“باترسون” لجيم جارموش.. الهايكو سينمائيا

ما إن نسمع عن قربِ خروجِ فيلم جديد للمخرج الأمريكي المستقل جيم جارموش Jim Jarmusch للقاعات السينمائية، حتى تكبر آفاق الانتظار والتوقعات عند السينيفيليين، وتولد في الأذهان صورة عن فيلم ربما مبالغ فيها بحجم ارتباطنا بأعمال هذا المخرج وما تعدنا به أفلامه السابقة. عندما تتوفر إمكانيات مشاهدة العمل، نفاجأ في كل مرة بفيلم هادئ وبديهي، واستثنائي بعفويته المفرطة، لكنه في نفس الآن غير متوقع ومبهرٌ ببساطة مُمتنعة، فيلم عندما نشاهده نعاتب أنفسنا لأن خيالنا ذهب بنا بعيدا وجعل توقعاتنا تهرب بنا عن الأشياء البسيطة.

لا نصاب بخيبة أمل، لأن الفيلم يعفينا من التشبث بالصورة التي كَونّاها عنه قبل مشاهدته، ويقترح نفسه في النهاية كعمل يشبه الحياة في إيقاعها الرتيب نوعاً ما، يتحدث عن أشياء مألوفة جدّاً، قد تبدو للإنسان العادي تافهة ومبتذلة ولا تصلح ذريعة لفيلم سينمائي، لكنها في هذا السياق الفيلمي تتحول إلى عناصر كتابة سينمائية شعرية.

مرة أخرى يظل جيم جرموش وفيا لاختياراته، ويأتي عمله الجديد منسجما مع مساره السينمائي الذي انطلق مند عمله الأول Permanent Vacation” 1980 مرورا بــ”الورود المنكسرة” 2005 و”حدود المراقبة” (2009)، متخليا كما العادة عن استعمال توابل الفرجة السينمائية الأمريكية، تلك السينما التي من المفروض أن تحقق النجاح أينما عرضت وأينما رحلت، لأنه من بين الثوابت التي تجعلها منتشرة ومهيمنة على السوق العالمية، أنها لا تتجدر كثيرا واقعها الاجتماعي ولا تغامر إبداعيا.


يسافر بنا فيلم “باترسون” (2016) بنوع مختلف من التشويق، وتتولّد متعته من كونه فيلماً يقترح نفسه مساحةً للتّأمل والتّفكير عن مسافة من الواقع، خصوصا عندما نعلم أنه مقتبس عن قصيدة للشاعر الأمريكي ويليامز كارلوس ويليامز William Carlos Williams 1883-1963)، أحد الشعراء الذين سبقوا مدرسة نيويورك الإبداعية المعروفة، وهي قصيدة يتحدث فيها الشاعر عن مدينة “باترسون” بوصفها رجلاً، بخلاف الأدبيات التي تحضر فيها الأرض والبلد والوطن مجازا في صورة امرأة، كما أنّ المدينة تحمل نفس اسم البطل وكأن أحدهما استعارة للأخر. يقدم الفيلم المدينة في صورة تبدو معها وكأنها توجد في نهاية العالم أو على الأقل في أمريكا العميقة، رغم أنها لا تبعد عن نيويورك إلا بثلاثين كلم، وتقدَّم أيضا في الفيلم على أنها تعيش على هامش الرفاهية الاقتصادية أو تعيش وضع ما بعد الأزمة العالمية بنفس الصورة التي قُدِّمت بها مدينة ديترويت “Detroit” التي صورها جيم جارموش في فليمه ما قبل الأخير عن قصة حب زوج من مصاصي الدماء “وحدهم العشاق يُتركون أحياءا” بعد أن هجرتها صناعة السيارات.

يحكي فيلم “بَاتِرْسُونْ” سبعة أيام من يوميات سائق حافلة (َAdam Driver)، الذي يقوم، بالموازاة مع حياة روتينية، بكتابة قصائد شعرية، تعيد الاعتبار لتفاصيل اليومي الأكثر بساطة والاحتفال بها، قصائد مستوحاة من الأشياء المحيطة به وأيضا من جولانه في مدينته وهو يؤدي عمله كسائق حافلة والتي نرى من خلالها لقطات متحركة لواجهات مدينة “باترسون” وبعض المشاهد من الحياة اليومية للمدينة ترافقها دردشات الركاب، المعبّرة عن اهتمامات المواطن وتفاصيل يومه البسيطة أو صداها من خلال قصائد “باترسون”.


