ذكريات مسيرة عطاء حافلة للناقد السينمائي سمير فريد الذي غادرنا
يشق عليّ كثيرا أن أنعى صديقا وأخا ورفيق درب ارتبطت معه بعلاقة طويلة ممتدة منذ السبعينات، اتفقنا كثيرا واختلفنا قليلا، لكن حبل الود لم ينقطع رغم تباعد المسافات. كان سمير فريد الذي فقدناه بعد صراع طويل مع المرض ناقدا مؤسسا ترك تأثيرا كبيرا على الجيل الذي جاء من بعده إلى حقل النقد السينمائي في العالم العربي
.
كان الناقد السينمائي الكبير سمير فريد، الذي رحل مؤخرا عن عالما عن 73 عاما، صديقا قديما عزيزا، ورفيق درب تعرفت عليه في مرحلة الشباب المبكر، وقت أن كنت طالبا بالجامعة في السبعينات، عندما دعوته لكي يناقش أحد الأفلام التي كنا نعرضها في نادي السينما الذي أسسته وأدرته في الجامعة.
وقد خضت مع سمير الكثير من التجارب، منها إصدار مجلة فصلية باسم “السينما العربية”، في أواخر 1979، لم يقدر أن يصدر منها سوى عددين فقط ثم توقفت. وقد نشرت في العدد الأول منها مقالا هجائيا نقديا شديد اللهجة ضد مهرجان القاهرة السينمائي بعنوان “هؤلاء النقاد العظام ومهرجاناتهم الدولية”. وكانت “جمعية كتاب ونقاد السينما” وقتها هي التي تقيم المهرجان، ولم نكن في الجمعية الأخرى، التي ننتمي إليها وهي “جمعية نقاد السينما المصريين” ننظر إلى هذه الجمعية الأخرى، على محمل الجد، فقد كنا نعتبرها “الجمعية الرسمية” التابعة على نحو ما، للدولة، ولسلطة الوزير يوسف السباعي، وكانت تحظى بالتالي بكل أشكال الدعم والمساندة، ولم تكن تضم نقادا من الوزن الثقيل بعد بل صحفيين يكتبون التحقيقات والأحاديث، وتشغلهم أساسا، أخبار النجوم، وكانت تجمع بين الصحفيين السينمائيين وكتاب السيناريو، أو بين الذين يمارسون العملين معا، أي كتابة السيناريوهات في النهار، ثم نقد أفلام غيرهم في المساء!
المهم أننا تعاونا معا كثيرا جدا في جمعية نقاد السينما المصريين وقت أن كان سمير عضوا ناشطا فيها، بل إنه كان في الحقيقة، العضو الأكثر نشاطا في مجلس إدارتها، رغم أنه لم يتول أبدا، حسب علمي، رئاسة الجمعية. وكنت أتردد عليه في منزله كثيرا، حيث تعرفت على زوجته الفاضلة وولديه: حسن ومحمد وهما بعد طفلان صغيران. وكنا أحيانا نسير، سمير وأنا وآخرون، من ميدان الأوبرا بعد عروض نادي السينما، لكي نكمل السهرة والمناقشات في شقة سمير فريد التي كانت تقع في شارع الجيش بالعباسية، قبل أن ينتقل قرب أواخر الثمانينيات إلى حي الزمالك.
