تاركوفسكي.. عن الصور التي ورثناها
أندريه تاركوفسكي، منذ وفاته في 29 ديسمبر 1986، وكان في الرابعة والخمسين من عمره، اكتسب مكانة بارزة بين عمالقة السينما، وفيلمه “أندريه روبليف” كان الفيلم الروسي الوحيد ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما، حسب استفتاء الـ BBCفي العام 1995، وفي العام نفسه اختار 27 ناقداً عالمياً فيلمين لتاركوفسكي، هما “أندريه روبليف” و”المرآة”، ضمن أفضل 12 فيلماً في تاريخ السينما.
أعمال تاركوفسكي لا تزال مصدر إلهام وتأثير بالنسبة للعديد من المخرجين في روسيا، وفي أنحاء مختلفة من العالم.
البدايات
بدأ تاركوفسكي مسيرته السينمائية كمخرج بفيلم التخرج من معهد السينما بعنوان “الآلة البخارية والكمان” (1960)، هذا الفيلم – مدته 46 دقيقة – هو الوحيد من بين أفلامه الذي صوّره كلياً في الحاضر السوفيتي.
حبكة الفيلم، التي تتصل بلقاء عازف كمان صغير بأحد العمال، هي تنويع على الثيمة السوفيتية الشائعة للعلاقة بين العمال والإنتلجنسيا (النخبة المثقفة)، هذه العلاقة التي وضحها الشاعر ماياكوفسكي في قصيدته “الشاعر- العامل” (1918).
إن معالجة الفيلم لبطله الصغير وزملائه التلاميذ هي وجدانية على نحو صريح. وهو الفيلم الوحيد أيضاً الذي صوّره تاركوفسكي بالألوان بشكل كامل. فيما بعد، تعامل تاركوفسكي مع الألوان بحذر، وهو الذي قال عن فيلم أنتونيوني “الصحراء الحمراء” بأن الألوان هي التي جعلته من أضعف أفلام أنتونيوني.
الألوان، الواقعية السوفيتية، البلاغة السوفيتية، النزعة الوجدانية.. كلها سوف تختفي ويتم اقصاءها من أفلامه اللاحقة.
لكن بطل “الآلة والكمان” يوضح بدقة “المفكرة” التاركوفسكية، بوصفه المنبوذ الحالم الذي يبدأ في معرفة العالم. إنه لا يجد الدفء والبهجة وسط عائلته، وبحثه محكوم بالخيبة. إن وسيلته المختارة، في بحثه عن الفهم، هو الفن الذي يميّزه عن بقية الأولاد، لكن الفن أيضاً يوسمه: العلامة المطبوعة على رقبته (والتي هي، حسب تفسيره، النتيجة المحتومة لاستخدامه آلة الكمان) هي المثال الأول للعبء الذي يحمله الفنان- الباحث التاركوفسكي. بالتالي، فإن فيلم “الآلة والكمان” يحتوي أيضاً، في الحالة الجنينية، على العناصر التي تجعل تاركوفسكي تاركوفسكياً.
لقطة من فيلم “طفولة إيفان”
الإسم، أندريه
أفلام تاركوفسكي هي أيضاً تاركوفسكية في توجهها نحو السيرة الذاتية (تاركوفسكي نفسه درس الموسيقى وهو في السابعة من عمره). كل أبطاله فنانون أو باحثون، تحديقتهم موجهة نحو عالمهم الداخلي.
اثنان منهم (في نوستالجيا وأندريه روبليف) يحملان الإسم الأول لتاركوفسكي. والشخصيات الأخرى تحمل الحرف الأول من اسمه: ألكساندر، أليكسي.
إنه في دور هؤلاء الأبطال، بوصفهم نماذج رمزية، أكثر مما في إعادة الخلق الدقيقة للسيرة الشخصية، يمكن فهم ذاتية تاركوفسكي.
والبعد الآخر يكمن في التوجه الصريح نحو السينما الأوروبية الخلاقة، التي نفَذت إلى الإتحاد السوفيتي في أواخر الخمسينيات. والتي شغف بها تاركوفسكي، الطالب في أرشيف السينما التابع للدولة خارج موسكو. من هنا كان الرفض الصريح لكل ما هو سوفيتي: القيم، السينما، اللغة.
