“حواس”.. ذلك الحب الذى يهزم الموت

من النادر حقاً أن نجد مخرجا جديدا يقدم عملا بمثل هذا النضج والتكامل والعمق شكلا ومضمونا، مثلما فعل الراحل الموهوب محمد رمضان فى فيلمه القصير المدهش “حواس”، نحن تقريبا أمام عمل نموذجى لهذا النوع من الأفلام الصعبة التى تعتمد على التكثيف بدلا من الإسهاب، ولكن موهبة رمضان أبت إلا أن تتجاوز الفهم الدقيق لمتطلبات الفيلم القصير كبناء، فانطلق الى آفاق تقديم تجربة بصرية مذهلة، تكشف عن مخرج مميز يكتب بالصورة، ويرسم بالضوء، ويقول بالإيماءة والإشارة واللون، مثلما يقول بالحوار وبالموسيقى وبالمؤثر الصوتى.

سأفصّل لك حالا ما أجملت، وقد امتزجت نشوتى بالفيلم مع حزنى الكبير على صانعه الذى كان يعد بمشروع مخرج كبير فعلا، ولكن ليس قبل أن تستوقفنى مفارقة أن يكون موضوع “حواس” هو ذلك الصراع الإنسانى الوجودى بين الموت الحياة، بل أن بناء السيناريو (كتبه رمضان مع محسن الميرغنى) الذى يوهمنا لأول وهلة أنه مونولوج طويل لممرضة أحبت مريضا يرقد فى غيبوبة منذ ستة أشهر، ليس فى حقيقته إلا ديالوج بين صمت وكلام، وبين نصف ميت ونصف حيّة، وبين الحياة فى الإنسان والموت فى الإنسان.

نحن إذن أمام جدل لا يتوقف ينتهى الى محاولة عجيبة للبعث المتبادل، إن لم يكن على مستوى الواقع، فليكن على مستوى الحلم، إن لم يكن الى مستوى ما حدث، فهو على مستوى ما نتمنى أن يكون، أما وسيلة البعث فهى الحب، الغريب فعلا أن ما فعله أصدقاء رمضان حال اكتشافهم غيابه/ متاهته/ غيبوبته، لم يكن إلا استدعاء لطاقة حب جارفة علّهم يستعيدونه من جديد، وما محاولتهم الآن لتكريم اسمه، ونقش بصمته على جدار الزمن والفن، إلا الاستعادة المجازية لمعنى فيلمه البديع، فأى نبوءة تلك التى صنعها شاب قرر أن يتأمل الحياة والموت، فلما “غاب” اكتشفنا أنه ترك حلا  ساحرا تعود به الحياة من قلب الموت، ويبعث فيه الإنسان بطقوس الحب والعشق؟!

مستوى الرمز

أذهلتنى هذه المفارقة بقدر ما أدهشنى ألا يرى البعض فى الفيلم سوى مستواه الواقعى، بينما استخدم رمضان ببراعة واقتدار مستويات أخرى رمزية مازجا بين الحلم والحقيقة، والممكن والمتخيل، والحسى والروحى، والفردى الذى يخص رجل وامرأة بعينهما، والوجودى الإنسانى الذى يُخضع البشرية كلها للعبة الحياة والموت. “حواس” من هذه الزاوية الواسعة فيلم شديد الطموح فى معناه ومغزاه، لإنه يبدأ من محاولة بعث رجل فى غيبوبة، لينطلق الى محاولة بعث امرأة عاشقة وحيدة، وينتهى الى أن ينقل حلم البعث الى مشاهده نفسه، وإذ يهدى رمضان فيلمه فى النهاية الى المحرومين (الأحياء)، والمرحومين (الموتى)، فإن المخرج الرائع يكون قد انحاز الى بعث الموتى، وبعث الأحياء على حد سواء، لايقال هذا بالصوت العالى، ولا حتى من خلال الحوار القليل، ولكن من خلال مشاهد لا يمكن وصفها إلا بأنها طقسية، فى حركة ممثليها، فى ذلك الإلقاء المهموس، فى حركة الكاميرا المتسللة، وفى جدل الألوان بين الأزرق والأبيض والبرتقالى والأسود، وكأن “حواس” ليس سوى جلسة للبعث بالحب، وكأنه عن ممرضة تنتظر البعث، مثلما هو عن مريض فى غيبوبة نتمنى أن يخرج منها.

يبدأ الفيلم وقد تحولت وظائف الحياة فى الجسد الى خطوط  مجرّدة صاعدة وهابطة على شاشة جهاز إليكترونى خلفيتها زرقاء، ثم تأخذ الخطوط شكل خط مستقيم، ثم يقطع رمضان الى وجه نسائى يتصل عبر الأنابيب بالجهاز، رأسها مقلوب، تمتد يد لتتحسس صدر رجل له لحية، اللمسة على الجسد تتجاوز التعبير عن النشوة الى ما يقترب من استعادة الحياة، عن طريق الأقدام فقط، وعلى خلفية سوداء، تهبط المريضة من سريرها، ليحل الرجل الملتحى محلّها، تأخذ الصورة فى أجزاء منها شكل حزمة ملونة ضبابية ومهتزة، يقطع رمضان الى كتاب فارغ الصفحات يقلّبه هواء لا نعرف مصدره، بجواره حذاء أبيض تلبسه الممرضات عادة، ننتقل فجأة الى لقطة للممرضة (سلافة غانم)، تفتح عينيها، تستدير فى اتجاه الكاميرا، تقول بصوت أقرب الى الوشوشة :” صباح الخير يا يوسف”.

