تارانتينو يستعيد سحر السينما في “ذات مرة في هوليوود”
أن يشارك فيلم جديد لكوينتين تارانتينو في مهرجان كان ليس حدثا عاديا بكل تأكيد، فهذا المخرج العبقري استطاع أن يؤكد حضوره القوي في السينما الأميركية وسينما العالم، بموهبته وخياله الجامح وقدرته الفذة على بناء المشهد وإدارة الممثلين، ودفع الحركة والحياة داخل مشاهد أفلامه، بحيث يستولي على أنفاسنا، ويسلب عقولنا، ويجذبنا من عالمنا ليدخلنا في حلم جميل ممتد، يظل يعيش طويلا معنا بعد ذلك.
هذا السحر الذي يتعلق بأسلوب السرد والتصوير والحركة هو أكثر ما يميز فيلم تارانتينو الجديد “ذات مرة في هوليوود” Once Upon a Time in Hollywood، فهو يدور في أواخر الستينات من القرن الماضي، في لوس أنجلس وهوليوود، وتظهر فيه شخصيات حقيقية معروفة كثيرة مثل رومان بولانسكي وشارون تيت وستيف ماكوين، ويحاكي تفاصيل الفترة، سواء من خلال شريط الصوت: الأغاني الشائعة والإعلانات التجارية التي يبثها الراديو والتلفزيون، أو اللقطات العابرة الكثيرة التي تستعرض خلالها الكاميرا (من داخل السيارة) واجهات المتاجر وطرز السيارات وملابس النساء اللاتي يعبرن الطريق، والأهم بالطبع، واجهات دور السينما التي ترتفع فوقها ملصقات الأفلام من الستينات خاصة تلك التي لا يزال يُغرم بها ويحن إليها ويستلهم منها تارانتينو، والتي ساهمت في تكوينه البصري والسينمائي.
ورغم كل ما رُوعي من دقة في تصوير تفاصيل الفترة، باستخدام الكثير من المقاطع واللقطات المقتبسة من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية أو المبتكرة والمصنوعة للإيحاء بأنها جزء مما كان يعرض في تلك الفترة، إلا أن فيلم تارانتينو ليس فيلما واقعيا أو يميل إلى الإيهام بالواقع، بل هو في تقديري الشخصي وطبقا لاستقبالي له، عمل خلاق ينبع من خيال جامح، يمزج الخيال بالحقيقة، والواقع بالمجاز، والتعليق الساخر بالكوميديا.
لكنه أساسا، تلاعب ماهر بالوسيط السينمائي نفسه، أي تطويع الشكل (الفورم) لكي يقول لنا تارانتينو في نهايته إنه لا يقيم وزنا لما حدث بالفعل على أرض الواقع عندما يصفعك برؤيته المتخيلة التي تعلي من شأن السينما فوق الواقع، ضاربا بتوقعاتك المسبقة عرض الحائط، لكي يؤكد لك أيضا أن ما شاهدته رغم دقة تفاصيله وصلته بالواقع كان عملا خياليا.. أي “شغل سينما”. وهذا هو أمتع ما في التجربة، أي تجربة الجلوس لأكثر من ساعتين ونصف الساعة لمشاهدة هذا العمل.
هوليوود الأسطورة والعنف
عنوان الفيلم يعتبر تحية للمخرج الإيطالي سيرجيو ليوني (صاحب “ذات مرة في أميركا”) الذي يسيطر بأفلامه على خيال تارانتينو. إلا أن الأخير يختصر أميركا في عالم هوليوود-الستينات، كمصنع كبير للأحلام، مع الكثير من الإشارات والتعليقات حول دور هوليوود في الترويج للعنف أيضا، وما إذا كانت تستحق أن ينعكس العنف عليها وعلى أبطالها الأسطوريين.