العائلة
أبطال تاركوفسكي يبدأون في معرفة العالم انطلاقاً من جذورهم الشخصية. ونموذج عالمه مشيّد بشكل متكرر حول تجربة الحياة العائلية. أبطاله غالباً من الأطفال، لكنهم أطفال أرهقتهم المعرفة والتجربة التي تتخطى أعمارهم.
طفولتهم سعيدة فقط في الالتماعة النادرة للذاكرة، ففي الحاضر هم يتامى عاطفياً، وحتى واقعياً في الغالب. الآباء غائبون، أو موتى في الحروب. وثمة بديل للأب لكنه يخذل الصغير. وعندما يعود الأب فهو يعود بشكل عابر.. كما في “المرآة”.
في فيلم “سولاريس” يقوم كريس بزيارة أخيرة إلى أبيه المحتضر، لكن الزيارة تنتهي بالشجار. وفي “أندريه روبليف” يكتشف الصبي في النهاية أن أباه الميت لم يعلّمه سرّ المهنة: سبك الجرس.
لقطة من فيلم “سولاريس”
العلاقة مع الأمهات أيضاً محكومة بالإخفاق. الأم في “الآلة والكمان” صارمة وبغيضة. أم إيفان المثالية في “طفولة إيفان” تلقى مصرعها في انفجار قنبلة.
أليكسي في “المرآة” يتم ابعاده عن أمه. القصة الغريبة التي يرويها الكساندر في “القربان” تحكي عن محاولته إسعاد أمه بتشذيب حديقتها قبل موتها لكنه يكتشف في ذعر بأنه دمّر طبيعية الحديقة وجمالها. وفي “المتلصص” Stalkerلا تتوحّد العائلة ثانيةً إلا في العالم الما بعد رؤيوي.
البيوت
البيت مملكة العائلة. الصورة المحورية في أفلام تاركوفسكي. “إن سكنت في البيت، فسوف لن ينهار”.. هذا ما جاء في إحدى قصائد أبيه المتضمنة في فيلم “المرآة”.
لكن البيوت في أفلام تاركوفسكي مهجورة على نحو متكرر. البيت يمكن تذكّره كموقع لبهجة الطفولة (كما في: المرآة، سولاريس) لكنه في الوقت الحاضر يكون مكاناً غير ملائم، عارياً ومقفراً. في فيلم “نوستالجيا” يصبح البيت سجناً يحتجز فيه دومينكو عائلته لمدة سبع سنوات، منتظراً نهاية العالم، أو يصير البيت قوقعةً فحسب، مثل كوخ العجوز المجنون الذي يتعرض للقصف في فيلم “طفولة إيفان”. والصورة الأكثر إثارة للصدمة نجدها في تدنيس “بيت الله” عندما يقتحم قائد التتار بجواده الكاتدرائية في فيلم “أندريه روبليف”.
بيوت مهجورة تستردها الطبيعة وتسكنها العناصر: التراب والمطر والثلج (كما في: Stalker، سولاريس، نوستالجيا).
البيت، في الفولكلور الروسي، يتعارض مع الغابة (التي تحكمها الشياطين). وفي أفلام تاركوفسكي لا توجد حدائق ولا تخوم مروّضة. العائلات (في: المرآة، سولاريس، القربان) تقيم في الهواء الطلق، في الطبيعة، عرضةً للريح والمطر.
الكساندر (في القربان) هو الرجل الوحيد الذي، على نحو إعجازي، جعل من بيته مكاناً محبوباً يوفّر الدفء والراحة، وسوف يضطر في النهاية إلى تدميره.
أصوات العالم
العالم المسكون بأبطال تاركوفسكي هو عالم المادة. الأشياء والمواد في أفلامه، من التفاحة (في: الآلة والكمان) إلى الأدوات المنزلية المتكررة: الأسرّة، خزانات الملابس، المرايا، الأكواب، الأباريق، الطاسات (في أفلامه اللاحقة).. هذه الأشياء لها خاصية تذكارية، وذات اكتفاء ذاتي في البنية والشكل تستحضر عالم الفنان التشكيلي فيرمير.
عالم تاركوفسكي هو أيضاً عالم العناصر. الماء والنار، غالباً في توحدهما، من العناصر الرئيسية في هذا العالم. الماء كلّي الوجود وملموس.. إنه يهطل في شكل مطر وثلج، يتدفق في شكل جداول وأنهار، يقطر من الحنفية والدش، يتجمع في الأحواض والبرك الصغيرة. غالباً ما يكون نظيفاً ومطهراً، وأحياناً يكون راكداً وملوثاً.
