جميلات سينما محمد خان وكيف أعاد اكتشافهن
تعوَّدنا أن تكون نظرة الرجل العربي للأنثى نظرة كلاسيكية محدودة، نظرة ورثناها شعرًا ونثرًا، أدبًا وسينما، نظرة اجتماعية ضيقة اخترعت لنا مهنة (الخاطبة) التي تعرض على العريس الراغب في الزواج صور العذارى فيختار منها، وكأن الأنثى ما هي إلا صورتها، حتى أن مقاييس جمال الأنثى في عين الرجل العربي في الغالب مُحدَّدة مسبقُا ومتشابهة عند معظم الرجال، أنا أعتبرها نظرة نزارية (نسبة إلى نزار قباني) خالصة، ليس لأن نزار قباني صاحبها الأول، لكن لأنه أكثر من أفصح عنها، وعبر عنها بدقة حتى رغمًا عن إرادته، فالمرأة عيناها من البللور، شفاهها فاكهة، جسمها كنز يطمع الكل به، وهي في النهاية لها قدسية تجعل العشاق يقفون صفوفًا في محرابها، أو يُجنّ الرجال بها من فرط جمالِها، حتى في دفاع الرجل العربي عن المرأة نجد نظرته قاصرة، وكأنه يدافع عنها ويدين أنوثتها في ذات الوقت، هكذا فُرِّغت المرأة العربية من نفسِها لسنين طوال، قليلون هم من تمرَّدوا على السرب وحلقُّوا بعيدًا مع الأنثى .. بالطبع محمد خان واحد من أهمهم.
نظرة محمد خان للأنثى مختلفة كثيرا، فهو يرى الأنثى في كل حالاتها، يحب جمالها الفطري العادي، لذلك تظهر معه في أجمل حالاتها، يرى فيها ما لم يره أحد قبله، يحب جمال وجهها المزغَّب بالنمَش (على حد تعبير الشاعر مريد البرغوثي)، يحب جرأتها وخجلها، قوتها وضعفها، حتى في دفاعِه عنها لا يفعل شيئًا سوى أن يتركها تدافع عن نفسها، يحررك من نظرتك الضيقة لها، لا يستجدي تعاطفك معها في كل الأحوال، فهي تستحق الإعجاب أكثر مما تستحق التعاطف، تستحق حياة أفضل والأهم أنها قادرة على أن تحققها بدون خُطب بليغة ودفاعات طويلة عنها من قبل الذَكر العربي الذي لا يراها أصلًا.
خان عمل مع كثيرٍ جدًا من جميلات السينما، رُبَّما بعضهم لم يكن جميلًا جدًا قبله، لكنهم جميعًا ظهروا معه في صورة جديدة، وكأنه أعاد خلقهم شكلًا ومضمونًا، وأدخلهم في مناطق فنية جديدة عليهم وعلينا، خان تعامل مع نجمات أكثر من جيل، وفي كل مرة كان يثبت أن الجمال مستمر لا ينتهي حتى لو لم نكتشفه من قبل، عمل مع سعاد حسني، ميرفت أمين، نجلاء فتحي ،فردوس عبد الحميد، مديحة كامل، ليلى علوي، شريهان، لوسي، عايدة رياض مرورًا بمنى زكي، منة شلبي، هند صبري، غادة عادل، ياسمين رئيس وهنا شيحة، كل هؤلاء أخرج منهن خان طاقات غير متوقعة، بعضهن كان العمل مع خان بالنسبة لهن خروجًا وحيدًا عن المألوف وطفرة فنية بكل المقاييس، وبالطبع لأن جميلات شارع محمد خان لا يتسع لهم مقال واحد فسأكتفي بالحديث عن خمسة منهن:
1- ليلى علوي 1984
الفتاة رقيقة الجمال التي ظهرت على الساحة قبل العمل مع خان بسنوات قليلة، مظهرها أرستقراطي (وهو الدور الذي ما زالت تلعبه إلى الآن)، فاتنة، تجيد الرقص والاستعراضات، فتاة تناسب جدًا أدوار المحبوبة النمطية، لكن أن يخرج بها خان من هذه النمطية إلى أن تلعب دور فتاة ريفية تُدعى (خيرية – خوخة) في فيلم “خرج ولم يعُد”.. هذا ما كان مفاجئًا لها ولنا لكن ليس للمخرج الذي يرى في الأنثى ما لا نراه نحن، فها هي مقنعة جدًا وهي تقوم بحلب البقرة، وتزغيط البط، وتحميم الحمار، صادقة جدًا بلا مكياج تقريبًا وبربطة إيشارب ريفية، وبضفيرة في غاية الجمال، متمكنة من اللهجة الفلاحي، حتى في دَلَعِها ورقتها فهو دلع فطري غير مبتذل، فكأن خان في (خرج ولم يعد) لا يخرج بك من القاهرة للريف، ولكنه يتحرك بك من الحاضر للماضي، ويعود بك للجنة الفطرية القديمة، فلا تستطيع إلا أن تصدق حوّاءه الجميلة وهي تقول “بس اوعى تعمل زيه وتسيب الجنة” ليرد عطية ” المفروض الأبناء ميكرروش أخطاء الآباء .. معقول الجنة تبقى في إيديا وأسيبها؟ “.