حلم

ليس من الصعب أن ترجح أن هذا المشهد الإفتتاحى البارع ليس إلا رؤية أو حلم من وجهة نظر ممرضة نائمة استحوذ مريضها على عقلها وقلبها وكل حواسها، ولكن الحلم يقلب المواقع: هى المريضة، والمريض يوسف (حسن الكريدلى) هو الذى يقف أمام سريرها، ثم تقوم هى، ويصعد هو الى مكانها، لا يمكن أن تكون هناك بلاغة مصورة أكثر من ذلك، للتعبير عن معنى أن الممرضة ومريضها وجهان لعملة واحدة، مواقعهما فقط هى المختلفة، هى نائمة على المقعد، وهو نائم على السرير، هو نصف ميت، وهى نصف حية لأنها متعلقة به، هو فى المستشفى انتظارا لبعث ممكن، وهى لا تفارق حجرته لأن فى بعثه ما يجعل لحياتها معنى، منذ المشهد الإفتتاحى إذن يتحدد قانون الفيلم، الذى لا يعنيه الفواصل بين الحلم والواقع، بقدر ما يعنيه استخدام كل الزوايا الممكنة لفحص وتأمل الحياة والموت.

عندما تستيقظ الممرضة، تبدأ فى مخاطبة يوسف، هناك كتاب بالفعل، ولكنه ليس أبيض الصفحات، هذه هى الكتب الخاصة بيوسف، قررت أن تقرأها وكانها تقرأه، لم يبق سوى كتابان لتنتهى من المكتبة، تحدثه عن شقيقه الذى يزوره، ولكنه يرفض رؤيته “ما بيهونش عليه يشوفك وانت فى الحالة دى”، تركت الممرضة مقعدها، وبدأت تتحرك جيئة وذهابا أمام لوحة منقسمة الى ثلاثة أجزاء، وتمثل فتاة محلولة الشعربألوان الأحمر والبرتقالى ، ترنو  الى أفق لا نراه فتتحول الألوان فى نهاية اللوحة الى الأزرق والأصفر، تدير مريضها ليكون فى مواجهتنا، ترطب ظهره حتى لا يصاب بقرحة الفراش، يلفت نظرها شعره الطويل ” قصّيت لك شعرك بس كبر بسرعة.. إنت أجمل لما يكون شعرك مقصوص،ح اقص لك شعرك بكرة”، تعود الممرضة الى الجلوس، تتحدث بهدوء وكأنها تخاطب مستيقظا، تراهنه أن يعرف ما تفكر فيه بأن تطلب منه أن يعد من واحد الى ثلاثة لكى يخمن ما تفكر فيه، قبل أن تصل الى ثلاثة تكون هى قد أغمضت عينيها، تفتح عينيها فى لقطة ملتبسة (كادر مائل) يبدو لأول وهلة وكأنه من وجهة نظر يوسف، يقطع رمضان على لقطة من وجهة نظر الممرضة، تنفتح  عيون يوسف بالتدريج، تقول الممرضة مندهشة:”يوسف.. أستاذ يوسف”، يسود اللون الأسود فى اختفاء كامل مفاجئ.

المخرج الراحل محمد رمضان

ينتقل السيناريو هنا الى تلاعب واضح بين الذاتى والموضوعى، يفتح أمامك احتمالا قويا بأن الممرضة توهمت بأن يوسف قد فتح عينيه تدريجيا، استجابة لكلماتها، لم يحدث ذلك إلا بعد أن أغلقت الممرضة عينيها، يزيد الإيهام والتلاعب بلقطة من وجهة نظر رجل نعلم تماما أنه فى غيبوبة وإن كانت شاشة الجهاز الإليكترونى تقول إنه مازال على قيد الحياة، عندما يحضر الطبيب (طارق مندور) فى المشهد التالى، يفحص عينا يوسف فلا يجد أثرا لحركة، يرفض التعليق أصلا، ينظر الى الممرضة ويغادر الحجرة، يبدو أنه لا يصدق مثلنا أن يوسف فتح عينيه.