النار حاضرة دوماً، في القناديل والشموع، لكنها أيضاً تتضمن التدمير الذاتي.
إنه عالم الريح أيضاً، الريح التي تندفع خلال الأشجار، تحرّك الستائر فتصدر حفيفاً، وتنزع غطاء المائدة.
إنه عالم الأرض والأحجار، نداوة الطين والصلصال، صلابة الخشب، وحْل العالم النباتي.
الخاصية الابتدائية لهذا العالم متخلقة كذلك عبر معالجة تاركوفسكي للضوء والصوت. الضوء الذي يميّز ويلمّع الأشياء والأفراد، الانعكاسات على الوجوه، ذبذبات الضوء.. كلها تواقيع تاركوفسكية.
المباشرية والفورية ظاهرة في الشريط الصوتي. موسيقى فياشيسلاف أوفشينيكوف، في الأفلام الثلاثة الأولى، كانت إيضاحية. لكن من فيلم “المرآة” فصاعداً، اكتشف تاركوفسكي بأن موسيقى باخ، بورسيل، بيتهوفن، فيردي.. هي التي تتلاءم مع رؤيته.
في موازاة الصوت نجد الصمت الذي فيه تتردد الأصوات الطبيعية بمباشرية نادرة: صرير الباب، قطرات الماء، خطوات على الثلج، تغريد طائر. الخاصية السمعية تكون فعالة أكثر في مشهد احتراق البيت (في القربان) حيث الفرقعة، الطقطقة، التهشم.. هي ظاهرة صوتية بقدر ما هي ظاهرة بصرية.
الرحلة
عندما يشرع البطل التاركوفسكي في القيام برحلة – نحو الفهم، أو على الأقل، نحو الاتصال – فإنه يفعل ذلك عبر الزمن والمكان معاً، والذي يعكس رحلة تاركوفسكي نفسه إلى المنفى والعمل في الخارج.
المسافر التاركوفسكي مثقل بالشك. اتصاله العابر، سريع الزوال، بالعائلة والأصدقاء غالباً ما ينتهي بالشجار والخيانة.. كما في شجار جورشاكوف ويوجينيا (في نوستالجيا) حول الترجمة واستحالتها. إن جورشاكوف يطلب من يوجينيا بإلحاح أن تطرح بعيداً ترجمتها إلى الإيطالية لقصائد أرسيني تاركوفسكي لأن الشعر (والفن إجمالاً) غير قابل للترجمة.
بطريقة مماثلة، لا يمكن تصدير تولستوي، بوشكين، دانتي، بترارك، ميكيافيلي. هذا يجعلهما يتوصلان إلى نتيجة: أن الناس والأمم غير قادرين على فهم بعضهم البعض.
لقطة من فيلم “ستالكر”
إيطاليا كانت البلاد الأوروبية التي زارها تاركوفسكي أكثر من مرّة، والذي فيها شعر بطمأنينة وراحة بال أكثر، وفي هذه البلاد نال الدعم والإعجاب. لكن إيطاليا أيضاً هي بلد الشكوكية المعاصرة التي تنزع إليها يوجينيا.
هذا الغموض بشأن الإمكانية الفعلية للترجمة – الإتصال، مغلّف بشكل مدهش في انحلال العلاقة بين يوجينيا وجورشاكوف نحو اللافهم المجروح.
المصالحة
لكن بهدوء وبتردد، أفلام تاركوفسكي أيضاً تمهّد الطريق نحو التسوية والمصالحة، نحو الحل، وتُكتشف الخرائط والأدوات الضرورية للرحلة. فمن أدواتها: الحب، الحلم، الفكرة الإستحواذية. مكتشفو هذه الأدوات (روبليف، Stalker، دومينيكو، أوتو) ينظر إليهم العالم العاقل بوصفهم مجانين. ومن خرائطها: الإنعكاس والذاكرة، التي تتضح أكثر في فيلم “المرآة” حيث الذاكرة تكون متخللة لكن منحرفة، مختلطة، غير جديرة بالثقة، ومعزّية أيضاً.
