دلالات الحكي في فيلم “سارقة الكتب”
يتناول فيلم “سارقة الكتب” (2013) THE BOOK THIEF أحداثا وقعت في ثلاثينيات القرن الماضي، وبداية الحرب العالمية الثانية، وهو فيلم ليس حربيا بالمعنى المباشر.
اسم الفيلم لا يخلوا من اثارة، وما يتعلق بسرقة الكتب، وما تدل عليه الكتب من معنى ودلالة، وكذلك فبطلة الفيلم هي طفلة أقل من عمر المراهقة، أنيط لها دور مليء بالحيوية والحركة والفعل ورد الفعل، ولها حضور واسع من المساحة التعبيرية في الاداء، مع كبار الممثلين المرموقين، وان فكرة الحرب وفكرة الكتاب هي اختيارات لعناصر مشبعة بالقصدية والمعاني التي يحملها الفيلم.
هنا يبدو الاشتغال الرمزي على أهمية ودلالة الكتب التي هي أقرب الى الحياة منه الى الموت، وبوسيط تعبيري دافق، اتخذ الكتاب خصما مناقضا للحرب المنتجة للموت.
الفيلم يتناول قصة الطفلة ليزيل (صوفي نيلسي) التي يختفي أبوها، وتهرب امها اليسارية المطاردة من خشية النظام، لتستلمها موظفة الصليب الأحمر في الامم المتحدة، وتمنحها للتبني، لإحدى العوائل الفقيرة في بلدة اخرى من المانيا، وهي عائلة من اب حنون هانز (جيفري راش) الذي يمارس مهنة الطلاء وأم حادة هي روزا (اميلي واتسون)، اللذان احسنا تبنيها والتعامل معها بكل عناية واهتمام.
وليزيل طفلة جميلة ذكية جريئة لها حضور فاعل في حياتها، وللعوز الذي تعاني منه العائلة تضطر الام روزا الى غسيل وكي الملابس للأسر الغنية، وتكلف ليزيل بارسال وجلب هذه الملابس، وفي مشهد، تدخل منزل المحافظ وهي تجلب الثياب اذ يقع نظرها على اوسع مكتبة تثير فضولها بلقطة pan بان، وهي تستعرض ادراج الكتب، وانتباه زوجة المحافظ، التي تتعاطف مع رغبة ليزيل، بالاطلاع على الكتب وتناولها، هذه العائلة التي تتبنى ليزيل تعاني من قلق و قسوة تعامل القوات النازية ايضا، اذ يلجأ اليها شاب يهودي مريض يدعى ماكس خوفا من بطش القوات، فتقبل به وتخبئه في القبو، وتطعمه وتعتني به، وتتقرب اليه ليزيل ويتبادلان الكلام عن الكتب والقصص والحياة وعن هتلر.
ويستمر الاهتمام بروح المحبة والعناية، ولكن تتأزم الحالة النفسية للعائلة والمخاوف من بطش السلطة ان وجدت اليهودي ماكس مخبئا لديها، ويمكن تأشير بعض المشاهد الفيلمية التي نفذت بمهارة في انتاج المعنى الذي حققته فلسفة الفيلم ومنها:
مشاهد افتتاحية الفيلم، هنالك شخصية (صوت الموت) وهو يتحدث Voice over عن ما يحمله الفيلم من رسالة، مفادها ان، (لا احد يعيش الى الابد) ، وبما يجعلنا ندرك ان الموت شخصية فاعلة في الفيلم، وتسهم في طرح الافكار. وقد استخدم المخرج لقطات القطار باللون الداكن وهو يجوب مساحة بيضاء عريضة جدا من الثلوج، وبما يشكل ثنائية نافذة بالمعنى والدلالة السيميائية.
في مشهد غير مبرر، واثناء استلام عائلة هانز للطفلة ليزيل، وهي اذ تتناول الطعام بعد الترحيب بها، يطرق الباب رودي ابن الجيران يدعوها لمرافقته الى المدرسة، وهي للتو تدخل البلدة، وهنا بحاجة الى مشهد يسبقه، ولقطات تتناول رغبة ودعوة العائلة في تسجيلها بالمدرسة، قبل دعوة المرافقة.
في مشهد وسط الفيلم، فجأة تتجول القوات النازية في الازقة، وتقوم بتفتيش المنازل، فيدخل الضابط منزل هانز، ثم يدخل القبو يفتش عن الزوايا والاماكن، وفي مشاهد مثيرة من الترقب، مع ظهور لقطات لماكس المختبئ في القبو وهو يرتجف من الخوف والمرض، وفي لقطات قريبة، وبتقطيع متواز بين هيئة الضابط وبين وجه ماكس، في اثارة افق التوقع بالقاء القبض عليه، ولكن ينتهي التفتيش، ويخرج الضابط دون ان يعثر على ماكس، وبما اجاد المخرج التجسيد التعبيري المحكم لكسر التوقع، بعد ان ادركنا حالة التوتر والخوف في وجوه الابوين، التي لا تخرج عن الموت نهاية للمصير خوفا من السلطة.