يمر اليوم الأول والثاني من يوميات “باترسون” ونعد أنفسنا أنه، في اليوم الموالي أو الأيام الموالية، سيحدث شيء ما قد يغير مجرى الأحداث، لكننا في الأيام الموالية نفاجأ بنفس الأفعال تتكرر ونفس الطقوس مع تغيرات طفيفة لا تتأخر في أن تندمج بسلاسة في الإيقاع اليومي لبطلي الفيلم. تتكرر إذن الأفعال والحركات أكثر من مرة في نظام وتوقيت محكم وروتيني، حتى في حالة خروج أحداث الفيلم عن المألوف، عندما تقوم مثلا الكلبة “مارفين” أثناء غياب “باترسون” و”لورا” (Golshifteh) بتمزيق الكراسة السرية التي كان الأخير يدون فيها أشعاره، فيتعامل معها البطل بحياد وبرود ولامبالاة، وهي الكراسة التي ظلّت زوجته “لورا” تتوسل إليه وتترجاه طوال الفيلم بلطف ودون إلحاح، أن ينسخها لإرسالها لأحد الناشرين. يؤدّي في النهاية هذا التكرار وظيفةَ طبعِ أجواء الفيلم في ذاكرة المتفرج وتثبيتها، ويدفعنا إلى التّوقّف عند الأشياء البسيطة وتأملها، في أدق تفاصيلها التي تأخذ أهمية قصوى في سياق هذا ألحكي السينمائي المتقشف: يتحول تأمل علبة أعواد كبريت من النوع القديم أو أفعالٌ بسيطة مثل تهيئ حلوى أو شراء قيثارة إلى أفعال ذات أهمية كبيرة، نعاود اكتشافها أو نتأملها برؤية مغايرة.


نتوقع أن حدث ضياع كراسة ” باترسون” هذا، في اليوم ما قبل الأخير، سيغير مسار الأحداث ويقلب نظام الأشياء، ويهرب بنا الفيلم بعيدا عن نثرية اليومي رغبة منا في جرعة ولو ضئيلة من الإثارة كما عودنا جزء كبير من تاريخ السينما، لكننا نصاب بخيبة لا تدوم طويلا. نجد أنفسنا بالمقابل نتورط في النهاية في هذا الإيقاع اليومي بمتعة خفية، ونرتبط بالحياة البسيطة لهذه العلاقة التي تجمع بين “لورا” و”باترسون” اللذين يعيشان في انسجام تام وشبه عزلة عن محيطهما الاجتماعي وكأنهما يعيشان في كوكب آخر.

يوجد هذا الزوج دون أن يكون مجبرا على الانصهار في خطاطة درامية، ويحقق هذا الزوج منذ اللقطات الأولى حبا، بطعم إحساس تعيشه شخوص حقيقية، رغم أنه يصل إلى مستوى نادر من الانسجام والتناغم كما لو أن الأمر يتعلق بحلم، إلا أننا نحس هذا الوضع ممكنا ونقتنع به لأن صورة هذا الزوج لا تأخذ مصداقيتها من محاكاة الواقع أو التطابق معه ولكن بما هي مجموعة من الأحاسيس والمشاعر الصادقة التي لا تتولد فقط من المواقف الدرامية ولكن بتضافر كل العناصر وغياب أي تنازل من طرف الرؤية الإخراجية تجاه خطاطة درامية لسيناريو تفرض وجود مشاهد الفيلم في الدرجة الأولى للتفسير والتوضيح والعرض حتى تصبح الحكاية مقنعة. إن كتابة فيلم “باترسون” تعفينا من الحاجة لأي معلومات للفهم، لأننا لا نطالب بالفهم ولكن بالإحساس باللقطة بما هي زمن حاضر بامتياز وبما هي لحظة مقتطعة من حياة الشخصيات.