 فى مونولوجات الممرضة القادمة، ستعبر بشكل أوضح عن عشقها لمريضها، وعن حلمها بأن يستيقظ ليراها:” ياترى لو شفتنى ح تحبنى؟ أنا مش وحشة، تعرف إنى كنت محضرة لك مفاجأة، بس انت فاجأتنى وفتحت عينيك”، يدها على يده فى لقطة مكبرة، مزج الى قطرات المحلول فى لقطة مكبرة، يعود الظلام، ثم تعود الممرضة الى المناجاة المتواصلة:” يوسف .. بتدوّر وشك ليه؟ أخوك قاللى ع الموسيقى اللى بتحبها، فتّح عينيك عشان المفاجأة اللى عندى، حطيتلك الموسيقى على الموبايل، مبسوط؟عجباك؟”، صورة شاشة الموبايل وذبذبات الموسيقى وقد تحولت الى خطوط مجردة متحركة ، تذكرنا بشاشة رصد الوظائف الحيوية المتصل بجسد يوسف، يتواصل مونولوج الممرضة: “عايزاك تفتح عينيك عشان تشوفنى وانا حاطة روج، خدت قلم من إيمان وحطيت كحل، ح اخليك أحلى واحد فى الدنيا”.

مأزق وجودي

 ترفع السرير بهدوء. تبدأ فى غسل شعر يوسف، تجففه، تجلس لتقرأ، عند لحظة معينة يتداخل صوت يوسف مع صوتها، ثم يستكمل صوته عبارات تشير الى مأزق الحياة الوجودى، أن تكون مسجونا فى مرضك :”  رحلة شاقة. أسير تطاردنى أشباحى. أجدنى فى ذلك النفق المظلم. أجد نفسى بين تلك الجدران. لم يعد يفزعنى شئ سوى حسرة الوحدة، وحسرة اللقاء الذى لم يتم. لاعودة الآن. أجد نفسى فى رحلة تنتهى بالوداع. لم يعد لى شئ سوى النافذة المكسورة”، تستكمل هذه الكلمات طقوس الحياة والموت كما يراها الفيلم، ورغم معناها القاتم، إلا أن الممرضة تلتقط لنفسها صورة بكاميرا الموبايل وهى تبتسم مع مريضها الذى لا يشعر بها، عند لحطة معينه، تخلع طرحتها البيضاء، تتحرك باتجاه سرير يوسف، تسحب ملاءة بيضاء تغطيه، تفك أزرار سترتها، يتم إظلام الخلفية تدريجيا، تبدو صورة الفتاة المرسومة على الحائط، والمنقسمة الى أجزاء، وقد دخلت الآن الى الظلام، تلمس يده شفتيها فى وضع معكوس للقطة مشهد البداية، عندما كانت يدها كمريضة تلمس وجهه، تتحرك لتهبط  فوقه، لقطة مكبرة ليدها على شعره، يقطع رمضان الى شاشة الجهاز الإليكترونية، نقاط بيضاء تتدافع وكأنها إشارات بعث قادم ليوسف، ترفع الممرضة وجها استرد النضارة، استرد الحياة.

استكملت الممرضة طقوس البعث، واستكمل رمضان لعبته الذكية، بعد أن تتحسس يد يوسف وجه الممرضة، يسود الظلام لبرهة، يتركك الفيلم مع احتمال أن ما نراه من هذا المشهد الحسى إنما هو أيضا حلم يقظة، مثلما كان مشهد البداية هو حلم نوم، رؤية رمزية تحققت فى النهاية، على أىّ وجه فهمت هذا التلاعب، فإن المعنى هو الأهم: لا بعث إلا بالحب، ولا موت إلا بالنسيان، كما أن البعث فى اتجاهين، وليس فى اتجاه واحد، وسيلته الحواس لأن السينما صورة، ولكن غايته الروح، أن تعود الروح الى الممرضة والمريضة معا.

ليس هذا هو الواقع بالضبط، ولكنه الواقع ممتزجا بأحلام وأمنيات وخيالات سجينة حجرة لا نغادرها، ستائرها، وصوت قطرات محاليلها، ولوحاتها، وهمساتها، وحركة ممرضتها، تعطيها طابع الطقس السرى، على الأرض كتاب مفتوح يحركه الهواء، وستارة تستكمل الغموض والعزلة، تسود اللقطات الكبيرة والمكبرة وكأنها تلملم أجزاء اللوحة الكاملة، وتفحص أعماق تفاصيلها، وخلف الطقس مخرج يعرف كيف يوظف كل مفرداته، صورة رسمها بظلالها وألوانها مدير التصوير عمر حسام على، ومونتاج دقيق جعل الفيلم كأنه مشهد واحد متصل، واقتصاد واع فى استخدام الموسيقى التى يمكن اعتبارها تقاسيم على نغمة الحياة والموت من مقام الحزن والشجن (إعداد موسيقى شادى جورج ).

“حواس” أحد أهم وأفضل الأفلام الروائية القصيرة التى شاهدتها فى السنوات الأخيرة، ليس فقط لأنه يتأمل موضوعه الصعب بصورة ممتعة بصريا وسمعيا وسينمائيا، ولكن لأنه ينتصر للحياة فى مقابل الموت، وللذكرى فى مقابل النسيان، وللحب فى مقابل الفناء، هذا فيلم عن الحضور الإنسانى وليس عن الغياب، هذه هى وصية محمد رمضان الرائعة: اصنعوا الحياة ولو حتى من ثقب إبرة، اصنعوها فى الحلم وفى اليقظة، فى الصحو وفى المنام، بالحواس وبالأرواح، ويالها من وصية عظيمة تستحق التأمل والإعتبار.

Visited 64 times, 1 visit(s) today