“دجاج بالبرقوق” أو السينما كما ينبغي أن تكون

من أجمل الأفلام التي يمكن أن تبقى طويلا في الذاكرة الفيلم الفرنسي “دجاح بالبرقوقPoulet aux prunes   فقد جاء من طرف مخرج ومخرجة، هما الإيرانية ماريان سوترابي، والفرنسي فنسنت بارونو، اللذان يعملان بالتآلف معا، فقد سبق لهما أن أدهشا جمهور السينما في العالم بفيلمهما “برسيبوليس” Persepolis  الذي عرض في مهرجان كان ولقي حفاوة كبيرة. أما “دجاج بالبرقوق” فهو أول فيلم روائي طويل تمثيلي للثنائي الموهوب، أي يظهر فيه ممثلون من لحم ودم، وليس من أفلام الرسوم والتحريك كما كان “برسيبوليس”.

ولاشك أن الفيلم يكشف عن الطاقات السينمائية التي كانت كامنة داخل خيال هذين المخرجين وهما يخرجان فيلما روائيا تمثيليا، ولكنها طاقة مشبعة بالخيال المستمد من الرسوم، كونهما أساسا، من الرسامين.


ورغم أن ماريان سوترابي قدمت في فيلمها السابق قصتها الشخصية في بلدها  الأصلي إيران في الفترة التي سبقت ثورة الخميني عام 1979 أي قبل أن تفر هي إلى فرنسا، إلا أنها في هذا الفيلم، تعتمد على رواية مصورة أصدرتها عام 2004 في فرنسا، لكنها تبتعد عن تجربة حياتها الشخصية المباشرة لكي تروي قصة، صحيح أنها ترتبط بشقيق جدها (والد أمها) بما سمعته عنه واستطاعت أن تجمعه من هنا ومن هناك ما أقاصيص وذكريات، إلا أنها تعرض لشخصيته بعد أن تضيف إليها من الكثير من خيالها الخاص عن تلك الفترة التي عاشها في ايران الثلاثينيات والأربعينيات الماضية، بما يجعل الفيلم مقبولا من جانب الجمهور في كل مكان، لأنه يقترب بالشخصية منا جميعا.

السينما السحرية
ينتمي فيلم “دجاج بالبرقوق” إلى تلك السينما التي يمكننا أن نطلق عليها “السينما السحرية” أي تلك السينما التي تقوم، ليس على سيناريو يخضع للتتابع المنطقي والحبكة الدرامية القوية التي تقبض على بنيان الفيلم، بل على بناء يعتمد أكثر، على التداعيات، على القفز بين الأزمنة، من الماضي الى الحاضر أو إلى المستقبل، والعودة الى الماضي، في سياق سردي متداخل، وليس صاعدا باستمرار نحو ذروة ما.

من حيث الخيال يقترب الفيلم من الواقعية السحرية التي تميز الكثير من الأعمال في سينما وأدب أمريكا اللاتينية، وهو أيضا قريب من عالم المخرج الإيطالي الأسطوري فيلليني، خاصة فيلمه الشهير “أماركورد” (ومعناها “إني أتذكر”)، من عالم حكايات قبل النوم التي ترويها الجدة لأحفادها من الأطفال من القصص الخرافية القديمة. وهو عمل يختلط فيه التأمل الشعري، بالسخرية والمرح، بالتطلع في نوستالجيا” مبرحة، الى الماضي، بالتعاطف المؤثر مع شخصية المبدع الفنان، وأزمته، وكيف يمكن أن يصبح الحب عاملا مدمرا له بعد أن يعجز عن التحقق من خلاله لسبب أو لآخر، وهنا يأتي موضوع الموت: الموت كشبح قائم طوال الوقت إلى جوار الحياة، نتذكره وننساه يوميا، نهمله، لكنه لا ينسانا، نخافه، لكننا قد نسخر منه دون أن يتركنا في حال سبيلنا أبدا.


