جودار والبحث عن الانتماء
أمير العمري
ننشر هنا الفصل الـ 19 من كتاب “عصر نادي السينما” المخصص لتسليط الأضواء على تجربة السينمائي الكبير الذي رحل عن عالمنا اليوم، جان لوك جودار
في النصف الأول من عام 1973 عرض نادي القاهرة للسينما فيلم “المرأة هي المرأة” وهو عمل تجريبي كان جودار يجرب فيه الشكل الغنائي المضاد لهوليوود، لكني لا أظن أنه نجح. أما ما كان يثير الاهتمام وقت عرض هذا الفيلم، فهو اتجاه جودار إلى نوع جديد آخر من السينما وهجر السينما التقليدية نهائياً. وكان فيلمه “كل شيء على ما يرام” بمثابة “البيان” العملي الأول على فترة التحول التي كان يمر بها المخرج الفرنسي الكبير بعد انتفاضة 1968.
من المقالات التي لفتت النظر كثيراً ما كتبه نبيل زكي، وهو صحفي يساري معروف ولم يكن من نقاد السينما، وقد رأس تحرير جريدة “الأهالي” في مرحلة تالية. ففي العدد العاشر من نشرة نادي السينما، بتاريخ 14 مارس 1973، كتب نبيل زكي عن لقائه مع جودار في باريس:
“سمعت أن المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار يصارع التيار السائد في السينما. وشاهدت زحاماً شديداً أمام دار سينما “لاتان” في الحي اللاتيني التي كانت تعرض فيلمه “عطلة نهاية الأسبوع”، وكنت قد سمعت عن الفيلم الذي يعده عن النضال الفلسطيني، وعن حملته التي يشنها ضد الأفلام التي سبق أن أخرجها هو نفسه. وقد التقيت به في مكتبه بالدور الأرضي من منزل بسيط في أحد شوارع مونبارناس الذي يستخدمه أيضاً كاستديو يعمل فيه.
بادرته بالسؤال عن فيلم “عطلة نهاية الأسبوع”، فقال:
“إنه فيلم سيء. وهو من طراز الأفلام التي توقفت عن إخراجها الآن. وأنت تسألني: ماذا تريد أن تقول؟ يهمني أن أوضح لك أنني لا أريد أن أقول شيئاً، فأنا لم أقدم من خلال أفلامي سوى انطباعات، ولهذا السبب لم تكن هذه الأفلام جيدة. ولكني أحاول الآن أن أعرف ما إذا كانت هذه الانطباعات أو الأحاسيس تمثل شيئاً حقيقياً وصادقاً، ذلك لأنه لا يكفي أن تقدم انساناً متمرداً بل ينبغي أن توضح الطريق الذي يجب على هذا الإنسان أن يسلكه لكي يحقق هدفه”.
“لم أكن أعرف من قبل لمن أقدم أفلامي، وبالتالي كان من الخطأ أن أزعم أنني أقدم أفلامي للجمهور كما يقول المنتجون. والآن أحاول معرفة لمن أخرج أفلامي؟ وأستطيع القول إنني أخرج الأفلام لأكبر عدد ممكن من الناس. ولكني أدرك في الوقت نفسه أن “أكبر عدد ممكن من الناس” في فرنسا في الوقت الحالي، تعني ثلاثة أشخاص: أنا وزوجتي والزميل الذي أناضل معه، أو العشرين شخصاً الذين أعمل وأكافح معهم، وهؤلاء العشرون شخصاً هم الذين يمثلون في الوقت الحالي “أكبر عدد ممكن من الناس”.
“قيل إن الطبقة العاملة لم تكن هي التي اخترعت فن التصوير ولم يكن “الكوميون” هو الذي اخترع التصوير وإنما البرجوازيون وبالتالي كان البورجوازيون، هم الذين استخدموا هذا الفن لتصوير رجال الكوميون، وكانت الصور الأولى التي التقطها البورجوازيون والتي ظهرت هي صورة الشرطي وهو يلقي القبض على أحد ثوار الكوميون، وكان لهذا مغزى سياسي. وعندما نقول البورجوازية فالمقصود هو البورجوازية الصغيرة، وهي التي استخدمت السينما بعد ذلك مباشرة وجعلت منها صناعة متطورة”.
