بعد إغلاق دور السينما: السينما العراقية المستقلة…عقبات وخيارات
منذ أكثر من عشرين عاماً انتهت دور السينما في العراق، ففي الوقت الذي كانت فيه سينمات شارع السعدون؛ التي تتجاوز لوحدها ثماني سينمات، لم تعد هناك دار عرض واحدة يمكن أن تؤمها العوائل العراقية، أو الذين يريدون مشاهدة فيلم حديث، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهذا ما أدى لإغلاق الكثير من السينمات القديمة، مثل سينما الزوراء في شارع الرشيد، وحاولت سينما سميراميس والنصر الحفاظ على مستواهما في العروض الخاصة، غير أن تخوف العوائل من الخروج إلى الشارع وارتياد هذه الأماكن، أدى إلى تحولهما مثل غيرهما لسينمات رخيصة تعرض أفلاماً أقرب إلى الإباحية، في سبيل جذب الشباب والمراهقين.
عام 2003 كان فاصلاً في تاريخ السينما في العراق، فقد أغلقت دور السينما عموماً، وبقيت بعض الدور الرخيصة، مثل الخيام والرصافي في الباب الشرقي، تعرض الأفلام الإباحية وتقدم تذاكر دخول لفيلمين أو ثلاثة بسعر واحد. في الوقت نفسه، كانت دائرة السينما والمسرح قد توقفت تماماً عن إنتاج أفلام عراقية بتمويل حكومي، وتوقفت شركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني عن تقديم أي عمل بعد أن انتهى النظام الذي كان يملكها، غير أن هناك شباباً برزوا بعد هذا العام مباشرة، منهم المخرج عدي رشيد، الذي قدم فيلم «غير صالح» على أنقاض دخول القوات الأمريكية لبغداد، مستخدماً مواد خاماً منتهية الصلاحية، غير أنه تمكن من إخراج هذا الفيلم الذي كان من بطولة الفنان القدير يوسف العاني مع مجموعة من الشباب، وتصوير الفنان زياد تركي.
استمرت مشاريع الشباب ليظهر جيل جديد بعد عدي رشيد، ويبرز الفنان محمد الدراجي ومهند حيال، فضلاً عن المخرج هادي ماهود الذي أنتج أفلاماً حينما كان في أستراليا وعاد ليخرج أفلاماً أخرى.
المثير في الأمر أن مهرجانات السينما العراقية بدأت تتوإلى واحداً بعد آخر، غير أن أغلب الأفلام التي كانت تقدم في هذه المهرجانات كانت عبارة عن تقارير تلفزيونية لا علاقة لها بفن السينما. السؤال المهم هنا: ما دور المشاريع الخاصة في تطور السينما العراقية؟ وما الصعاب التي تواجهها، إذا لم يكن التمويل هو العقبة الوحيدة؟ وما الذي أضافته لهذه السينما؟
آخر الحسابات
الفنان مهند حيال يشير إلى أن السينما الخاصة أو تلك التي تعرف بـ(المستقلة) هي التي أخذت على عاتقها إنشاء سينما عراقية جديدة تستطيع الذهاب إلى المحافل الدولية والمنافسة في أهم المهرجانات العالمية وتعريف العالم بالواقع العراقي، والمقصود هنا هي السينما التي انطلقت بعد عام 2003.. فكل التجارب (الحكومية) لم تنتج لنا على مر الأزمان سوى أفلام تمجد فكر تلك الحكومات بطريقة البروبغاندا المجانية وغير المتقنة.
ويضيف حيال أن السينما صناعة تتطلب مشروع دولة وليس برلمانا، هناك عدة قوانين يجب أن تقر بالبرلمان العراقي من أجل النهوض بواقع السينما العراقية، خصوصا مشروع صندوق دعم السينما وفصل دائرتي السينما والمسرح أسوة بعدة دول جارة. ويؤكد حيال أن التمويل يقف على رأس تلك المشكلات، فهو العقبة الأصعب، فالسينما الخاصة أو المستقلة تعتمد على مفهوم الإنتاج المشترك بالشكل الغالب منها، وهذا النوع من الإنتاج يتطلب الكثير من الوقت والجهد الذي يتطلب عدة سنوات من أجل إنتاج فيلم واحد, كما أن الشركات الخاصة؛ في الغالب، تنتج أفلاماً تجارية، فضلاً عن أنها غير موجودة في الساحة العراقية، فرأس المال العراقي ما يزال يضع الثقافة؛ والسينما بالخصوص، في آخر اهتماماته تماماً مثلما تفعل الدولة العراقية.