يرى “باترسون” وهو يسوق حافلته بين الفينة والأخرى عابرا شوارع مدينة “بَاتِرْسُونْ”، أشياء غريبة كالتوائم من مختلف الأعمار وكأنّها رسائل مشفرة أو إشارات، أو ربما أن ذلك لا وجود له إلا في ذهنه. لا أستطيع هنا أن أقاوم الرغبة في العودة لفيلم “الشعاع الأخضر” “Le rayon vert “1986 للمخرج الفرنسي أريك رومير، حيث تتلقى البطلة “دلفين” “Marie Rivière” في سفرها بحثا عن الحب وهربا من الوحدة خلال عطلة الصيف، في لحظات متفرقة من الفيلم، بعض الإشارات على شكل أوراق لعب تجدها أرضا، فتتعامل معها كرسائل من القدر وكإعلان عن وقوع حدث سيغير مجرى حياتها، الشيء الذي يتحقق في النهاية عند لحظة ظهور الشعاع الأخضر التي هي لحظة نادرة التحقق. عندما تغرب الشمس ويكون الجو في حالة صفاء وربما حتى النفس، يظهر الشعاع الأخير منها في شكل وميض أخضر، وعند رؤيته تتحقق الأمنيات حسب المعتقد الشعبي، وحسب الاعتقاد الشخصي لبطلة الفيلم التي يضطرها ذلك إلى التوقف لحظةً وتأمل الأشياء حولها، والتوقف أيضا عن أداء دور السائحة في المدينة التي تقضي فيها عطلة الصيف صدفة، لتنتمي فعليا إلى المكان.

آنذاك يُصبح بإمكانها أن تجد الحب حيث لا تتوقع. في فيلم “باترسون” تبقى هذه الإشارات غامضة بدون تفسير منطقي، يلتقطها الذهن، ولا نبحث لها في هذا السياق عن علاقة مباشرة مع أحداث الفيلم، لأنه لا يحصل أي إنجاز يضفي عليها وعلى مختلف عناصر الفيلم معنًا نهائيا، مع أن الانسجام والتناغم الذي يميز العلاقة بين الشخصيتين هو في حد ذاته يقدم، مند بداية الفيلم، حالة من الاكتمال قلّما تقدمه السينما بل حتى وإن تم ذلك فإنه غالبا ما يكون في لحظات قصيرة، لتتركنا معلقين بحبكة تتهيكل أساسا على غياب هذا الوضع وجعله أفقا انتظار، تفصلنا عنه دراميا عقبات وشخصيات تتعارض أهدافها مع الشخصية الرئيسية، وجعل الانسجام لحظة مستحيلة، تأتي في النهاية كحل لعقدة ما، وكتحقيق لرغبة تعويضية للمتفرج ولإجباره على متابعة الفيلم وإتمامه لبرمجته على قيم وأفكار معينة، أو فقط لتحقيق النجاح التجاري.


يتهيكل بناء الفيلم على التكرار في كل مستويات الكتابة، بدون تمييز بين السيناريو والكتابة الإخراجية، اللذين جاءا منسجمين تماماً وفي حالة من التوحد، لأنهما في الغالب لم يأتيا كمرحلتين منفصلتين. تحكي يوميات البطل “باترسون” أياماً متشابهة حيث تتكرر نفس تفاصيل الحياة اليومية.


يصورها الفيلم باستعمال نفس اللقطات (نفس زاوية الالتقاط ونفس الإطار) مشاهد متعددة عندما يتعلق الأمر بأفعال تحدث في نفس المكان والزمان في فترات متفرقة من الفيلم: الذهاب إلى العمل صباحا، العودة إلى المنزل، الخروج ليلا والذهاب إلى الحانة…. هذا الاختيار الذي يمطط الزمن ويبطئ وتيرة تطور الأحداث، التي من المفروض أن تكون تصاعدية (أي أن اللقطات تبدأ في الفيلم عامة، ومع تقدم الأحداث تصبح قريبة أكثر على سبيل المثال) ويكسر خطية السرد من داخل احترام كرونولوجبا الأحداث. إننا في هذه الحالة لا نرتبط باللقطات كمجموعة من المعلومات المكملة لبعضها البعض لخدمة الحكاية، التي تغيب في فيلم ” باترسون”، ولكنها تأتي كلحظات مستقلة بذاتها وفي نفس الآن كوحدة فيلمية لسرد سينمائي.

تتكرر نفس اللقطة عدة مرات دون أن يجعل ذلك المدة الزمنية لنفس اللقطة تتقلص باعتبار أننا سبق أن شاهدنا مثلها مرات من قبل وبالتالي يكفي أن نرى الجزء لتكمل ذاكرتنا الباقي. نتوقف بفعل أسلوب التوضيب هذا على كل واحدة منها مدة من الزمن مرات عديدة تسمح بوقت كاف للقراءة والتأمل، حيث يمكن لعين المتفرج أن تتجول داخل اللقطة وتعيد اكتشاف نفس التفاصيل وتبحث عن أخرى جديدة خصوصا مع تكرار نفس اللقطة بنفس المحتوى ونفس التكوين في سياق سردي ينحاز إلى أسلوب متقشف يغيب فيه حدث درامي بارز يكون هو المحور الذي تدور حوله كل العناصر.