“إن الشرق الأوسط منطقة هامة من العالم وقد احتلها الفرنسيون لفترة طويلة، وتصرفوا فيها كاستعماريين وتشكل السيطرة الاستعمارية الفرنسية على العالم العربي جزءاً من تاريخنا ولكي ننتج أفلاماً في فرنسا اليوم يجب أن نعرف تاريخنا، ليس التاريخ الذي علموه لنا في المدارس وإنما التاريخ الذي اكتشفناه عبر النضال”.
كان اهتمامي بجودار مبكراً بحكم ذلك البحث الشاق عن صلة ما بين السينما والسياسة، والسينما والثورة، الثورة على الأشكال التقليدية في التعبير والثورة السياسية والاجتماعية. وكانت شخصية جودار هي الأقرب إلى نفسي ولعلها لا تزال. ولكن جودار لم يعد هو نفسه جودار الذي عرفناه في السبعينيات. فقد أصبح حالياً شيخاً طاعناً في السن، يميل للعزلة، لا يتكلم إلا نادراً. صحيح أنه مازال يقدم فيلماً كل بضع سنوات، ويكون فيلمه مثيراً للجدل كالعادة وكما كان دائماً منذ فيلمه الأول “على آخر نفس” (1960) إلا أن العالم الذي كان يريد جودار تغييره عن طريق السينما لم يعد هو نفسه، لم يعد قابلاً للتغيير. ولم ينته مهرجان كان مثلاً أو يتحول إلى “مهرجان ثوري” بل ظل يجذب النخبة من “غلاة البورجوازيين” دون أن يعدم وجود بعض الظواهر المتمردة على البورجوازية بطريقتها الخاصة، أو تلك التي تصفع صناع السينما التقليدية وتتمكن من اختراق قلاعهم بالموهبة الجامحة وحدها.. وأذكر هنا لارس فون تريير وكوينتين تارانتينو وروي أندرسون. ولكل من هؤلاء أسلوبه ولغته التي ترتبط “روحياً”- على الأقل- بجودار.
في سياق اهتمامي بفهم عالم جودار المتغير، بدأت أبحث مبكراً عما يشفي غليلي. كان جودار قد صور في الأردن فيلمه عن المقاومة الفلسطينية الذي لم يكمله، ثم أخرج عام 1972 فيلمين بمعاونة المناضل الماركسي جان بيير جوران Jean-Pierre Goorin الذي التقى به عام 1966، وقرر أن يؤسس معه “خلية لا تنتج سينما سياسية بل سينما سياسية من خلال السياسة”- على حد تعبير جودار نفسه.
الفيلم الأول كان “كل شيء على ما يرام” Tout Va Bien (1972) وهو أول فيلم احترافي كبير يصنعه الاثنان معاً، مصور بكاميرا سينمائية من مقاس 35 مم، لأغراض التوزيع التجاري، لذلك استعان جودار فيه باثنين من كبار نجوم السينما: إيف مونتان وجين فوندا. ويصور هذا الفيلم إضراباً في مصنع، تنقل أحداث الإضراب مراسلة صحفية أمريكية (جين فوندا) متزوجة من رجل فرنسي (إيف مونتان) يعمل مخرجاً لأفلام الإعلانات التجارية التليفزيونية. والفيلم مصاغ في قالب بريختي، يكشف للمشاهد من البداية أنه يشاهد فيلماً من خلال إزالة الفواصل بين غرف المصنع الذي تتجول فيه الكاميرا مخترقة الجدران، كما أن أداء الممثلين يظهر أنهم يمثلون ويتعمد جودار الغاء منطق التتابع، كما يكسر نمط السرد كونه لا يسرد قصة بل يصور حدثاً يريدك أن تتأمل في مغزاه، وتخرج بنتيجة تتعلق بالمجتمع الاستهلاكي، وبحالة الصراع الطبقي التي كانت تعيشها فرنسا في 1968.
