دلالاتُ الصورة عند المُخْرِج “محمد خان”: “الحرِّيف” نموذجًا
عمرو الرديني *
يُعد المخرج المصري الراحل “محمد خان” (1942-2016) أحد أهم مخرجي جيل الثمانينيات، حيث تميَّز عن رفاقه: “عاطف الطيِّب”، داود عبد السيِّد”، “خيري بشارة”، وغيرهم بأسلوبه الخاص، وبصمته الفريدة، فاستطاع من خلال حوالي 23 فيلمًا –شارك بكتابة القصة في 12 منهم- أن يصنع سينما واقعية جديدة غير تلك التي أسَّس لها المخرج الكبير “صلاح أبو سيف”، “خان” نزل إلى الشارع المصري، وانصهر بين الطبقات المُهمَّشة، فتناولتْ أعماله بصدق الواقع السياسي والاجتماعي المصري، مكوِّنًا تيار سينمائي جديد.. لينتج كلاسيكيات مختلفة تنضم بجدارة لكلاسيكيات الكبار، فتحصد الجوائز، وتُزاحم بثقةٍ في قائمة الأفضل في مائة عام من السينما..
وإنْ تأمَّلنا مشروعه السينمائي الناجح نجد الكثير من عناصر القوة، وجماليَّات الرؤية.. ولعل من أبرزها هو ما عنونَّا به تلك المقالة (دلالات الصورة)، فالصورة عند “خان” ليست مشاهد تتوالى وراء بعضها لتكتمل الحكاية فقط.. وإنما هي أداة هامة لاكتمال الرسالة، وتثبيت المعنى..
اللقطة عنده هي قطعة فسيفساء تصنع مع زميلاتها اللوحة الأُم، تُكمل ما سبقها، وتمهِّد لما بعدها.. تنير البصيرة، وتفتح للعقل مدارك جديدة.. الصورة لديه كلمة غير منطوقة، وجملة ليست مكتوبة.. تحوي إشارات وتأويلات عدَّة، وتثري العمل وتزيده قيمة وفنًّا..
وسأحاول هنا إلقاء الضوء على مَشهدين من أحد أهم أفلامه وهو فيلم (الحرِّيف) إنتاج عام 1983م، لنرى معًا كيف يمكن للمشاهد العادي أن يستخرج مِن تتابع الصور لدى “محمد خان” الكثير من الرسائل غير المُباشرة، والكلمات التي تختفي بين السطور..
في المشهدِ الأوَّل، ينزل “فارس” (عادل إمام) من عند “عزيزة” (زيزي مصطفى) زميلته -المطلَّقة- في ورشة الأحذية، بعد قضاء ليلة حمراء معها، بينما والدتها نائمة.. يُفاجيء بأحد المتسكِّعين، أو ربما المخمورين وهو يتقيَّأ ما في جوفه بجانب جدار!
((للصورة دلالة مُهمة في رصْدِ ما قد وصل إليه حال البطل من تدنِّي أخلاقي، وانزلاق مجتمعي نحو حياة بوهيمية تحكمها الشهوات، ويغلب عليها النزَق)).. يظل الرجل يتقيَّأ لثوانٍ طويلة، حتى يصل “عادل إمام” إلى نهاية الشارع الضيق ((لضيق المكان هنا دلالة على ضيق النفس))..
نلاحظ من الصورتين في (الدقيقة 20:35/ والدقيقة 20:44):
أنَّ الرجل المحني ثابت، بينما “فارس” هو الذي يتحرك مُبتعدًا، مفكِّرًا في حاله، لاعنًا حظه، راكلاً حجرًا في طريقه.. إلى أن يمضي تمامًا.. رُبَّما إلى حياةٍ أنظف، ودنيا أكثر رحابة.
في المشهد الثاني دلالة هامة لسير الأحداث، وشخصية البطل “فارس”، ونلاحظ من الصورتين في (الدقيقة 1:7:44/ والدقيقة 1:8:2) الآتي:
الصورة الأولى مِن مشهدٍ في نصف الفيلم الثاني، لـ”عادل إمام” وهو يَنزل مِن على سلم سطح العمارة التي يسكن فيه، بعد مشاهدته لمشاجرةٍ عنيفة لجارهِ في سكن السطوح “نجاح الموجي” وهو يضرب زوجته.. ينزل البطل على السلم ببطءٍ وأسى، ويركِّز المخرج على السلم الهابط لأسفل لبعض الوقت ((في دلالةٍ لمدى الإنسحاق الذي يعيشه البطل، ودلالة على أنه آخذ في الهبوط والإنزلاق إلى الهاوية))..
((ننظر هنا أيضًا إلى ألوان الصورتين: حيث الصورة الأولى يغلفها اللون الرمادي الدال على الفقر والحزن والكآبة، بينما الصورة الثانية ألوانها فاتحة تعبر عن الرغد))..
يتبع اللقطة لقطة أخرى مُباشرة -وهي تجسيد حي لما نقصده في حديثنا- حيث نشاهد في اللحظة التالية “عادل إمام” وهو يسير ناحية معرض السيَّارات الذي يمتلكه صديقه القديم، والذي كان يلعب معه الكرة في الماضي ويشاركه الحارة الفقيرة.
“عادل إمام” كان ينوي الدخول على حسب طلب صديقه منه في مقابلة سابقة لأنْ يعمل معه، وعلى حسب وعد “عادل إمام” له.. لكنه يقف أمام الباب في نفس اللحظة التي يجد فيها صديقه “فاروق يوسف” صاعدًا لأعلى حيث الدور العلوي الذي به المكتب، وزوجته الثريَّة.
((هنا دلالة أخرى عميقة لصعود “فاروق يوسف” في المجتمع، وإن كان بطريق غير شريف.. حيث يعمل في تهريب السيارات، وينجح في استغلال عصر الانفتاح أحسن استغلال)).
يمكن أن نخمِّن أنه لو كان “فارس” قد جاء في أي وقت آخر لكان دخل المعرض دون تردد -وهو ما سيفعله فيما بعد عندما يقرِّر العمل معه- لكن في تلك اللحظة تحديدًا، والتي أظهر فيها “محمد خان” بوضوح مدى الفارق بين الصديقين (إجتماعيًا وماديًّا)، خاصة بعد المشهد السابق.. وبعد أن ركَّز على السلم العلوي أيضًا قليلاً، وعلى صديقه وهو يصعد ويصعد بينما يقف “البطل” في مكانه بلا تقدم، هنا يقرِّر المضي وعدم الدخول، حيث استشعر مدى الفارق بينهما، ومدى الإهانة التي يحياها هو في قاع المجتمع!
- كاتب وأديب مصري