 يعيش “باترسون” حياة روتينية في بناء يجعل نفس العناصر القليلة ترتبط فيما بينها في علاقة رجع الصدى أو بمنطق العلاقة التي تربط الأشكال والأحجام في التركيب التشكيلي، الشيء الذي يؤدّي في النهاية إلى جعل الأحداث تتطور أو بالأحرى تتقدم في خط أفقي وليس في خط تصاعدي بمنطق علاقة السببية الدرامي الذي يربط بين الوحدات السردية والأفعال الدرامية . مثلا كل ما تقوم به “لورا” عندما يذهب زوجها للعمل من رسم وإعادة ترتيب فضاء البيت أو صنع حلويات يُستعمل فيها فقط اللونان الأبيض والأسود وفي نفس الآن عندما تدعو زوجها إلى مشاهدة فيلم في قاعة السينما تختار فيلما بالأبيض والأسود في اللحظة الوحيدة التي نراها تغادر البيت وهي تؤكد في الحوار عند مغادرتهما لقاعة السينما على أن الفيلم بالأبيض والأسود.

بفعل التكرار وقلة المكونات الحكائية وندرتها، ووجود مستويات مختلفة من العلاقات بين مختلف العناصر تتجاوز العلاقة الدرامية، يجعل الفيلم لا يقدم من الواقع إلا تصميمه الداخلي، مبرزا بنيته وتركيبته، وبالتالي يصبح طبيعيا أن يتخلى عن الإكسسوارات ليصل إلى الجوهر بالمعنى الفلسفي أو الكشف بالمعنى الصوفي للكلمة. إن غياب الحكاية إذن لا يأتي هنا كتنويع يهدف إلى اقتراح فرجة بنَفس آخر ولكنه يأتي كاختيار متكامل ومنسجم لا يتوقف في المنتصف ولكنه يواصل الطريق بإصرار وعناد يجعلنا نلامس جوهر الأشياء. تعيدنا هذه الكتابة إلى التعريف الذي يقدمه المخرج الفرنسي جون لوك كودار للسينما في إحدى حواراته على أنها ليست وسيلة تعبير كباقي الفنون الأخرى، ولكنها إمكانية أخرى للتفكير الفلسفي. فيلم “باترسون” ينطلق من فكرة سينمائية أو بالأحرى تصَوُّر عوض حكاية أو سيناريو، ليخلص في النهاية إلى عمل يبدع مفهوما أو مفاهيم تعادل المفهوم الفلسفي من حيث تكثيف المعنى. يصبح الفيلم في هذا السياق لحظة تفكير في الحياة والسينما وفي العلاقة التي تجمعهما.

إننا نغادر الفيلم بدون أي يقين يجسده انجاز ما، ونضطر إلى إعطاء زمن العرض معنىً خاصّاً بنا كل على حدة، أو بالأحرى لا نحتاج إلى ذلك، لأن المعنى يجعل للعمل، مهما كانت تركيبته الدرامية لا تخضع لمنطق متعارف عليه وكان طرحه انقلابيا، مركزاً ما أو نقطة هروب (في سياق المنظور بلغة التشكيل)، ويجعله يذهب نحو تبسيط الواقع عوض أن يكون الفيلم تَمَثُلاً لمستويات تعقيده والوقوف على استحالة القبض عليه.