أما الفيلم الثاني فهو بعنوان “رسالة إلى جين” (بحث في صورة) وهو فيلم مصور بكاميرا من مقاس 16 مم ويقع في 45 دقيقة، ويعتبر دراسة بالكاميرا أو “تأمل” في صورة الممثلة الأمريكية جين فوندا، وهي تقف وسط الفيتناميين الشماليين، وقد وصف جودار تلك الصورة بأنها “الرد العملي على ماهية الدور الذي ينبغي على المثقفين القيام به في الثورة”.
وفي أكتوبر 1972 قام جودار ورفيقه جوران، بزيارة إلى الولايات المتحدة للاتفاق على عرض الفيلمين هناك، وقاما خلال ذلك، بزيارة جامعة “ماري لاند” حيث عقدا مؤتمراً أدليا خلاله بملاحظات وتصريحات تسلط الضوء على التطور الكبير الذي طرأ على فكر فنان السينما الفرنسي الكبير، بعد ثورة مايو 1968 في فرنسا، كما تعطي فكرة عن طبيعة العلاقة الفكرية التي أصبحت تربط بين جودار وجوران. وكان من حسن الحظ أن تنشر مجلة “سايت آند ساوند” Sight & Sound الفصلية البريطانية (عدد صيف 1973) تسجيلاً لتلك الآراء. وقد قمت بترجمة النص المنشور ووجد طريقه للنشر على صفحات نشرة نادي السينما (العدد 5، النصف الأول، 30 يناير 1974).
ونظراً للأهمية “التاريخية” لهذا النص رأيت أن أضمه إلى هذا الكتاب عن “نادي السينما” فهو أفضل ما يعبر عن ذلك العصر الذي كنا فيه نحلم بتغيير العالم عن طريق السينما، تماماً كما كان جودار يحلم.
وإلى نص المؤتمر:
- تحدثت ذات مرة عن أفلامك السابقة فقلت إنها كانت أفلاماً بورجوازية، وأنك كنت مخرجاً بورجوازياً..
- جودار: لقد كان من الخطأ أن أقول ذلك. والآن ينبغي أن أعترف أنني مازلت نجماً، وإن كنت أود أن أصبح نوعاً مختلفاً من النجوم.
- جوران: ولكن المسألة هي أن جودار هو الفنان الوحيد الذي استطاع أن يغير وجه السينما في عشرين عاماً. وكان الفنان الوحيد الذي اعتنق الأفكار الجديدة وقدم أول الأفلام التي تعكسها.
لقد أثمرت علاقتنا لأنه كان باستطاعتي إثارة الأسئلة (له ولنفسي) حول أفلامه السابقة، واكتشفت خلال ذلك، أشياء ساعدتنا في التقدم قليلاً. وهناك في “كل شيء على ما يرام” بعض الأفكار المقتبسة من أفلام جودار السابقة. إنه أكثر أفلام جودار “جودارية”. وقد قمت أنا في الحقيقة، بإدخال بعض “اللازمات” الجودارية. إنه أمر طبيعي فالجديد يولد دائماً من القديم.
- نحن لا نؤمن بإمكانية الفصل بين “التسجيلي” و”الخيالي” فهذا غير صحيح. فكل ما يبدو على الشاشة “خيال” وهذا ما أثبته دزيجا فيرتوف في الجرائد السينمائية للثورة البلشفية. وقد أُخذ مصطلح “سينما الحقيقة” من فيرتوف مباشرة، ولكنه تُرجم خطأ، فقد كان الاصطلاح الذي استخدمه فيرتوف هو “كينو- برافدا”، وبرافدا في اللغة الروسية معناها “الحقيقة”، وهي أيضاً اسم الجريدة البلشفية، أما ما كان يقصده فيرتوف بـ “كينو برافدا” فهو “كينو ب” و”الباء” هنا هي اختصار لكلمة البلشفية.
- لقد كان فيرتوف يصنع بالفعل أفلاماً خيالية مستخدماً كل عناصر الواقع كما يفعل الجميع، فليس هناك ما هو أقرب إلى الخيال من خطاب لنيكسون في التليفزيون. إنه خيال كريه حقاً.. ولكنه يتضمن نوعاً من الواقع!