العنف مجسد من خلال الكثير من اللقطات والمقاطع التي تحاكي الأفلام ومسلسلات التلفزيون التجارية السائدة. أما إذا بحثت عن قصة محكمة الأطراف في فيلمنا هذا فربما لن تجد، فهو مؤلف من مشاهد متعددة تتراكم وتتعاقب، تجمع بينها شخصيات ثابتة بالطبع، تعيش واقعا يمرّ بفترة تحول.
أهم هذه الشخصيات الممثل “ريك دالتون” بطل أفلام الويسترن (من نوع بي موفيز B- movies) لكن هذا الممثل الذي كان معروفا خبا نجمه حاليا بعد أن تجاوز منتصف العمر، وأصبح حائرا يعيش أزمة وجودية دفعته إلى إدمان تعاطي الويسكي تحديدا، ينفجر أحيانا في نوبات من البكاء على سبيل الرثاء للذات. فالوقت هو فبراير 1969.. زمن الميني جيب والهيبيز وموسيقى “الروك آند رول” وحرب فيتنام وتمرد الشباب، وعلى مستوى هوليوود، هو وقت أفول عصر الشركات السبع الكبيرة (أو الاستديوهات) بسبب المنافسة الشرسة من جانب التلفزيون و”جيل التلفزيون”.
ريك دالتون يسعى للانتقال من أفلام الويسترن إلى أفلام الأكشن والعنف والمطاردات البوليسية. ينصحه وكيله “شولتز” (يقوم بالدور آل باتشينو في ظهور محدود مرتين أو ثلاث مرات فقط) بالذهاب إلى روما للعمل في أفلام “الويسترن الاسباغيتي” التي يخرجها سيرجيو كوروبوتشي (الذي اقتبس منه تارانتينو فيلمه “جانغو طليقا”). سيقاوم ريك في البداية مبديا نفوره من هذا النوع من الأفلام، لكن سيأتي وقت يستجيب ويغيب هناك لستة أشهر بعد ذلك يجني بعض المال ويعود بزوجة إيطالية.
الشخصية الأخرى التي تعتبر الضمير الشخصي لريك دالتون هي شخصية الدوبلير الشخصي له أو (الممثل البديل) الذي يحل محله في أداء الأدوار الخطرة، وهو “كليف بوث” (براد بيت). و”كليف” على العكس من ريك، متماسك، محدود الطموح، لا يعاني من الشرخ النفسي الذي أصاب صديقه، ولا من تضخم الذات، ولأن ريك فقد رخصة قيادته بعد أن تم سحبها منه، لا يمانع كليف من قيادة سيارة ريك دالتون ومشاركته الطعام والشراب والمبيت معه في منزله الفخم الذي يتصادف أنه يجاور منزل الممثلة شارون تيت التي انتقلت منذ أشهر فقط للعيش هناك مع زوجها المخرج رومان بولانسكي (يظهر في الفيلم مرتين فقط على نحو عابر من خلال الممثل الذي يقوم بدوره البولندي رافال زاولوتشي).
مشاهد من الفترة
ريك منبهر بجيرانه الجدد وبالأخص رومان بولانسكي (الذي ذاع صيته في هوليوود بعد “طفل روزماري”- 1968) ويعتبره كما يقول لصديقه وبديله “عبقريا”، لكنه لا يلتقي بأحد منهما. وسرعان ما يرحل بولانسكي إلى لندن للإعداد لفيلم جديد ويترك زوجته وحدها حاملا في الشهر الثامن في صحبة عدد من أصدقائها. سنرى شارون تيت تذهب ذات مساء بصحبة بولانسكي إلى ملهى “البلاي بوي” الليلي حيث ترقص وتهتز على نغمات الروك آند رول مع عدد كبير من الأصدقاء والصحبة والنجوم. وخارج المكان يقف ستيف ماكوين يدخن ويتبادل الثرثرة مع صاحبنا “ريك دالتون” حول شارون وبولانسكي وكيف أن حبيب شارون القديم ينتظر وقوع الطلاق بين الاثنين لكي يعود إليها!
