بعد زيادة الإنتاج: الحاجة إلى ترميم الذاكرة السينمائية المغربية
إنتاجنا السينمائي المغربي لا يضرب عميقا في جذور التاريخ، فهو لم يتجاوز بعد عقده السادس إذا أخذنا بالرأي القائل بأن أول فيلم مغربي روائي طويل يعود إلى سنة 1968، واعتبرنا ما قبل ذلك مجرد تمارين تأسيسية لا تعدو أن تكون بمثابة المخاض الذي يسبق الولادة.
ومنجزنا النقدي المغربي الذي صاحب هذا الإنتاج السينمائي لم يعلن عن نفسه إلا خلال ستينيات القرن الماضي من خلال مجموعة من المقالات المتخصصة الواعية بموضوعها ومنهجها، أما قبل ذلك فلم يكن إلا تدبيجا إخباريا بسيطا يحوم حول الأشرطة المعروضة في القاعات السينمائية ولا يقوم بفحصها وتأملها. ومن المؤلم حقا أن هذا التاريخ القصير للإنتاج السينمائي المغربي وللمنجز النقدي الذي واكبه يكاد يبتلعه النسيان، وتلفظه الذاكرة لدرجة أننا بدأنا نسمع أن بعض الأشرطة قد فقدت تماما، وأن البعض الآخر لم يعد صالحا للمشاهدة، وأن كثيرا من الكتابات النقدية لا يعرف لها أثر لا لدى أصحابها، ولا لدى المؤسسات المكلفة بترويج المؤلفات. فكيف يا ترى سيكون عليه الحال مستقبلا إذا استمر هذا الإهمال وعدم الاكتراث؟ الجواب الطبيعي، فقدان المزيد من مقومات ذاكرتنا السينمائية.
ترميم الذاكرة الإبداعية
لقد راكم سينمائيونا المغاربة منتجا إبداعيا لا يمكن الادعاء بأنه حقق المنشود، وقارب التطلعات، واستجاب للانتظارات، ولكن لا يمكن أيضا الانتقاص من شأنه، والشك في قدرته على البناء، والتعامل معه باعتباره مختبرا للتجريب لم يفصح بعد عن ملامحه الخاصة. فإذا كانت السنوات الأولى التي تلت الاستقلال لم تشهد تراكما كميا منتظما إذ أن معدل الإنتاج لم يكن يتجاوز الفيلمين في السنة، فإنه ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي سينمو هذا المعدل وبنوع من التدريج إلى أن وصل إلى ما يقرب من العشرين فيلما في السنة. وبالموازاة مع هذا النمو الكمي، هناك تطور كيفي لا ينكره إلا جاحد مس موضوعات الأشرطة وطرق معالجتها، مع تفاوت ملحوظ في هذا التطور بين مخرج وآخر.
إذن فالفيلموغرافيا المغربية تطورت بشكل ملموس، لكنها لم تجد بعد مكانها الذي تستحقه في ذاكرة المشاهد المغربي. فإذا كان جيل الستينيات قد شاهد الحياة كفاح لمحمد التازي وأحمد المسناوي، وإذا كان جيل السبعينيات قد شاهد وشمة لحميد بناني، وإذا كان جيل الثمانينيات قد شاهد حادة لمحمد أبي الوقار، فماذا يعرف هذا الجيل عن هذه الأفلام بل وعن الأفلام الأخرى التي أنتجتها نفس المرحلة ؟ كما أن هذه الأفلام قد كانت مجالا للدرس والتحليل من طرف النقاد التي عرفتهم الساحة النقدية ساعتها، فأين المساءلة النقدية لتلك الأفلام من طرف الجيل الجديد من النقاد المغاربة؟ لماذا لا زال نقاد الأدب المغاربة يسائلون منجزنا الشعري القديم، ومنجزنا الروائي الذي أفرزته المرحلة الاستعمارية؟ ولماذا يتبرم أكثر نقاد السينما بالمغرب من إعادة قراءة البواكير الأولى من الإنتاج السينمائي المغربي؟
إن النقد الحديث لم يعد يقنع بالقراءة الواحدة، ويعتبر أن الإبداع بمختلف أشكاله حمال أوجه، وبالتالي فأنه فضاء مفتوح للقراءات المتعددة، وكل قراءة منتجة هي بالضرورة مختلفة عن القراءات الأخرى. أفلا يحسن بنا – تبعا لذلك – أن نعيد قراءة إنتاجنا السينمائي المغربي إنعاشا لذاكرتنا وترسيخا لهذا الإنتاج بداخلها.