ليلى علوي مع يحيى الفخراني في لقطة من فيلم “خرج ولم يعد”
2- لوسي 1993
تأخرت معرفتي بجمال لوسي كثيرًا، ذلك لأني لم أرَ فيلم “فارس المدينة” إلا قريبًا، وقبلها كانت لوسي بالنسبة لي في كل أحوالِها ليست جميلة جدًا، ليست رقيقة، يصعب التعاطف معها في معظم أدوارها، كما أني أراها راقصة صاخبة وأحيانًا مزعجة، لكن عندما رأيت الممرضة هُدى في (فارس المدينة) شعرت وكأن خان استطاع أن يخرج منها ما كانت تخبئه، أو أن ما كانت أنوثتها ترفض أن تقوله سابقًا قررت أن تبوح به كاملًا مع خان، صحيح أنها قدمت دورًا رائعًا قبل ذلك بعامين في فيلم “البحث عن سيد مرزوق” مع داوود عبد السيد، إلا أن دورها هناك لم يكن غريبًا عليها، لم يُعد خلقها كما فعل خان ببراعة في “فارس المدينة” ليبرز لنا جميلة جديدة لم نتخطَّى حواسنا في معرفتها من قبل، فـ(هدى) الممرضة لا تشبه لوسي التى عرفناها قبل ذلك أو بعده، وكأن لوسي لم تلعب هذا الدور من الأساس .. الدور هو من لعبها وغيَّرها شكلًا ومضمونًا.
3- ياسمين رئيس 2014
في بداية فيلم “فتاة المصنع” يهدي خان الفيلم لذكرى واحدة من أجمل جميلاته (سعاد حسني)، وعندما تُهدي فيلمًا للسندريللا فلا بد أن بطلته على الأقل لها خصوصية جمالية فريدة من نوعِها، لذلك أعتقد أن خان لم يختر وجهًا معروفًا جدًا لنا من قبل، لكي يعطيه خصوصيته الجمالية من الوهلة الأولى، فهو مخلوق جديد أمامَك بلا انطباعات كثيرة مسبقة، ثم يُسمَّي جميلته (هيام) وقد جعلنا نهيم بها فعلًا، ما قدمه لنا خان في شخص (هيام) يصعب وصفه، فهي طوال الفيلم داخل وخارج اللعبة في آنٍ واحد، داخل حارتِها وبيتِها الضيق في منطقتها الشعبية، وخارجهما تمامًا بجمالها غير المألوف، منغمسة في واقعها المرير الصعب كفتاة من طبقة فقيرة ومتمرِّدة عليه بسِحر وفتنة الأميرات، تقف في بلكون شقتها المعلق بها الثوم والبصل، لكنها ترتدي فستان فرح أبيض تبدو به ملاكًا، حتى أن هذه المفارقة لم تكن فقط على مستوى الشكل والحركة، إنما أيضًا ها هي تحب المهندس صلاح وتتعلق به ثم ترقص رقصة بديعة في فرَحِه مع عروس آخر .. هيام هي كل شيء ونقيضه.. منحها خان من روح كل أنثى عرفها، فظهرت كساحرة عظيمة في ظروف متواضعة جدًا.