في ما بعد في واحد من أجمل مشاهد الفيلم تتوجه شارون تيت (تقوم بالدور مارغوت روبي) إلى دار السينما التي تعرض فيلم “فريق الإنقاذ” الذي شاركت في بطولته مع دين مارتن، وتجلس داخل السينما، بعد أن ترتدي نظارات سوداء، تتابع في نشوة رد فعل المشاهدين وهم يتفاعلون ويضحكون على ما تتسبب فيه من مقالب.
أما “كليف” الذي يطلب منه القيام بدور الدوبلير في أحد الأفلام أمام بطل الكاراتيه العالمي بروس لي، فينتهي لتحدي بروس لي في مبارزة يطيح خلالها بكرامته ويهزمه شر هزيمة بعد أن يدفع جسده ليرتطم بسيارة زوجة المنتج ويحطم جانبا منها. وعندما يقبل كليف توصيل فتاة من تلك الفتيات اللاتي يعتبرهن صديقه ريك من ضمن صعاليك الهيبيز، يجد نفسه في المكان الذي اعتاد العمل فيه في أفلام الويسترن مع ريك، وهو المكان الحقيقي الذي كان يضم أعضاء جماعة تشارلز مانسون من الهيبيز المسؤولين عن الجريمة البشعة المعروفة.
لا يظهر تشارلز مانسون نفسه في المشهد، بل مجموعة من النساء من أتباعه، لكن كليف يصر على أن يلقي التحية على صديقه القديم مالك المنزل الذي يتردد عليه كل هؤلاء، أي صديقه “جورج” (بروس ديرن) الذي كان قد قام من قبل كثيرا بدور البديل له في السينما.. ورغم النظرات العدائية وأجواء التوتر التي يحيط بها تارانتينو هذا المشهد بحيث يجعلك تتوقع انفجار العنف في أي لحظة، يمضي كليف إلى الداخل ليجد جورج قد أصبح تقريبا شبه مقعد لا يستطيع مغادرة الفراش. كما فقد الإبصار، أي أنه لا يدري ماذا يدور من وراء ظهره في مسكنه الذي احتلته جماعة الهيبيز بفضل رفيقة جورج التي ترعاه، وأصبح المنزل الكبير يمتلئ بفضلات الطعام والفئران التي ترعى في المطبخ. هذا المشهد يمنحه تارانتينو كل سحر أفلام الويسترن وإيقاعه وغموضه، بحيث لا نعرف ماذا يمكن أن يحدث لكليف أمام إصراره على اقتحام المنزل المليء بالأسرار وإنكار رفيقة جورج وجوده في البداية ثم إصرارها على منعه من الدخول لكنه كأي بطل “أسطوري” قادم من عالم الويسترن يخوض معركته الأخيرة، التي لا تصبح -لحسن الحظ- الأخيرة!
لا يقدم تارانتينو فيلمه في سياق قصصي محكم بل في سياق “ما بعد الحداثة”. إنه يحتفي كثيرا بما لا يمكن تصور وقوعه على صعيد الواقع، ويمزج بين الأساليب، ويحتفي بالشعبي منها (الويسترن والأكشن والتشويق والجريمة) وينسج فيلمه مما يعرف بـ”الباستيش” pastiche أي محاكاة الكثير مما سبق أن علق في ذاكرة المشاهدين من أفلام أخرى، مع الاحتفاء الكبير بهوليوود الستينات وبسينما الماضي عموما من خلال نظرة “نوستالجية” مليئة بالحنين، وكلها عناصر أساسية في سينما ما بعد الحداثة.