- جودار: إن ما هو واقعي هو علاقتك أنت بهذا الخيال. ولذلك فنحن نقبل أن نتكلم اليوم بمصطلحات “الخيال المادي” وذلك كرد فعل معاكس لـ “الخيال المثالي”.
إنني أستطيع أن أصف فيلم “كل شيء على ما يرام” بأنه “قصة حب”. هذا هو العنوان الحقيقي، ولكننا حاولنا أن نقدم قصة الحب حسب المفهوم المادي وذلك في تعارض مع قصة حب طبقاً للمفهوم المثالي.
جوران: لقد سئلنا عن رأينا في الأفلام الأمريكية التجارية الشائعة، وهو ما يشبه أن يسألك أحدهم عن شعورك إزاء مدينة نيويورك. إنه نفس السؤال.
لقد شاهدنا فيلمين هما “القادة الجدد” The New Centurions (أو الدائرة 45 شرطة لوس انجليس) وهو فيلم تبريري فاشستي، و”الطائر الخرافي” (سوبر فلاي) وهو فيلم أسود تبريري فاشستي. وكدنا نموت رعباً. لقد تأثرنا حقاً. إن من المخيف فعلاً أن تكون في أمريكا وترى جمهور الأمريكيين السود في سان فرانسيسكو، وهم على هذه الدرجة من الانفعال أمام “الطائر الخرافي”، أو المشاهدين البيض وهم بمثل هذا التوتر أمام “القادة الجدد” (فيلم المخرج ريتشارد فلايشر- 1972 (المترجم)، وطالما أن فرنسا مستعمرة أمريكية، كنا نخشى مما يمكن أن يحدث للوطن!
كل شيء على ما يرام
جودار: إن ما يمكنك استخلاصه من فيلم “كل شيء على ما يرام” يعتمد على خلفيتك الفكرية والثقافية وعلى وضعك الاجتماعي. نحن نحب النظر إلى الشاشة باعتبارها سبورة. سبورة بيضاء. وعلى هذه السبورة ثلاثة عناصر.. ثلاث قوى اجتماعية تمثلها ثلاثة أصوات: السلطة.. أي صوت الرئيس، وصوت الحزب الشيوعي، والصوت اليساري. ولكني لا أحب أن أسميه كذلك. دعنا نطلق عليه “صوت الجماهير” خارج الساحة.
هذه هي القوى الاجتماعية الثلاث التي تعمل في فرنسا اليوم. لقد أخذنا هذه “الأصوات الصاخبة” خارج الواقع. نحن لم نخترعها، بل جمعناها فقط في نسق ما. إن هذا الفيلم هو في الواقع جريدة سينمائية. لقد لخصنا فيه ما وقع في فرنسا خلال عامين في ساعتين ونصف.
جوران: لقد تم إنجاز “كل شيء على ما يرام” ببساطة شديدة رغم عدم وضوح ذلك. فقد وقعت أحداث “السوبرماركت” بالفعل، فقبل تصوير المشهد بأسبوع كان الحزب الشيوعي يبيع برنامجه في نفس “السوبرماركت”. وقبل تصوير المشهد بثلاثة أشهر قام اليساريون بنهب المتاجر واستولوا على السلع الفاخرة ثم قاموا بتوزيعها في ضواحي باريس.
تلك هي العناصر التي يتكون منها الفيلم. لقد أنجزنا لأول مرة فيلماً شديد الواقعية، ولكن أي نوع من الواقعية؟ وكيف اخترناها؟ لقد جاء اختيارنا لها من خلال نوع ما من “اللاوعي”. ولذلك فالفيلم فيه الكثير من المبالغات. إنه فيلم بريختي بهذا المعنى.
إنها وسيلة للوصول إلى مستوى التقاليد المتبعة في فيلم مثل “ملح الأرض” وهو المرجع الأساسي عند المخرجين وهم يعالجون موضوع “الفساد الاجتماعي”.
ملحوظة: فيلم “ملح الأرض” الذي يستشهد به جودار هو الفيلم الذي أخرجه هربرت ج بيبرمان عام 1954 وهو أحد “العشرة الكبار” في هوليوود الذين سجنوا بسبب رفضهم الإجابة عن أسئلة تتعلق بعضويتهم في الحزب الشيوعي الأمريكي، أمام لجنة التحقيق في النشاط المعادي التي عرفت بلجنة مكارثي. وفيلم “ملح الأرض” يصور إضراب عمال مناجم وكيف تعاملت السلطة معه. وهو يستند إلى أحداث حقيقية، وشارك فيه عمال مناجم حقيقيون.