ومما يؤسف له حقا أن بعض المخرجين المغاربة – لظروف قد تبدوا أحيانا موضوعية – قد فرطوا في بعض منتجاتهم السينمائية، وحينما تتاح لهم الفرص للحديث عنها تقرأ في أعينهم الكثير من الأسى والحسرة، فما أصعب أن يضيع جزء من الذاكرة صنعته المعاناة ومكابدة المشقات. أما من سلم من هذا الضياع فإما أنه مركون في علبه السوداء الباردة، أو أنه تعرض للتلف والتحلل ولم يعد صالحا للعرض.
إن أصول الأفلام سواء الموجودة عند أصحابها، أو داخل خزانة المركز السينمائي المغربي تحتاج بالفعل إلى ترميم بالمعنيين المادي والرمزي. ذلك أنه بالإمكان إعادة طبعها على وسائط حديثة، وإشاعتها بين جمهور عشاق الفن السابع وبطرق قانونية تضمن الحقوق لأصحابها، لأنه لا فائدة من منتج سينمائي يحبس بين الرفوف ولا يتم تداوله بين الناس.
في هذا الإطار بالذات على المركز السينمائي – باعتباره المؤسسة المسؤولة عن تدبير الشأن السينمائي المغربي – أن يعمل على فتح اعتماد سنوي داخل ميزانيته يخصص للحفاظ على الأرشيف السينمائي المغربي وحفظه، وجعله أكثر قابلية للاستعمال، بل وإثرائه بالبحث عن الأصول الضائعة من الأفلام المغربية، أو اقتناء ما هو متوفر عند ذوي الحقوق، والعمل كذلك على أن تكون عملية التخزين والحفظ سليمة مراعية للشروط المطلوبة في هذا النوع من الأشغال. تم الانتقال بعد ذلك إلى الخطوة الموالية المتمثلة في إنجاز بطاقات تقنية لكل فيلم تتضمن عنوانه، وموضوعه، وقياسه والمادة المسجل عليها، وعدد نسخه، والمساهمين في صنعه.
ترميم الذاكرة النقدية
إذا كان المنجز الإبداعي للسينما المغربية قد حقق تراكما كميا ينبغي صيانته وحفظه والعمل على نشره، فإن المصاحبة النقدية التي واكبت هذا المنجز الإبداعي قد خطت خطوات مهمة لا يمكن إنكارها على الرغم من أنها لم تؤسس بعد لاتجاه في الكتابة له ملامحه الواضحة وأسسه الثابتة ومعاييره الدقيقة كما هو الشأن بالنسبة للكتابة النقدية التي تتخذ من النصوص الروائية أو الشعرية مادة للتحليل والمساءلة. وتبعا لذلك فإن ما أنتجه نقاد السينما في المغرب يحتاج بدوره إلى إعادة ترميم لكي يكون متاحا أمام مجموع القراء والمشاهدين المنشغلين بهموم السينما المغربية وبهموم الكتابة عنها.