إن الصور الموجودة في خيالنا عن شبح الموت “عزرائيل” (وهو اسمه الذي يتردد في الفيلم في اتساق مع الثقافة الاسلامية التي تنتمي اليها ساترابي) تتجسد في هذا الفيلم حيث يظهر عزرائيل كشخص غامض، لكنه يمتلك حكمة راسخة والكثير من القصص والحكايات ذات المغزى، يقص منها الكثير على بطلنا مما يسليه ويدخل السكينة على نفسه، وكلها قصص مليئة بالحكمة التي استمدها عزرائيل من وجوده الممتد في عمق الزمن. وعزرائيل ليس عجوزا منفرا مخيفا بل كائن له شكل مميز، لكنه ليس مرعبا. 
إن الرواي في هذا الفيلم هو عزرائيل نفسه، ويبدأ الفيلم بصوته وهو يروي لنا قصة ناصر علي خان- الذي كان فنانا موسيقيا تفوق على أقرانه في العزف على الكمان في بلاد فارس. هذا الرجل الذي نراه الآن بعد أن تقدم به العمر وهو يعود الى طهران، يسير في شوارعها فيلتقي امرأة ذات مسحة من جمال غير زائل، يوقفها ويناديها باسمها وهو “إيران” ويسألها إن كانت تتذكره، وعندما تنفي معرفتها به يبدو وقد تحطم قلبه الى الأبد.

نحن في طهران عام 1958، حيث يتردد ناصر على محلات بيع الآلات الموسيقية بحثا عن آلة كمان يعوض بها آلته التي خسرها بعد أن انكسرت لأسباب سيكشف لنا الفيلم عنها فيما بعد، أي بعد مرور زمن طويل من الأحداث، لكنه لا يعثر على الآلة المنشودة بل يتعرض للاحتيال من طرف بائع جشع يعود ناصر بعد أن يكتشف خدعته لكي يلقنه درسا قاسيا، ثم يتردد على أماكن تدخين الأفيون ربما لكي ينسى محنته التي تتمثل في عجزه كفنان عن الاستمرار في العزف وتأليف المقطوعات الموسيقية الخلابة، وعذابه كإنسان فشل في الزواج من الفتاة التي كان ومازال يحبها.


وفي “فلاش باك” طويل يعود الفيلم الى بداية علاقة ناصر علي خان بالفتاة، وهي ابنة ساعاتي في طهران، وكيف رفضه أبوها بسبب مهنته كعازف، ويروي لنا الفيلم أيضا تفاصيل تتعلق بالتناقضات داخل أسرة ناصر خان، كأسرة من الطبقة الوسطى الايرانية، الأم متسلطة، وشقيقه يلقى معاملة خاصة أفضل بسبب تفوقه في الدراسة، في حين لا ينجح ناصر سوى في الموسيقى، في الابداع الموسيقي ويلقى تقديرا كبيرا في أوساط هواة الفن في طهران، لكنه يفشل في اقناع الساعاتي بتزويجه ابنته الفاتنة التي تبادل ناصر الحب.

الهرب من الحياة
يقرر ناصر الانتحار فيغلق على نفسه باب غرفته، ويرقد على الفراش طالبا أن يأتيه الموت. وعندما يحضر عزرائيل مجسدا بالفعل، يشعر ناصر بالفزع الشديد منه، لكن عزرائيل يطمئنه بأن دوره لم يأت بعد. إن عزرائيل هنا يبدو رجلا مكلفا بمهمة، يحسب الأمور بدقة شديدة، ولا يبدو متعجلا للقيام بدوره، بل إنه يبدي الكثير من التعاطف مع ضحاياه.


القصص تتداخل، ومن داخل “الفلاش باك” ندخل في فلاش باك آخر، ومن قصة صغيرة الى قصة أخرى، ومن تفصيلة داخل تلك القصة الأخرى، ندلف الى قصة جديدة، لكن دون اضطراب، أو تناقض، ودون أن يفلت الإيقاع ولو مرة واحدة، فالفيلم بأكمله مصنوع بدقة الساعة السويسرية. والصور التي تظهر في حجم الشاشة العريضة (وهي مناسبة لموضوع الفيلم) هي صور تغلب عليها مسحة لونية خاصة تضفي جمالا وسحرا على المشاهد واللقطات، بل إن المخرجين يستخدمان أيضا، الرسوم المتحركة التي يعشقانها باعتبارها الفن الذي ينتميان إليه، لكي يعكسا من خلالها القصة التي يرويها عزرائيل لناصر

.