يمضي جودار يقول:
ولكن الحصول على البساطة لا يعني بالضرورة التوصل إلى وضوح أكثر. وعلى سبيل المثال فقد فكرنا في الربط بين مؤثرات “الموسيقى الاجتماعية” التي يزدحم بها شريط الصوت، مع الضوضاء التي كنا نسمعها طوال الوقت، في محاولة لتفادي “الربط” التقليدي الذي نراه في التليفزيون والصحف. وهكذا.
لقد تم إنجاز الفيلم كله طبقاً لتقاليد تتعارض مع تقاليد التمثيل، فالنجوم الحقيقيون هنا ليسوا ايف مونتان وجين فوندا، بل الممثلون العشرون الثانويون الذين قاموا بأدوار العمال في مشهد المصنع. وهؤلاء لم يسبق لهم التمثيل من قبل. لقد اكتشفوا تقاليد معينة للتمثيل كتلك التي أرسيت في أفلام الثلاثينيات في فرنسا. وأصبح لدينا شاب مثل جابان، وفتاة تؤدي مثل أرليتي (يقصد الممثلة الفرنسية التي لمعت في سينما الثلاثينيات)، وشاب يذكرنا في أدائه بإحدى شخصيات أول أفلام جان فيجو. ونفس الشيء حدث مع الممثل الذي قام بدور مدير المصنع. إنه مخرج أفلام وممثل بريختي. ولم نشأ أن نجعل منه مهرجاً رغماً عنه، ولكننا أردنا أن نعرض لتلك الأنواع من الخطباء التي تظهر كل يوم على شاشة التليفزيون، فنيكسون يمثل مثل مديرنا. ولكنهم لا يسببون لنا إزعاجاً فأنت تدرك فجأة خلال الفيلم، أنهم تافهون!
سؤال: ألم يواجه جودار متاعب بسبب طبيعة شخصية إيف مونتان؟
جودار: إن ما يظل عالقاً بذهنك هو أسطورة “المؤلف”. فالناس غالباً، يرجعون المونولوج الخاص بإيف مونتان إليَّ أنا باعتباري النجم. ومن حياتي كمخرج سينمائي تجد الكثير في المونولوج الخاص بجين فوندا. أما عندما تقول هي إنها لا تستطيع الاستمرار في كتابة تلك المواد التافهة للصحيفة التي تعمل لها، فهذا التعبير مستمد من حياة جان بيير جوران.
لقد ساعدنا وجود إيف مونتان وجين فوندا على إنجاز “كل شيء على ما يرام” ولكن بسبب اسميهما وما يتمتعان به من شهرة، فقد ارتفعت الميزانية بمقدار ربع مليون دولار. وكانت أكبر ميزانية عملت بها. ولكننا كنا بحاجة إلى ذلك لكي نصنع فيلماً للجمهور الفرنسي العريض. ولكننا فشلنا تماماً في توزيعه في فرنسا، لذلك قمنا بتلك الرحلة إلى الولايات المتحدة.
رسالة إلى جين
جوران: بالنسبة لنا هناك خمس دقائق ممتعة في هذا الفيلم. إنه خلاصة تجربة قديمة قام بها كوليشوف في بداية الثورة الروسية. إنها بالنسبة لنا طريقة لإعادة التفكير جدياً في ترتيب الكادرات وزوايا الكاميرا وأشياء أخرى اختفت تماماً من الأفلام اليوم.
