيكي شديد السحر والطرافة يستلهم قصص الف ليلة وليلة عن البساط الطائر والمصباح السحري ولا اذكر الان مخرجه والثاني هو الفيلم الأستعراضي “زانادو” المأخوذ عن القصيدة الشهيرة (في زنادوا قرر قوبلاي خان بناء قبة للذة) والذي يقال انه اخر افلام الممثل والراقص جين كيلي امام المطربة اوليفيا نيوتن جون وهو الفيلم الذي قامت امي بتسجيله على نسخة ” غريب في بيتي” الأصلية للتخلص من هياتم إلى الابد.

واثناء بحثي المشبوب في فترة الإجازة الصيفية للعثور على فيلم “المذنبون” ايقنت حجم التخوف الذي كان يرواد امي في تلك الفترة من حياتي حيث وجدت النسخة ملفوفة بقطعة قماش معقودة باحكام ومدفونة اسفل ملابسها القديمة في قاع الدولاب الكبير.

فيما بعد سوف اتعرف على المعلومة التي تقول أن جزءا كبيرا من الوجدان الجنسي لدى الأطفال يتشكل في فترات مبكرة جدا ربما ما بين سني الثالثة والخامسة وان مشاهدات الاطفال لممارسات معينة او مشاهد جنسية عابرة تترسب في لاوعيهم ويمكن ان تؤدي لبعض العقد النفس/ جنسية التي يعانون منها كمراهقين أو ناضجين فيما بعد.

لست اذكر كم كان عمري وقتها ولكني كنت على وشك البلوغ البيولوجي وبالتالي كان تأثير مشاهدة سهير رمزي وهي تتلوى بشبق في احضان كمال الشناوي ونصف صدرها العاري يطل من قميص النوم الذي ترتديه لا شك تأثير سئ وسلبي جدا فهذا النوع من الأفلام تصنيفه العمري للناضجين او للكبار فقط ومشاهدته دون السن المناسبة مؤذي شعوريا وفكريا بالفعل.

هكذا ساهمت السينما في اكتشافي لهذا العالم الغامض بكل حسيته وافكاره ومشاعره الغريبة والحارقة، اكتشاف غير مباشر لكنه صادم خصوصا مع تفتح الفضول الهرموني في تلك الفترة والذي يدفع الأنسان للتساؤل ومحاولة البحث والعثور على الحقيقة من وراء كلما يستجد عليه ليهدأ.

واذكر ان المرة الاولى التي شاهدت فيها فيلم “ابن النيل” ليوسف شاهين وفي المشهد الذي من المفترض ان شكري سرحان يختلي فيه بفاتن حمامة ليقعا في الخطيئة تصورت ان السبب في حمل الفتاة الريفية الصغيرة هو”قبلة” من الفلاح المعجباني بطاقيته التي تسقط على نصف رأسه الخلفي ونظرته الذكورية الخارقة. وقد سألت أمي في هذا الوقت عما حدث لكي تحمل الفتاة ولكنني لا اذكر بما جاوبتني وان ظلت فكرة “القبلة التي تحمل طفلا ” هي المسيطرة علي.

فيما بعد سوف اضحك كثيرا عندما اشاهد مشهدا من فيلم “حب البنات” من تأليف تامر حبيب واخراج خالد الحجر تتحدث فيه احدي الفتيات عن تصورها وهي صغيرة أن الرجل بمجرد أن يقبل المراة “تحمل على طول”ويعاودني الشعور أن الأفلام لم تترك حتى الخواطر الأولية الساذجة دون ان ترصدها وتقتنصها في مشهد او جملة حوار.  

Visited 121 times, 1 visit(s) today