وقد عقدنا الكثير من اللقاءات، وكنا نبحث ونناقش الكثير من القضايا السائدة، وكان يحضر معنا أحيانا رافت الميهي، وكمال رمزي، وعلي أبو شادي، ومحمد القليوبي، وعبد الفتاح الجمل. وكان سمير نشيطا، دءوبا، مثقفا، وكان نموذجيا، في حفظ الأوراق والقصاصات والمجلات ويحتفظ بأرشيف سينمائي رائع، للصور والمعلومات. وهو يمتلك أيضا مكتبة سينمائية عامرة. وكنت أستعين أحيانا بما لديه من كتب أو مجلات سينمائية كان يقتنيها خلال أسفاره العديدة إلى المهرجانات الدولية. وبشكل عام، كنا نتفق في نظرتنا إلى كثير من الأمور، سواء السياسية أم الثقافية. وكانت الدنيا وقتها لاتزال بخير، أي أن عالمنا كان عالم الفكر والكتابة والسينما، وكنا نصدر النشرات الفقيرة المطبوعة على “الاستنسل” من جمعية النقاد، (كما كان حال جمعية الفيلم ومعظم الجمعيات السينمائية باستثناء نادي السينما الذي كان يصدر نشرة مطبوعة على ورق الصحف الرخيص). وكنا راضين عن أنفسنا وعما نفعله، ولم تكن القنوات الفضائية قد ظهرت، ولا المجلات والصحف المستقلة بالعشرات كما هو الحال الآن، ولم تكن المناصب الرسمية في وزارة الثقافة تغوي أحدا، بل وحتى علي أبو شادي، الذي كان موظفا في هيئة “الثقافة الجماهيرية” (التي أصبح اسمها فيما بعد “الهيئة العامة لقصور الثقافة”) كان يبدو أن ولاءه الأكبر وقتذاك، لقضية الثقافة وللمثقفين، وليس لطبقة الموظفين.
وعندما أصدر سمير فريد في التسعينيات مجلة فصلية أخرى باسم “السينما والتاريخ”، ساهمت معه عن بعد، فقد كنت مقيما في لندن، بعدد من المقالات والدراسات. وكان سمير يقدر ذلك، وكانت صداقتنا متينة، وكنا نقضي معا أوقاتا ممتعة في المهرجانات الدولية التي كانت تجمعنا مع غيرنا من الأصدقاء مثل قصي صالح الدرويش وغسان عبد الخالق وعرفان رشيد، حيث كنا نلتقي في مهرجان فينيسيا تحديدا الذي بدأت أتردد عليه منذ عام 1986. وكنا كثيرا ما نتناول العشاء معا، ونتبادل الآراء والأفكار حول الأفلام الجديدة.
تعرض سمير فريد في فترة من الفترات للهجوم من جانب، كانوا ينتقدنه، ربما بدافع الغيرة من توليه مناصب ومهام عديدة متشعبة في عدد من المواقع الفاعلة في مجال الثقافة السينمائية في مصر. لكن الهجوم الأكبر الذي ناله حدث بعد توليه رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي، شأن كل من تولوا هذا المنصب تحديدا (خارج جمعية أصحاب المصالح)، ففي الصحافة المصرية الكثير ممن يتربصون بكل من يحاول عمل شئ ناجح لتدميره وهدمه طالما أنهم ليسوا جزءا منه، أي حسب منطق الانتفاع والارتزاق، وقد بلغ الأمر حد التشكيك في ذمته المالية وهو ما لم يحدث بالتأكيد، وقد نفى وزير الثقافة في ذلك الوقت، الدكتور جار عصفور أن يكون سمير قد ارتكب أي تجاوزات لكنه- للمفارقة- رفض إصدار بيان رسمي من الوزارة يبرئ ساحته مما دفع سمير إلى الاستقالة من رئاسة المهرجان.
أصدر سمير فريد عشرات الكتب التي يعتبر كثير منها مراجع حقيقية ومصادر مهمة في الاطلاع على تاريخ السينما المصرية والعربية، وكان مشروعه النقدي الذي بدأه في منتصف الستينات من القرن الماضي واستمر لعقود، يتلخص في ضرورة أن يصبح النقد السينمائي مثل نقد المسرح والأدب والفن التشكيلي، أي علم وفن له اصوله واحترامه في الأوساط الأدبية. وكان دفاعه الحار عن السينما المصرية ثابتا وإن اتخذ أحيانا صيغة المبالغة في التقدير والتغاضي عن بع العيوب والسقطات الفنية، فقد كان مؤمنا بأن الموقف الإيجابي قد يساعد السينمائي أكثر على تجاوز نفسه وتكوير قدراته ورؤاه.