في مشهد رحيل اسرة ليزيل الحقيقية يمرض اخوها الصغير ويموت في الطريق فيدفن في ذات المكان، وليزيل تأخذ الكتاب الذي سقط من يد حفار القبور، في اشارة الى حبها وتعلقها في الكتب منذ الصغر، الذي يقرأه هانز بعد حين، انه كتاب عن حفر القبور.
في مشهد كبير يتجمع الناس في ساحة كبيرة وهم يمسكون المشاعل المضيئة، فيما تشرف القوات النازية على عملية حرق الكتب التي تعتقدها مضرة وذات اثر تخريبي علي الشباب، وفي نهاية المشهد، بعد ان خمدت النار، وتحولت الى رماد، تحاول ليزيل في خلسة من سحب كتاب باق من المحرقة وتحتفظ به،
في مشهد لإحدى المرات التي تذهب فيها ليزيل الى منزل المحافظ، تتسلل عبر النافذة الى مكتبة المنزل لتسرق كتابا، تعتقده استعارة، على امل ارجاعه.
في مشهد على أحد جسور البلدة، ترافق ليزيل صديقها رودي وهو في شجار مع احد الصبية الذي يلقي بالكتاب في النهر، مما اضطر رودي راكضا الي ضفة النهر وفي مجازفة، مع ليزيل لاخراج الكتاب من مياه النهر، وفي لقطات مختلفة الحجوم والحركات التي جسدت، وكأن انقاذ الكتاب هو انقاذ الحياة و بما يحمل من دلالة.
في مشهد قصف قوات الحلفاء على المدينة وتدميرها، وقتل العديد من فيها، هناك لقطات تظهر فيها موت هانز وروزا واخرين وليزيل تخرج من الانقاض حية بعد ان غطتها الاتربة واثار القصف لتتفحص اجسادهما وبعيونها مغرورقة بالدموع، وبعدها تنظر الى كتاب تحت الانقاض فتمسكه وتحتفظ به، في دلالة لبداية جديدة بعد ان سقطت قوات هتلر.
_في مشهد عيد ميلاد ماكس داخل القبو وجلب الثلج من قبل ليزيل، كان اشتغاله اقل من الشكل الذي يمكن ان يحمل دلالة أكبر.
تكرر أكثر من مشهد لقاء ليزيل بماكس في القبو عن الكتب والقراءة والكلمات مفادها الحياة، وهو يسألها كيف الجو هناك، لمعرفة ما يمكن ان يجلب له الامان، فتجيبه مثلا، اليوم الشمس كمحارة فضية، وهو يتخيل المشهد من اجواء،
في مشهد يعبر عن نهايات الاحداث ودخول قوات الحلفاء، تظهر ليزيل وهي تتجول بين القوات والناس وتصيح بصوت عال متكرر باحثة عن (ماكس) ثم تجده وهو في حال افضل، وهي في عمر اكبر، وبمشاعر من الفرح والفوز واللقاء والامل،
في الفيلم لم نرى حربا مباشرة، وانما ثمة مشاهد لأجواء مرتبطة بالحرب، كمرور العجلات العسكرية، ومشهد نقل العوائل، ومشهد امساك مجاميع من اليهود ومشهد مطارتهم وهم في المنازل والمحال التجارية، ومشهد القصف، ولقطة ضرب ودفع هانز على الارض من قبل أحد الجنود، وكذلك لقطة دفع الطفلة ليزيل واسقاطها ارضا وجرح أطرافها.
ولكن ان الفيلم اشتغل على تحريك منظومة الحياة المناهضة للحرب، في شغف العيش ومعاناتها، فاظهر الوجدان، والقيم التي تتعاون بها الاسر، فهانزمثلا يتعامل مع جاره اليهودي بتعاون وسرية، بل ويدافع عنه والذي دفع بالقوات الى ارساله لجبهة القتال عقابا له، وكذلك ساعد على اختباء ماكس في قبو منزله وفاءا لابيه الذي اكرمه بموقف جميل وانقذ حياته يوما ما.