ياسمين رئيس في لقطة من فيلم “فتاة المصنع”
4– عايدة رياض 1988، 1990
راقصة في الفرقة القومية للفنون الشعبية، لها ملامح وجرأة الفتاة الشعبية، قدرة على تقديم أدوارًا مختلفة ومتنوعة، تلك القدرة التي لم يستغلها المخرجون كما يجب، حُصرت عايدة رياض في عدد من الأدوار المتشابهة، عادةً كانت تظهر كسنِّيدة للبطلة مثلها مثل كثيرات وكثيرين ممن فرضت رؤية المنتجين والمخرجين القاصرة عليهم أدوارًا ثانية وثالثة طوال حياتهم، لكن محمد خان يستطيع إعادة تشكيل الممثل وإظهاره في أفضل حالاتِه، لذا اختارها لتكون بطلة “أحلام هند وكاميليا” أمام نجلاء فتحي وأحمد زكي، وهو الدور الذي يعتبره الكثيرون، أنه الدور الأفضل في مسيرتها، تعمل (هند) كخادمة في البيوت، تقابل صديقتها في الشقاء (كاميليا) من حين لآخر، وتتكون صداقة فريدة بينهم .. صداقة المستضعفين في الأرض، ثم يأتي بها خان ثانية في فيلم “سوبر ماركت” لكن ليست كبطلة أولى هذه المرة، رُبَّما لم تظهر إلا مرات معدودة على الشاشة، لكنها كباليرينا محترفة تمشي في كل مشاهدها كأنها في عرضٍ مباشر على المسرح، مما يعطي الإيحاء بأنها فراشة خفيفة، هنا استطاع خان أن يجعل من راقصة شعبية باليرينا حقيقية.. هكذا رأي محمد خان في جميلته عايدة رياض ما لم تره هي في نفسها أبدًا وبالطبع عمل معها ثالثة في “فارس المدينة” ثم أخيرًا في “شقة مصر الجديدة” ليسمِّيها (حياة القلوب) كما رآها قبل ذلك بعشرين عامًا تقريبًا.
5- غادة عادل 2007
طوال مسيرة غادة عادل الفنية كانت تقدَّم غالبًا كفتاة مَرِحة خفيفة، لا تحتاج أدوارها لكثيرٍ من التمثيل، فهي في الغالب تظهر على طبيعتها بلا تجديد في أدائها، مُجرَّد مؤديَّة جيدة ولا تستطيع التعويل عليها في أدوارٍ أكبر من ذلك، لكن خان الحرِّيف استطاع في فيلم “في شقة مصرالجديدة” أن يرى غادة عادل كفتاة صعيدية من (المنيا) تسافر لزحام القاهرة باحثةً عن معلِّمتها في مدرستها القديمة تُدعى (تهاني) وهي في حقيقة الأمر هربت للقاهرة بحثًا عن حقيقة الحُب في الحياة، وهنا أحتار جدًا كيف اختار خان غادة عادل لدورٍ كهذا، كيف انتقاها من وسط كل نجمات جيلها الذين يبدون بلا شك للوهلة الأولى أفضل منها كثيرًا في هذا الدور، كيف تصوَّر أن تلك الفتاة (الروشة) دائمًا.. لديها من القدرات التمثيلية والشكلية ما يجعلها فتاة صعيدية خجولة، بريئة وساذجة على نحوٍ كبير، منعدمة الثقة في نفسها تقريبًا، لكن خان قد فعلها، وظهرت غادة عادل للمرة الوحيدة تقريبًا في مسيرتها بثوبٍ مختلف جدًا عنها، لقد عشقت هذه ال(نجوى) في الفيلم، أحببت ملابسها، طريقة حديثها، طريقتها في تناول الطعام، توترها السريع، نظرتها البريئة الفَطنة، ووجهها الدافئ جدًا عكس المعتاد، حتى صوتها في هذا الفيلم بدا لي مختلفًا، وكأنها لم تكن (غادة عادل ) التي نعرفها يومًا.. هكذا اخترقها خان .. أخرج طاقاتها التمثيلية والأنثوية المخبَّأة، فلا تملُك إلا أن تذوب في حب (نجوى) وفي حب خان الذي أعاد تشكيلها تقريبًا من اللاشيء.
كنت أتمنى أن يتسع المقال للحديث عن السندريللا، ونجلاء فتحي، ومديحة كامل، وفردوس عبد الحميد وغيرهم .. لكني في كل الأحوال أشعر أن كلامي قاصر وأن من الأفضل لنا جميعًا أن نشاهد أو نعيد مشاهدة مسيرة محمد خان منذ بدايتها، وأن نمعن النظر في مسيرات بطلاته وكيف اختلف معنى أنوثتهن معه كما اختلفت أداورهن، وكيف استطاع أن يخرج منهن بما يريد هو وبما أردن هن ولو لم يدرين .. رحمك الله يا خان .. وأسعدنا بسينماك وبجميلات شارعك.