ورغم كل ما حققه سمير فريد من انجازات ونجاح كبير بلغ حد النجومية في مجال العمل السينمائي على مستوى العالم العربي كله، إلا أنه لم يكن على ما يبدو، راضيا تماما أو سعيدا بالمكانة التي وصل إليها، فقد كان لديه إيمان عميق بأنه، وهو الرائد الذي بدأ مع ثلاثة نقاد آخرين مثل فتحي فرج وصبحي شفيق وسامي السلاموني، في شق طريق جديد في النقد السينمائي يقوم على التحليل العلمي وليس على الانطباعات الصحفية السريعة، كان يستحق وضعا أفضل ليس من أجل نفسه تحديدا، ولكن خدمة للسينما المصرية والعربية وتحقيقا لترسيخ الطابع “الثقافي” للنقد السينمائي ولعمل الناقد.
شهد سمير رحيل عدد من أبرز أصدقائه مثل فتحي فرج ورأفت الميهي وعبد الحميد سعيد ومحمد القليوبي وسمير نصري وغسان عبد الخالق وقصي درويش.
كنت ألتقي مع سمير بشكل دائم في مهرجان كان السينمائي، الذي لم ينقطع هو عن حضور دوراته لأكثر من 45 عاما. ولكنه سيغيب عنا في الدورة القادمة التي ستقام الشهر المقبل. والمؤكد أن “كان” لن يكون كما تعودنا بعد غياب سمير عن الساحة.
في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير جاء سمير لرؤيتي مع بعض الأصدقاء في محيط الأوبرا، وجلسنا وتحدثنا وكان كعادته متألقا. وكان أيضا قد حضر مناقشة كتابه الجديد وسك لفيف من المثقفين والأصدقاء على هامش المهرجان ولم أتمكن من الحضور حينها لأسباب شخصية بكل أسف. لكن جلستنا فيما بعد كانت توحي بأن سمير يقاوم بقوة المرض اللعين وأنه يمكن أن يعود إلينا مجددا يتمتع بذهنه النقي المتوقد وبتألقه العقلي كعادتنا به منذ أن عرفناه قل أكثر من أربعين سنة.
وكان ظهوره العلني الكبير في محفل دولي في فبراير الماضي بمهرجان برلين السينمائي حيث كرمه المهرجان بمنحه جائزة خاصة تقديرا لدوره عبر خمسين عاما في خدمة النقد السينمائي. وكنت حاضرا ضمن نخبة من نقاد السينما في العالم، منهم رئيس الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية كلاوس إيدر، وناقدة هوليوود ريبورتر ديبورا يونغ وناقد فاريتي جاي ويسبرغ، واحتفي به مدير المهرجان ديتر كوسليك وألقى كلمة في الإشادة بدوره في دعم المهرجان ودعم السينما العربية عبر سنين طويلة. كما كان ابنه الأصغر حسن حاضرا وكذلك زوجته السيدة منى، ولفيف من الأصدقاء.
وكان المرض اللعين قد اشتد عليه خلال الفترة الأخيرة، ولم يعد جسده يقدر على المقاومة وتحمل العلاج الكيماوي فاستسلم للقدر بعد صراع امتد لعدة أشهر منذ أن أعلن عن إصابته بسرطان الصدر في يوليو الماضي.
يبقى من مسيرة سمير فريد كل ما تركه لنا من كتب ومقالات ودراسات هامة كثيرة، وما رسخه من مفاهيم نقدية جديدة، ساهمت في تطوير علم النقد السينمائي، وكذلك تلاميذه الذين ساهم في تكوينهم والذين يواصلون مسيرته.
رحم الله سمير فريد ألف رحمة عزاؤنا أنه باق معنا بكل ما أنجزه عبر سنوات طويلة.