سر الدجاج
ناصر له زوجة تزوجها فقط إرضاء لوالدته، لكنه لم يحبها أبدا. وهي لا تفهمه ولا تبدي أي اهتمام بموهبته الموسيقية. وقد أنجب منها طفلتان. يصطحب واحدة منهما ذات يوم الى عرض من عروض الماريونيت أو العرائس في الشارع.. ولكن الطفلة الجميلة تصدق أن العرائس أشخاص حقيقيون، لكنه يأخذها الى ما وراء المنصة لكي ترى بنفسها كيف تتم الخدعة.

ناصر أيضا يهوى تناول الدجاج بالبرقوق. كانت أمه تطهيه له في الماضي. وتطهيه زوجته أيضا لكن دون نجاح يذكر. ورغم كونها تتفانى من أجله إلا أنه يرفضها، وعندما تلح عليه أن يترك الكمان لكي ينضم للأسرة عند تناول الطعام، يرفض أن يستجيب لها، فما يكون منها خاصة بعد أن يصارحها بنفوره منها، سوى أن تختطف الكمان منه وتحطمه، فيتحطم قلبه معه!

كون عزرائيل هو الذي يروي لنا قصة ناصر، يكفي لأن نعرف أن الفيلم سينتهي بموت البطل. لكن النهاية ليست هي المهمة، فالأحداث والمشاهد تكمل بعضها البعض بحيث يمكن أن يكون الموت، استمرارا لحياة أخرى أفضل، فالفيلم ليس من تلك الأفلام المأساوية، بل يتميز بطابعه المرح، وفلسفته العميقة التي تقدم لنا من خلال قصة تبدوة كقصص الأطفال.

يتحدث ناصر مع صديقه في الفيلم عن السينما، عن الأفلام التي يعشقها كلاهما، فيأتي ذكر الممثلة الفاتنة صوفيا لورين، وفي مشهد آخر يأتي بعد مدة، يتخيل ناصر أنه يدفن نفسه في صدر صوفيا الكبير بحيث لا يمكنك سوى أن تتذكر نساء فيلليني في أفلامه الشهيرة.

كمال فني
يبدو كل شيء مكتملا في هذا الفيلم وفي موضعه تماما: الديكورات الرائعة التي تعيد لنا طابع الحياة في طهران- في خمسينيات من القرن الماضي، سواء في الشوارع أو داخل منازل الطبقة الوسطى، وقد صور الفيلم في ستديوهات بابلسبيرج في برلين، تلك الاستديوهات التاريخية الشهيرة التي كانت قد أهملت طويلا.

الموسيقى البديعة التي ألفها أوليفييه برنيه، تناسب أجواء “الحكاية” السحرية وتضفي عليها المزيد من السحر والرونق والجمال.

المونتاج الدقيق يضبط الانتقال بين الماضي والحاضر والمستقبل والعودة الى الحاضر الروائي ببراعة ودقة، ودون أن يشعر المتفرج بأنه قد ضل طريقه، بل يتمنى أيضا أن يستمر الفيلم الى مالا نهاية.

وتستعين ساترابي بمجموعة من الممثلين والممثلات مناسبة تماما للشخصيات، ويتميز بينهم بوجه خاص، الممثل الفرنسي الكبير ماتيو أمالريك، بطل فيلم آلان رينيه “العشب البري” Wild Grass وهو يؤدي دور ناصر علي خان بعبقريته الخاصة في الأداء، بعينيه المندهشتين، وايماءاته التي تقترب من فن البانتوميم (التمثيل الصامت)أحيانا، ومبالغاته في الحركة التي تضفي بعدا غير واقعي على الأداء عموما.

هذا البعد اللاواقعي والمبالغة في الحركة، هو عنصر مشترك بين معظم الممثلين مثل إدوار باييه (عزرائيل) وماريا دي ماديروس (فارينجيس، زوجة ناصر، وهي ممثلة برتغالية)، وجولشفته فرحاني (الحسناء الايرانية التي تألقت فيما بعد في فيلم “حجر الصبر” الأفغاني)، وكيارا ماستروياني، (في دور ليلي ابنة ناصر بعد أن تكبر)، وايزابيلا روسيلليني (والدة ناصر)، والجزائري الأصل جمال دبوز الذي قام بدورين هامشيين في الفيلم.

“دجاج بالخوخ” فيلم ينتمي لجوهر السينما كما نعرفها، كفن رواية القصص ببراعة وابتكار، وعندما نجلس لنشاهده يبدو وكأننا نشاهد السينما للمرة الأولى. وذلك هو سر جماله وسحره.

Visited 69 times, 1 visit(s) today