لقد كنا طوال الوقت نتعرض للأسئلة.. جين فوندا ونحن أيضاً. و “كل شيء على ما يرام” يجب إلى حد ما عن هذه الأسئلة. وعلى سبيل المثال كان أحد الأسئلة الموجهة إلى جين فوندا على النحو التالي: لقد أتيتِ إلى فرنسا لتعملي معنا في فيلم “كل شيء على ما يرام”، وقد عملتِ مؤخراً في فيلم “كلوت” Klute، وبعد “كل شيء على ما يرام” سوف تقدمين “كلوت” آخر، وربما تذهبين إلى هانوي. ولكننا نتساءل مع كثير من المخرجين والعاملين في الوسط السينمائي: هل يتعين عليكِ أن تصنعي “كلوت” حتى يمكنك الذهاب إلى هانوي؟ ربما كان العمل في “كلوت” طريقاً خاطئاً إلى هانوي؟ وهذه إحدى المشاكل التي كان يتعين علينا أن نحسمها في “رسالة على جين”.
ملحوظة: فيلم “كلوت” هو الفيلم الذي أخرجه آلان باكولا عام 1971، وتقوم فيه جين فوندا بدور عاهرة يلجأ إليها صديق رجل يدعى كلوت، قُتل في جريمة غامضة، لكي يعرف من الذي قتله لكنه سرعان ما يكتشف أن حياتها هي أيضاً مهددة.
سؤال: ألم يكن ممكناً استخدام صورة لشخصية غير معروفة محل صورة جين فوندا؟
جودار: كلا، على الإطلاق. فالفيتناميون الشماليون لم يكونوا في حاجة قط إلى أمريكيين غير معروفين لكي ينادوا بـ “السلام في فيتنام”. بل كانوا في حاجة إلى أشخاص معروفين جيداً لأن نيكسون ليس أمريكياً مجهولاً.
إن نظام النجوم هام جداً. إنك تنظر إلى نفسك باعتبارك النجم في حياتك الخاصة، وربما لا يكون الأمر يتعلق بفيلم يصور ثم يرسل إلى المعمل، ولكنك تواصل بناء شيء ما كل يوم. لديك برنامج معين لنفسك. إنك كومبيوتر نفسك.. مثل نوع من آلات صنع الحلوى. أنت تنظم نفسك كل صباح. تضع برنامجك، وتحسب حساباتك بدقة. إنك تصنع من نفسك نجماً في فيلمك الخاص، وتصبح أنت المصور والممثل والممثلين الثانويين والمعمل.
سؤال: إذا وجهت نقداً لتعبير جين فوندا.. ترى ماذا كان ينبغي أن تفعل بدقة؟
جودار: في هانوي، أنا لست مخرجاً. إنني أستطيع توجيهها فقط ونحن في باريس. لقد طلبنا من جين أن تأتي إلى فرنسا لتعمل معنا في فيلم نخرجه سميناه “كل شيء على ما يرام”. وقبل ذلك بشهرين كان الفيتناميون الشماليون قد طلبوا منها أن تذهب لتشاركهم في عمل أطلقوا عليه “النصر على أمريكا”.
في “رسالة إلى جين” هناك صورتان: جين فوندا القديمة وجين فوندا الجديدة. لقد كان ضرورياً أن يتبين لنا الفارق بين الصورتين لأن الفروق تهمنا. الصورة الفوتوغرافية الثابتة كانت تكشف الصورتين معاً، ولكننا لم نلحظ الفرق. إنها مسألة جمالية. وهذا الفيلم يتناول الجماليات التي فُهمت كمقولة سياسية. ولكننا نفضل الحديث عن الجماليات لا عن السياسة. نحن نهتم فقط بمعرفة التغييرات المختلفة. إنني إذا كنت في فيتنام ونظرت إلى طفل قتيل فسوف يكون تعبيري تماماً كما لو كنت أنا نيكسون أو جون واين.
إننا نشعر شعوراً قاتلاً بأن الناس قد فقدوا القدرة على الرؤية هذه الأيام. إننا نقرأ فقط، ولكننا لا نرى الصورة قط. لقد كان دزيجا فيرتوف هو الذي قال إنه يتعين علينا أن نرى العالم لكي نتعلم ونعلم الناس كيف يرونه بدورهم. وقد قال أيضاً إنه ينبغي أن نرى العالم باسم الثورة البروليتارية، ولكننا لا نستطيع أن نسلك الطرق نفسه اليوم. فتعبير “الثورة البروليتارية” أصبح يستخدم استخداماً خاطئاً في بلادنا اليوم. لذلك نفضل القول إننا نهتم بالجماليات. نحن نحاول أن نبتكر، وأن نعثر على أشكال جديدة تناسب مضامين جديدة. ولكن الأشكال والمضامين الجديدة تعني أن عليك أن تفكر في العلاقة القديمة – التي مازالت قائمة، بين الشكل والمضمون.