لقطة من فيلم “ماجد” لنسيم عباسي
إن المنجز النقدي الذي واكب نشأة وتطور السينما بالمغرب لم تظهر علاماته الأولى إلا خلال ستينيات القرن الماضي. أما قبل ذلك فلم يكن الأمر يتعلق في غالب الأحيان إلا بإشارات يغلب عليها الطابع الإخباري، وإن تعدى الأمر ذلك فلن يخرج عن إعجاب بالفيلم أو ذم له دون الاتكاء على منهج في القراءة واضح المعالم ثابت الخطوات. وقبل ظهور أول فيلم روائي مغربي طويل بسنوات قليلة بدأت التباشير الأولى لتأسيس ممارسة نقدية واعية بأسئلتها وبطرق اشتغالها تمثلت في جملة من المقالات التي نشرت في مجموعة من الجرائد المغربية المتخصصة في الميدان السينمائي. ومباشرة بعد ظهور الفيلم الروائي المغربي الطويل الأول ستعرف الممارسة النقدية انتعاشا ملحوظا أسهمت في تحققه النقاشات الشفوية التي أثمرتها تجربة الأندية السينمائية، وكذا المقالات المكتوبة التي احتضنتها صفحات المجلات المتخصصة والجرائد الوطنية، وستكون هذه المقالات بمثابة الركائز التي سيبنى عليها التأليف النقدي حول السينما بالمغرب بداية من نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
إن هذه الممارسة النقدية التي يزيد عمرها عن الخمسين سنة بقليل تكاد تكون في حكم المختفية اللهم إذا استثنينا المؤلفات النقدية التي توالى ظهورها بداية من الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل لمحمد نور الدين أفاية وموقع الأدب المغربي من السينما المغربية لخالد الخضري، مرورا بأبحاث في السينما المغربية لمصطفى المسناوي والسينما المغربية واقع وآفاق لإبراهيم آيت حو وصولا إلى محمد مزيان سينمائي وحيد ومتمرد لأحمد سجلماسي وسلطة الصورة وبلاغة الجسد لعز الدين الوافي. بل حتى بعض هذه المؤلفات قد اختفت من واجهة المكتبات، وتاهت في دائرة النسيان، ولم تأخذ حقها من المتابعة والدرس والتحليل.
وما يقال عن المؤلفات النقدية يقال أيضا عن المقالات النقدية التي نشرت في المجلات المتخصصة أو في الجرائد الوطنية بين ستينيات وثمانينيات القرن المنصرم. فمعارف أكثرنا قليلة بمتون هذه المقالات، لأنها اختفت باختفاء الفضاءات التي احتضتها ونقصد بذلك مجلة الشاشة المغربية ومجلة سينما ومجلة دراسات سينمائية والصفحات الأسبوعية التي كانت تخصصها الجرائد الوطنية للسينما المغربية.
من المؤسف أن تتعرض هذه الذاكرة النقدية – والتي لم يمر عليها حين من الدهر طويل – إلى كل هذا الإهمال مع أن هناك من الإمكانيات ما يتيح لها أن تبقى حية مشعة. فإذا كان بإمكان المركز السينمائي المغربي أن يخصص اعتمادات مالية سنوية لفائدة الأفلام والمهرجانات والقاعات، فبإمكانه أيضا أن يفتح بابا في ميزانيته السنوية يخصص للعناية بأصول الفيلم المغربي ولطبع وإعادة طبع المؤلف النقدي الذي يواكب هذا الفيلم بالدرس والتحليل. كما أن بإمكان بعض المؤسسات النشيطة والفاعلة في الحقل السينمائي المغربي كالجامعة الوطنية للأندية السينمائية، والجمعية المغربية لنقاد السينما وكذا كافة الجمعيات والهيئات المكلفة بتنظيم الملتقيات السينمائية أن تعمل غلى فتح أوراش تناط بها مهمة تجميع شتات المنجز النقدي الذي تزخر به المحلات والجرائد الوطنية حتى يستطيع الجيل الجديد من القراء أن يتعرف على ما خلفه الجيل القديم من النقاد.
إن ترميم الذاكرة السينمائية المغربية عمل جبار لن يكتب له النجاح إذا ما تم رهنه بجهود الأفراد، فالتجارب السابقة أكدت بالملموس أن المبادرات الفردية تبقى مجرد صيحة في واد، فعمل من هذا القبيل لن يؤسسه لقاء هنا وبيان هناك، إنه ورش كبير ينبغي أن يبقى مفتوحا وأن تتبناه المؤسسة الثقافية الرسمية بالبلاد وتتولاه بالرعاية الكاملة باعتباره انشغالا رئيسيا وهما كبيرا وليس لحظة عابرة أو واجهة من واجهات الاستعراض والتباهي.
* ناقد من المغرب