سجل الفيلم الكثير من المشاهد باشتغال بصري مدروس، بتصميم اللقطات وانواعها وحجومها وحركاتها الانسيابية، وملاحقة الاحداث والافعال الحيوية، وبتنفيذ لافت وحرفي، لاستخدام الاضاءة المتنوعة الاشكال والفضاءات، وبتباين حاد وهارموني بين الخافت والمضيء في رسم اللقطة وبيان التدفق البصري المثير لما يمكن الاهتمام به والانجذاب نحوه، وبوعي عال في فهم السيناريو وهوية الاشخاص وطبيعة الحكاية و ادوارهم والموضوع الذي تتناوله اللقطة او المشهد، وكذلك صناعة تكوينات بصرية مشبعة بالتفاصيل والمعنى سواء في مشاهد البداية وحركة القطار وسط الثلوج البيضاء او لقطات داخل القبو، او مشاهد كرة القدم في الازقة او نزول القوات العسكرية فيها، فضلا عن مشاهد النشيد الوطني في المدرسة، ومشاهد هجوم القوات على منازل ومحلات اليهود وتكسيرها والاعتداء عليهم.
هناك في الفيلم ادارة فنية ذكية بتامين وتنفيذ اجواء احداث وقعت في الثلاثينات، وما تتطلب من معالم تاريخية في ذلك الوقت، وديكورات وملابس واكسسوارات وعمليات مكياج وتسريحات الشعر وغيرها من الفضاءات.
لا يمكن المرور عابرا على التوظيف البارع للموسيقى التصويرية لأغلب المشاهد، من خلال تأليف مخصص للفيلم، يدرك معنى المشهد ويفهم ادوات الاداء وما يحمل من انفعال واحساس وحركة، وتناغم مرهف بين الصوت والصورة وبانسجام متفاعل بخلق ايقاع متدفق ابعد التلقي عن الملل.
يمكن الاشارة الى حرفية التمثيل التي سادت في هذا الفيلم، لدى هانز وروزا وبتلقائية عالية وثقافة اداء واع للحركة والتعبير والتجسيد، اما اداء الطفلة ليزيل فعلامة مثيرة وجديرة بالإعجاب لهذا الاستعداد النفسي والاسترخاء النابض بالسيطرة على تحريك المشاعر والانفعالات وبما ينم عن موهبة عالية مع تدريب منظم في الاداء، وحسن ادارة المخرج للممثلين.
يمكن الاشارة الى ان بداية الفيلم كانت شخصية الموت فاعلة لرسم الافكار والمصائر، اما نهايته فقد كانت مأساوية بمشهد القصف المدمر للحياة، وهناك ما يساعد على بناء فلسفة الفيلم، هي لغة الكتاب وتكرار اكثر من حالة ومشهد يتسيد فيها موضوع الكتاب وتداول قراءته في الملاجئ واثناء الغارات مع عزف الاكورديون في اشارة الى الثقافة والتفاهم والمعرفة والالفة والبحث عن الامان والاسترخاء والحياة المتصدية لآفة الحرب والموت، مع اشاعة العاطفة والمحبة والتعاون والتضحية وكتم الاسرار وغيرها، وكذلك ما بني من قصدية عالية باظهار ملاحقة اليهود ومعاناتهم واستهداف حياتهم، بما يدعو المتلقي للتعاطف معهم، مع التركيز على ايجابية شخصية ماكس اليهودي.
ولكن نعتقد انه من الافضل اضافة عدد من الشخصيات المتعددة الاعراق والاجناس وهي تحمل ذات الادوار والقضايا الانسانية، كي تصبح القضية الانسانية عامة، وليست خاصة باليهودي فقط.
ويمكن اثارة الاستفهام عن عمر البطلة ليزيل، لماذا بهذا العمر؟، وليس أكثر قليلا؟ ولماذا فعل السرقة؟ وهي لا تبيع كتابا، وليس هناك بيع وشراء، وانما هنالك قراءة؟ وهي التي تجاهر صديقها رودي بانها استعارة وليست سرقة، ولماذا تأخرت قبلة الوداع بينهما، الا بعد موته؟ ولماذا التركيز على ماكس دون غيره؟ ولماذا يهدي ماكس الى ليزيل دفترا فارغا ويوصيها: ستجديني في كلماتك، ولما لهذا القول من رمز ودلالة، ولماذا تحرق الكتب؟ ولماذا خلا الفيلم من الفتيات ومشاهد الحب والاغراء والغرام ومشاهد السياحة وغيرها؟ ولماذا الموت يظهر بطلا؟
فيلم “سارقة الكتب” أجاب عن بعض التساؤلات، واثار الاستفهام عن البعض الاخر، وكشف أن لغة الكلمات والثقافة والكتاب بروح المحبة والتفاعل الانساني هي الرد المناهض للغة الحرب والموت والدمار.