في الخاتمة الرائعة لهذا الفيلم، أليكسي (وهو طفل) تقوده أمه (وهي امرأة عجوز) ممسكة بيده إلى حيث تنبعث الموسيقى الكورالية المبهجة. لكن فيما تتراجع الكاميرا فجأة، نتذكر أننا على وشك الاقتراب من الغابة الجهنمية المظلمة (التي وصفها دانتي في الجحيم).
التضحية من أعظم الوسائل المتاحة في الطريق إلى المصالحة: إيفان الذي يمشي دونما إجفال، خائضاً المستنقع الليلي (في طفولة إيفان)، يعرف هذا مسبقاً، كما تعرف هاري (في سولاريس)، كذلك الدليل المنبوذ مع زوجته (في Stalker) ودومينيكو المجنون (في نوستالجيا).. أما أوتو غريب الأطوار (في القربان) فعندما يسألونه عن هدية عيد الميلاد التي أحضرها (خريطة تظهر أوروبا في القرن السابع عشر) وما إذا كانت تمثل تضحية عظيمة من جانبه، فإنه يجيب: “كل هدية تستلزم التضحية، وإلا فكيف تكون هدية؟”.
أبطال تاركوفسكي الآخرون سوف يدركون هذا: روبليف، أليكسي (في المرآة) جورشاكوف (في نوستالجيا) الذي يعود ليفي بوعده لدومينيكو فيفقد حياته. بينما ألكساندر (في القربان) يدمر بيته الحبيب ويضحي بسعادته في سبيل إنقاذ عائلته والعالم.
هذه الثقة، وهذا الإيمان، يساهمان في إنجاز خلق آخر، خلق الكلمة. وأفلام تاركوفسكي هي أيضاً مستودعات للكلمات المكتشَفه، تلك التي اكتشفها الشاب المتأتئ الذي يتخلص من عاهته عن طريق التنويم المغناطيسي (في بداية فيلم المرآة) قائلاً: “أستطيع أن أتكلم”. وتلك التي اكتشفها روبليف، بعد أن تخلى عن صمته الطويل ليواسي بوريسكا الناحب (في أندريه روبليف). وتلك التي اكتشفها الطفل الأخرس الذي (في نهاية فيلم القربان) يرتّل: في البدء كانت الكلمة.
هكذا، في نهاية مسيرة تاركوفسكي الفنية (في القربان)، بعد صور النار المدمرة، نرى مباشرةً صور الحياة: انطلاق الساحرة ماريا جرياً، حركات الضوء، أمواج البحر، الطفل وهو يسقي الشجرة، ثم موسيقى باخ.
الفن
الفن آخر خريطة عظيمة للرحلة التاركوفسكية. أفلامه تعج بأشعار أبيه أرسيني تاركوفسكي وتيوتشيف، بموسيقى باخ وبيرغوليسي وفيردي. أبطاله يكتشفون رسومات دورير وبروجيل وليوناردو وكبار الرسامين الإيطاليين.
هؤلاء الفنانين لا يستحضرهم تاركوفسكي منحنياً في إجلال واحترام أمام جمالهم وعظمتهم. بالأحرى، مشروعه لصياغة وعكس العالم هو استمرار واضح وصريح لمشروعهم، كما يقترحه المشهد المستوحى من بروجيل للأطفال وهم يلهون في الثلج في وقت الحرب (في المرآة).
الفن يمكن أن يكون دليلاً مخوّلاً حين تكون العقلانية غائبة. في مشهد المكتبة (في سولاريس) تتحالف لوحة بروجيل وفينوس مع كلمات سرفانتس وموسيقى باخ لتظلّل النقاش حول الضمير والإنسانية، وترويض “كريس” بالحب.. هذا الذي قبل مجيئه كان يصر أنه ليس شاعراً.
ثمة أدلاء آخرون، غير مرئيين، تقترحهم الإشارات الضمنية إلى فيرمير أو باسترناك، أو إعجابه المعلن (في كتاباته) بكبار السينمائيين: بريسون، بيرجمان، بونويل، أنتونيوني، كوروساوا، ميزوجوشي.
النساء
التركيز، غير المشوب بالإنحراف، على مشروعه الشخصي، أدى إلى استحالة تخصيص أدوار رئيسية ومحورية للنساء في أي فيلم له. النساء، بالنسبة لأبطال تاركوفسكي، مكوّنات أو عناصر أساسية أخرى للعالم المفترض، الكون الذي ينبغي إدراكه وفهمه. بالتالي فالنساء يظهرن على نحو غالب كزوجات وأمهات.