صعاب التمويل
ويرى فراس الشاروط أن من أسباب نهوض السينما العراقية في بداياتها الأولى وجود القطاع الخاص بإنتاجه لمشاريع سينمائية خاصة أعطت مردوداً جيداً للسينما، غير أن بدخول حزب البعث إلى السلطة وغلقه لهذه الشركات وهجرة يهود العراق الذين يعدون من أصحاب رؤوس الأموال الداعمة لحركة السينما، وجعل الإنتاج السينمائي بيد الدولة حصرا، أدى إلى انتكاسة كبيرة في مسيرة السينما العراقية. لذا فإن ازدياد المشاريع السينمائية بعد عام 2003، تلك التي تعتمد على إنتاجات صغيرة وخاصة يعيد الحيوية للسينما العراقية، ويؤدي إلى كثرة الإنتاج ربما بالكم على حساب النوع، وبالتالي فإن النوع هنا يبرز على حساب الكم، والدليل هو ما حدث في أفلام بغداد عاصمة الثقافة، فعلى الرغم من الكم الهائل من الأفلام التي تجاوزت الـ(100) فيلم، لم يبرز سوى ثلاثة أفلام، وهذا شيء صحي حقيقة للسينما والعاملين بها، فمن خلالها سقطت أسماء كبيرة فيما برزت أسماء مهمة قدمت أفلاماً خارج حدود عاصمة الثقافة ونجحت بموهبتها فقط وليس بإنتاج مادي خيالي. ويضيف: «لا أعتقد؛ بل متأكد، أن هذه المشاريع الخاصة الصغيرة مهمة جداً في تطوير حركة السينما العراقية، خصوصاً أنها تأتي على يد شباب متنور واعٍ في ظل حركة التطور التقني الذي يشهده العالم».
كما لا يظن الشاروط أن هنالك صعابا أو عقبات كبيرة تواجه صناع السينما العراقية عدا مشكلة التمويل، ما زلنا بحاجة إلى رجال مؤمنين بالسينما وأثرها الفعلي في البناء والتغيير، كي ينتجوا أفلاماً كبيرة. الآن هنالك العشرات من شركات الإنتاج مزودة بأحدث أجهزة التصوير والمونتاج الفيلمي، فقط، ربما يبقى الحلم مؤجلاً بالنسبة لصناع الأفلام بصناعة فيلم سينمائي حقيقي، بكاميرا سينما ومواد خام سينمائية، هذه فيها صعوبة كبيرة إلى جانب صعاب التمويل، فأغلب المخرجين الآن يستسهلون صناعة الأفلام عن طريق الكاميرا الديجتال (الفيديو) والموبايل والآيباد ولو بتقنيات سينمائية، لظروف إنتاجية ووضع البلاد الآن، غير أن هناك بوناً شاسعاً عن صناعة فيلم بمواد سينمائية حقيقية.
فضاء مشحون
غير أن الروائي والمخرج مرتضى كزار يؤكد أن مفهوم السينما المستقلة في العراق أصبح مشوشاً قليلاً بفضل تباين وانفتاح مصادر التمويل، ففي أوساطنا لم يعد الاعتماد على التمويل الحكومي مجدياً وملائماً لما تطرحه السينما من موضوعات وقضايا كبيرة، فمضافاً إلى الروتين المعقد جداً يصعب أن نعثر على نماذج جيدة ممولة رسمياً إلا في حالات فارقة تؤسس فيها الدولة نوافذ واسعة وممنهجة وفق دراسات وخبرات تهدف لتنمية قطاع السينما والتلفزيون.