لا يرسم فيلم “باترسون” الحدود الفاصلة بين ما هو واقع- فيلمي وما هو غير واقعي أي الرؤية التخيلية للشخصيات أو المؤلف. تدفعنا بعض مشاهد الفيلم إلى أن نعيد النظر في وضعها وأن نشكك في واقعيتها رغم أنها أتت مندمجة في سياق الحكي، لا تسبقها أية علامات تدل على أنها ليست واقعية ولكنها فقط من وحي خيالات الشخصيات أو رؤية السارد/المخرج ذاته. يمكن أن نذكر هنا على سبيل المثال المشهد الذي يلتقي فيه “باترسون” نفسه الطفلة التي تتحدث عن الشاعرة “إميلي ديكنسون” Emily Dickinson  وتكتب الشعر، والمشهد الذي تنهش فيه الكلبة دفتر الأشعار وتُمزّقه، والذي يمكن أن نرى فيه تحقيقاً لرغبة “باترسون” في أن تبقى كتاباته سرية، كصدى لإحدى شخصيات الروائي الأمريكي النيويوركي بول أوستير في رواية ” كتاب الأوهام” 2002 الذي يشير له الفيلم بشكل خفي عندما نرى إحدى رواياته ضمن مكتبة الشخصية “باترسون” وهي الرواية التي تحكي عن مخرج يصور أفلاماً لا يُشاهدُها إلا هو ويرفض أن تعرض خارج هذا الإطار، فيوصي بعد موته بتدميرها دون أن نعرف لذلك سببا مباشرا.

في المشهد الذي يلتقي فيه “باترسون” بالسائح الياباني عند النهر “باسيك” Passaic حيث من عادته الاستراحة والتأمل في فترة الظهيرة، يُقدّم هذا السّائح نفسه في سياق الدّردشة على أنّه هو الآخر شاعر ويتقاسم مع البطل نفس الحب لنفس الشعراء كوليام كارلوس ويليام الذي اُقتبس الفيلم من إحدى قصائده .

عندما يسأل الأخير “باترسون” خلال نفس المشهد إن كان هو الآخر ينظم الشعر يرد أنه ليس إلا سائق حافلة، فقط سائق حافلة حسب تعبيره، وتزداد غرائبية اللقاء وكونه فقط رؤية، عندما يهدي هذا الشاعر الياباني البطل في أخر اللقاء كراسة جديدة وكأنه يعرف رغبة الأخير في التخفي ويحترم اختياره ويعلم في نفس الآن بضياع الكراسة التي كان يُدون فيها أشعاره، ويدعوه بذلك إلى مواصلة الكتابة.

يذكرني هذا المشهد أيضا ببعض الأعمال الروائية لبول أوستير، حيث تشكل صدفة شراء كراسة بلون ما بداية لمغامرة كتابة وتجربة إنسانية جديدة كما هو الشأن في رواية “ليلة النبوءة” 2004 على سبيل المثال.


ينتهي الفيلم بشكل مفاجئ وغير متوقع، لا يحدث ما يجعل شيئا ما يتحقق، أو ما يجعل الشخصية تتغير وتتغير معها رؤيتها للعالم أو حدث مفارق يقلب نظام الأشياء وترتيبها المحكم في أفق تحقيق قيم متفق عليها كما هو الشأن في أي فيلم مكتوب بتصور متعارف عليه، لكنه ينتهي وهو يحقق بإمتياز مفهوم الفيلم كجزء مقتطع من الحياة. يواصل “باترسون” الشخصية برتابة أداء طقوس يومه كما العادة، ينهض صباحا وقبل أن يغادر الفراش ينظر إلى زوجته النائمة نظرة حب، يفطر ويلتحق بالعمل، ربما سيكتب قصائد جديدة، ربما سيرسلها هذه المرة إلى ناشر، نزولا عند رغبة “لورا”، أو أنه هذه المرة لن يفصح عن ذلك وتبقى قصائده سرية.

 لا يعدنا بأكثر ممّا قد تعدنا به الحياة نفسها. عندما نصل إلى نهاية السير ونغادر حافلة “باترسون ” نحس أننا عدنا من أجواء تشبه الحلم بأحاسيس وذكريات جميلة ورقيقة ، أحاسيس تتجاوز المنطوق والمحكي، كما لو أننا انتهينا للتو من قراءة قصيدة شعرية لن يمر وقت قصير حتى نعود إليه بنوع من الحنين، وكأنها ذكرى شخصية.


تتحقّق شعريته فيلم “باترسون” ليس فقط من كون بطله شاعرا أو مقتبسا عن قصيدة شعرية أو أيضا من كون بعض مشاهده رافقها تعليق صوت البطل وهو يقرأ قصائده، ولكن لأنه مُبهر بشدة بساطته، ومتقشف ومكثف كقصيدة هايكو، صارم باختياراته التي حافظ عليها في أدق مكوناته، ولأنّه أيضا لا يعيد صياغة اللغة السينمائية بشكل يجعلها فقط تحاكي البلاغة الشعرية، إنه يحقق شعريته سينمائيا من داخل لغة السينما.

Visited 71 times, 1 visit(s) today