في هذا الدور، مثل هاري (في سولاريس)، هن أشبه بالوسيط الكيميائي، أو عنصر الحفز، لإيقاظ الرجل من جديد. لكن فيStalker هن ممنوعات بشكل صريح من دخول “المنطقة”. القلق الجنسي يصبح أخرساً في عمليات البحث التي يقوم بها أبطال تاركوفسكي، والذين بالأحرى يتبعون الخطى المحتشمة لأبطال الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
تاركوفسكي أيضاً يتعامل مع النساء الروسيات والأوروبيات بشكل مختلف. لا يوجينيا (في نوستالجيا) ولا أديليد (في القربان) مستعدتان لأن تنكرا رغباتهما الذاتية، وكلتاهما محاطتان بعناصر الخوف واللافهم. الإحباط الجنسي يقودهما إلى فجاجة العاطفة، وإلى حالة هيجان لا يستطيع أبطال تاركوفسكي التعامل معها. كلتاهما تتصرفان على نحو أخرق. يوجينيا تتمشي مترنحة بسبب الكعوب العالية التي تمنعها من الركوع. أديليد تصرخ نتيجة خوفها من الهجر (في وضع يشبه الولادة) متقلبة على نحو هستيري ولا تهدأ إلا بعد اعطائها حقنة مهدئة.
لقطة من فيلم “نوستالجيا”
النسوة الروسيات (البارعات في فن نكران الذات) مرئيات في ضوء أكثر تعاطفاً. أحياناً تحصل على درجة من البروز والاستقلال، كما في المشاهد المؤثرة للتواطؤ الأنثوي بين أم أليكسي وإليزافيتا بافلوفنا، وفي ما بعد بين الأم وزوجة الطبيب (في المرآة). وفي نهاية Stalkerتقدم أليسا الحب والحنان وتقاسم المصير.
الصور
أحد نقاط ضعف فيلم “الكمان والآلة” نجده في الرقة البصرية. إنها تقطن عالماً معروفاً، سهل الدخول إليه، ودونما أسرار. لكن مع المناظر الإستيلادية في “طفولة إيفان”، كاميرا تاركوفسكي سوف تبدأ أيضاً في التعرّف على العالم، عالم الطبيعة اللانهائي، أو بالأحرى، العالم الذي فيه الإنسان ليس سوى جزءٍ من الصورة.
عالم تاركوفسكي البصري يصبح مغلّفاً أكثر فأكثر باللغز، مفرّغاً من اللون، لكن كثيفاً بنيوياً. عالم فسيح يتعيّن على الإنسان عبوره في شكٍّ وفي ذعر.
في أندريه روبليف، في الرطوبة الأوليّة (Stalker)، في الأروقة اللانهائية (سولاريس)، ثمة تكوينات متكررة لشخصين أو ثلاثة مجتمعين معاً وسط فضاء شاسع بلا عون ولا ملاذ، ولا يمكنهم الاتكاء إلا على بعضهم البعض.
جميعنا، بحكم الحاجة أو الضرورة، يجب أن نعيد اختراع تاركوفسكي لكي نخاطب اهتماماتنا الخاصة. لكن عالمه، عالم المادة والروح، هو بالتأكيد عالمنا، في حرمانه وقلقه، في بحوثه والتماعات الدهشة فيه.
الفضاء الكوني (في سولاريس)، روسيا الجافة الغائصة في الوحل (في أندريه روبليف)، حقل الزمن والذاكرة (في المرآة)، وحتى المنطقة المدمرة (في Stalker).. كل هذا هو العالم الذي نسكنه نحن أيضاً. في قلب المنطقة، التي لا يمكن الاقتراب منها إلا بعبور الطرق الملتوية وغير المباشرة، توجد الحجرة التي فيها سوف تتكشّف رغباتنا، وتتحقق أمنياتنا الحقيقية.
إن ما نرثه من الرؤية التاركوفسكية الرحبة هي تلك الصور الغنية: أم أليكسي تعدو في رعب تحت المطر (المرآة)، الثلج يتساقط في كنيسة منهوبة (روبليف)، امرأة تناضل لتهدئ وجعها وخجلها (نوستالجيا)، طفل يسقي شجرة (القربان).
إنها صور من عالمنا.. إذا كانت لدينا أعين لترى.
المصدر:
Sight and Sound, January 1997