لقد أردنا أن نوصل شيئاً ما، ولكننا سألنا أنفسنا: ما الذي نريد توصيله؟ وكيف يتعين علينا أن نوصله؟ إننا نستطيع أن نتعامل مع فيلم “المليون دولار” بصنع فيلم مكون من صورتين ثابتتين. لقد ابتكر الفيتناميون الشماليون حرب الصورتين الثابتتين في مواجهة حرب فيلم المليون دولار من إنتاج البنتاجون- هوليوود. ولسنوات عديدة كنا نقول إن من الممكن عمل أفلام بإمكانات ضئيلة للغاية: مجرد صورة أو صورتين أو ثلاث صور ثابتة وشريط كاسيت. ولهذا رأينا أنها فرصة مناسبة أن نصنع فيلماً (بطول الفيلم الروائي) يبرز الحرب الفيتنامية، يبرز جين فوندا، ويبرز الفيتناميين الشماليين، ويبرز وجهة نظرنا إزاء هذا كله. وقد تم تصوير الفيلم في يوم واحد. بالطبع استغرقت الكتابة يوما آخر، ولكن التصوير احتاج يوماً واحداً، والمونتاج يوماً آخر، والتحميض يوماً آخر. وبلغت تكاليف صنع الفيلم 500 دولار، وأخذنا نحن ألف دولار لكي نأتي إلى هنا!
جوران: إنه فيلم تجاري تماماً وقد قمنا بتوزيعه بأنفسنا. في فلسطين أثناء العمل في الفيلم الذي قمنا بتصويره هناك قبل عامين، اكتشفنا طبيباً في جنوب الأردن كان يصنع أفلاماً باستخدام الصور الفوتوغرافية الثابتة. لقد كان يتلقى كل أسبوع عدة صور من عمَّان، من منظمة فتح، ويقوم بتركيب تلك الصور معاً، ويضع مساحات سوداء فيما بينها، ثم يقوم بالتعليق عليها أمام الجمهور مباشرة. لقد كان فناناً سينمائياً حقيقياً. وتلك هي الإمكانية التي كانت موفرة لدينا.
لقد قضيت ساعة تشاهد فيلماً عن صورة ثابتة لن تحتاج منك إلى أكثر من ثانيتين للنظر إليها. أعتقد أنه كان من الممكن أن تقضي عشر ساعات في التطلع إليها. إننا إذا نظرنا إليها لمدة ثانيتين فخلال الثانيتين هناك مليون شيء يحدث ويمكن أن يعيد تشكيل طريقتك في الحياة، الطريقة التي أحيا بها فأنا أحيا في عالم أخضع فيه لآلاف الصور والأصوات في الثانية الواحدة. وأنا أريد أن أعرف كيف يعمل هذا كله. هذا هو السؤال الذي يثيره فيلم “رسالة إلى جين”. لقد كان باستطاعتي استغلال الوقت في عمل فيلم دعائي.
جوران: الناس يقولون إن السينما “عاطفة” أو “استغراق عاطفي” ولكن أي نوع من الاستغراق العاطفي؟ إنك ترى على الشاشة فجأة شخصاً يواجه نفس الألغاز التي اعتدت عليها طوال الوقت.
إن الفيلم وسيلة لقطع الصلات العادية التي تربطنا بالواقع الذي نخضع له. فليس هناك ما هو أكثر تجريدية من صورة أو صوت. ولكن هذا التجريد يأتي من واقع معين ويمكن أن يقودك مرة أخرى إلى واقعك. لذلك فنحن نصنع أفلاماً تقود المشاهدين إلى الوراء حتى يشاهدوا الفيلم ويتمكنوا من التقاط عنصرين أو ثلاثة عناصر ثم يحاولون التعامل معها في حياتهم. إنه التأثير عن طريق “الإمداد العكسي”.