ويبين كزار أن صفة السينما أصبحت مغرية في التجارب المحلية والمجاورة لأن أغلب التجارب الناجحة والناطقة بضمير حياتنا الاجتماعية وخصائصها النفسية والسياسية والتاريخية هي تجارب مستقلة تتوسل بتحرر الإنتاج وعبور الأسوار. ويشير كزار إلى أن السينما المستقلة تبقى مرتبطة بالتمويل الفقير واستعمال كاميرات ديجتال وإضاءة طبيعية وكوادر غير محترفة نسبياً، وقد يتداخل هذا مع تجارب عالمية تستعمل التقنيات الرقمية الجديدة ذاتها منخفضة التكاليف، لكن الاختلاف يكمن في خصوصية البيئة وإشارات اللغة الصورية، وهي مشتركات لا يقدم لها الإنتاج الضخم حلاً أو سنداً لأنها تفاصيل ذاتية وإبداعية خاصة بالصانع عراقياً، فالسياق العربي متشابه، لكن المؤسسة الرسمية وعبر قنوات التمويل والدعم الحالية تصنع العثرات ولا تمرر التجارب الجيدة. ولا نغفل طبعاً عن الرقيب الذي علاوة على تراجعه ثقافياً وانعدام خبرته فهو بحاجة إلى رقيب يراقب خياراته وذائقته، ولذلك يتجلى خيار التمويل المستقل كأسلوب أمثل نحو تحرك حر في مساحات رحبة داخل فضاء عراقي مشحون بالقصص المتعطشة للسرد، صورةً ولغة.
عقبات الإنتاج
ومن وجهة نظر المخرج بشير الماجد، فإن السينما في كل العالم ينتجها القطاع الخاص الذي يتبنى تأسيس دور عرض مناسبة ومنافسة لاسترجاع ما أنفق على أفلامه وتحقيق أرباح تفوق التوقعات.. المؤسسة الرسمية إن تدخلت في صناعة الأفلام فسوف تفرض مفاهيمها من دون شك..عندها يصبح المنتج الحكومي بروبغاندا لآيديولوجية ما. وبما أن العراق بلد خالٍ تماماً من شركات الإنتاج السينمائي، فسيتحتم بديهياً غياب دور العرض السينمائية.. وإذا ما جازف شخص ما بإنتاج فيلم سينمائي شامل لمستويات العمل الفني، سيمنى بخسارة كبيرة لأنه غير قادر على استرجاع ميزانية الإنتاج عبر شباك التذاكر.
ويوضح الماجد أن ما أنتج من أفلام بعد عام 2003 لم تنتج بمال عراقي خالص، بل استعان صاحب العمل بجمع تبرعات من منظمات إنسانية وفنية وثقافية، أو استعان بشركة إنتاج أجنبية لتكون المالك الحقيقي للفيلم ومسؤولة عن تسويقه وبيعه. ولا يعتقد الماجد أن هذا سيسمى إنتاجاً عراقياً. لكنه في الوقت نفسه يرى أن التمويل ليس العقبة الأكبر، بل أن تحطيم البنى التحتية للسينما وتهديم دور العرض وعزوف الناس عن ارتياد الصالات (إن وجدت) لفقدان الثقة بين المنجز السينمائي العراقي والمتلقي، هذه العوامل أكبر من عقبة الإنتاج، فما ينتجه بعض المخرجين بأموال غير عراقية (وحتى العراقية) لا يعرض للجمهور العراقي لغياب تقاليد وثقافة المشاهدة وغياب الأماكن التي يفترض أن تعرض فيها تلك الأفلام.
ويضيف: نعم هناك صناديق لدعم السينما من الدولة في بعض الدول العربية لمساعدة القطاع الخاص، وأحياناً يكون الدعم الحكومي عن طريق قرض مالي بدون فوائد أو رفع الرسوم الجمركية على استيرادات الشركات السينمائية الخاصة.. «نحن بحاجة إلى ترميم أو تأسيس دور عرض سينمائية جيدة لإعادة الثقة للناس أولاً وعرض أفلام أجنبية حديثة.. الأمر الذي سيشجع على تأسيس شركات إنتاج خاصة والمراهنة على القدرات العراقية بمنجزها الجديد».