وهو ينير الصورة بالكامل مع استخدام الألوان المتعددة الباهرة، ألوان الحلم أو الأفلام التي كانت تخرج من مصنع الأحلام في هوليوود في “عصر السينما”، فتارانتينو يمنح فيلمه عنوانا يذكرنا بحكايات الجدة، تأكيدا على طابعه الخيالي (رغم استناده على تفاصيل حقيقية). إنه احتفال كبير بسحر السينما، وعالم الخيال المصور، وعصر السنيما، عندما كان الذهاب إلى دار العرض المتعة الأساسية للشباب في العالم، وعندما كان مصنع الأحلام قادرا على إدهاشنا باكتشافاته في عالم النجوم. ومع ذلك يمكن القول أيضا إن الفيلم يعاني في بعض أجزائه من الترهل وفقدان الإيقاع بسبب طول المشاهد والخروج المتعمد بعيدا عن السياق، وكان يمكن أن يصبح أكثر تماسكا لو استبعد منه 5 أو 6 دقائق في المونتاج.
ليوناردو دي كابريو يصل هنا إلى قمة جديدة من قمم الأداء. إنه يتعامل مع الشخصية من الداخل بانفعالات الممثل داخل الفيلم، الذي يرتبك ويتأثر بالإفراط في الشراب ثم يتعثر في الأداء ويضطر لإعادة أداء اللقطة أكثر من مرة قبل أن يقسو على نفسه وينعزل ويقف أمام المرأة يبكي شعوره بالعجز، ثم يعود ويؤدي ويتفاعل مع فتاة صغيرة في الثامنة من عمرها تمثل دورها أمامه بحرفية عالية، ليخرج كل طاقته ويكشف عن ممثل حقيقي كبير، سواء في الفيلم من داخل الفيلم أي في دور ريك، أو في فيلمنا هذا كـ”دي كابريو”.
وأجاد براد بيت أداء دور “كليف” البديل والصديق والسائق والمساعد، أي مرآة ضمير صديقه الذي لا يستغني عنه، وسيلعب مع كلبته في المشاهد الأخيرة من الفيلم دورا كبيرا أيضا. أما مارغوت روبي فقد أتقنت أداء شخصية شارون تيت وأضفت عليها بعض الدلال والرقة والخفة ولكن في حدود الدور كما رسم لها. لكن هذا فيلم مخرج، من خيال رجل. ووجوده في الفيلم مباشر من خلال الراوي الذي يحكي بصوته من خارج الصورة، وهو ضمير تارانتينو نفسه.
زمن القتل
مع ظهور تاريخ الثامن من أغسطس 1969 على الشاشة، ذلك التاريخ الشهير الذي ارتبط بحادثة قتل شارون تيت البشعة على أيدي جماعة مانسون. يصبح التساؤل: ما الذي سيقع بالضبط وكيف سينتهي الأمر، وهل يلجأ تارانتينو إلى تكرار تصوير ما أصبح معروفا وموثقا في أفلام أخرى ظهرت عن الحادثة (خلافا لفيلم تارانتينو ظهر فيلمان هذا العام فقط في مناسبة مرور 50 عاما على الحادث)؟
سيظهر بعض أعضاء قبيلة مانسون ليلا، يتلصصون ثم يردعهم ريك ويرغمهم على الانصراف، لكنهم سيعودون مسلحين، ليس إلى منزل شارون تيت، بل أمام منزل ريك دالتون في وجود زوجته الإيطالية وصديقه ورفيقه كليف الذي تصحبه دائما كلبته المخلصة. لكن ليس مسموحا لنا بكشف التفاصيل التي يسردها لنا تارانتينو من وحي خياله العبقري.. فلا بد من مشاهدة الفيلم نفسه لكي تكتمل المتعة.
يكفي القول إن تارانتينو يعبر هنا عن خياله الخاص، ولا يسجل أحداثا يرويها حسبما نتوقع، بل يستدرجنا للدخول في اللعبة التي نسج خيوطها مسبقا، ثم يقول لنا في النهاية: هذه لعبتي الشخصية.. وأنت تورطت فيها دون أن تدري. وهذا هو “سحر السينما”!