الهوية الفارسية في فيلم “السجاد” لكياروستامي

سعاد زريبي- تونس

شكلت أفلام كياروستامي نقلة نوعية في صورة إيران داخل مهرجانات السينما العالمية ولكن هذا النجاح لم يكن ممكنا لولا تلك الخصوصية الفارسية والإيرانية التي لعبت دورا هاما في صناعة سينما كياروستامي والسينما الإيرانية عموما التي وفقت في صناعة هويتها السينمائية الخاصة من خلال توظيف موروثها الإسلامي، الصوفي، الشعري وروح الشعب الإيراني في طيات افلامها.

لقد مثل كياروستامي سفير سلام إيراني، وعبر عن عمق الموروث الثقافي الفارسي شعرا وفلسفة وسنتعرف في هذا المقال على احدى ايقوناته الفنية وهي فيلم “السجاد” وهو فيلم قصير يصور من خلال عباس كياروستامي ابيات شعرية لسعدي الشيرازي نسجت على سجاد إيراني بالخط الفارسي وكأننا بعباس كياروستامي يعيد تصدير تاريخ السجاد الإيراني الى العالم من خلال الصورة السينمائية.

يعتبر الخط، علاوة عن سماته الجمالية و الفنية تعبيرا عن الحكمة الانسانية يقول اقليدس “الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بالة جسمانية” فهو تعبير عن جمالية الروح و تطلعها نحو الجمال والحكمة، فكرة صاحبتنا اثناء مشاهدة الفيلم القصير “السجاد لعباس كياروستامي”، فيلم يعبر عن ثلاث جمالات: جمالية اللون، جمالية الخط و جمالية المكان المنسوج “الحديقة”.

 عرفت الثقافة الإيرانية في موروثها الفني والثقافي بشدة اهتمامهم بالكتابة وبالخط و التهذيب والتجليد على الكتب و التصوير “ان الانسان اذا أتيح له النظر في مخطوط إيراني قديم لا يكاد يدري بأي شيء يعجب” يمتاز الخط الإيراني بزخرفة فائقة الدقة، الجمال الاخاذ، اشعاع الأصفر المذهب يسر الناظرين، الدقة، الليونة، السلاسة والاناقة الفائقة لا تستساغ الا لم تمكن من اللغة الفارسية . كان الخطاطون مثل المصورين ذوو شأن في الثقافة الفارسية فقاموا بكتابة الصحف، بعض الكتب الأدبية والشعر ويعتبر النستعليق الذي ينسب الى مير علي التبريزي السمة البارزة للخط الفارسي و الذي يعبر عن فنية وادراك عالي يصعب قطع شفراته يقول زكي محمد حسن ” لقد بقي هذا النوع من الخط الأسلوب القومي للكتابة الإيرانية و لا يزال حتى اليوم بقوة هيهات أن يصيبها الضعف”.

ان الجمال و التذهيب هما السمتان الأبرز للخط في الثقافة الإيرانية فالجمال مرتبط بطريقة الكتابة أما التذهيب فمرتبط بالزخرفة وباللون الذهبي الذي يكتب به و كان المذهبون يعتمدون على الألوان كثيرا من أجل إضفاء الجمال وكان الامر يتطلب الكثير من الابداع و على المخطوطات فكانوا يعتمدون الأزرق، البرتقالي، الأحمر، الأخضر تزيدها الزهور و رسوم بعض الطيور جمالا ورونقا. لم يكن عباس كياروستامي بعيد عن هذا السياق التراثي الذي مجد فيه الفرس في الحضارات القديمة الكتابة بل عمد في كثير من أفلامه على التعبير عن قيمة الخط في حياة الانسان وخاصة عند الناشئ ففي فيلم أين منزل صديقي يأخذ المعلم

كراس أحمد بور و يقول لهم أنه يطلب منهم أن يكتبوا على الكراس كي يتسنى له مراقبة خطهم و مدى قدرته على تحسين خطهم. ونلاحظ أن هذا الفيلم هو تمجيد لقيمة الكتابة فالطفل أحمد خطاط جيد وهو في تحسن. ينقسم الخط في الثقافة الإيرانية الى ثلاث أنواع: خط النسخ، خط التعليق، خط النستعليق. إن أحمد طفل مبتدئ في الكتابة أنه يحترف خط النسخ. يداه الصغيرتين بالحبر ويخلط بين كراسه وكراس صديقه. إذا أخبرتك للكتابة في دفتر، فهناك أسباب مهمة للكتابة في الدفتر أولا الانضباط وثانيا يمكننا أن نقارن بين الكتابة اليوم والكتابة في الشهر الماضي.

فلئن عبر كياروستامي عن أهمية الخط بشكل مبطن في فيلم أين منزل صديقي فإنه قد أفشى شدة تعلقه بثقافته الفارسية والإيرانية من خلال فيلمه القصير السجاد حيث يدعم كياروستامي مقولة جون لوك نانسي فيه “انه شرقي وشرقي جدا”. لقد غاص كياروستامي بكاميراته وبالة تصويره وبكلماته في عمق الروح الصوفية والشعرية للثقافة الفارسية فلم يغب عن أفلامه الفكر والحياة لكن في فيلم “السجاد” لم يغب عنه التاريخ الطويل للهوية الإيرانية والفارسية للثقافة والشعب الإيراني الذي يعتبر السجاد من أبرز منتوجاته الفنية والثقافية.

لم يكن عباس كياروستامي سعيدا بواقع ايران اليوم لشدة الخلفات والتوترات التي تعيشها في الفترة الحياة بقدر إعجابه وانبهاره بالتاريخ الفارسي في كل صنوف الحياة والفن بل في كل أشكال التعبير والابداع والتواصل. وهو يبحث من خلال صورة السجاد عن ماضي قديم لمجد الثقافة الإيرانية وللروح الفارسية التي اندثرت في ثنايا النزاعات، وكأننا بكياروستامي ينحت هوية جديدة بطين قديم لإيران. ما يفسده التطرف دينا وسياسة تصلحه الصورة الفنية بكل اشكالها تلك هي السياسة الرسمية لأفلام عباس كياروستامي وكأنه يحول الفن الى فعل تواصلي مع العالم يحول ايران من بلد مخيف الى بلد مبهر بصوره وبأعماله الفنية.

يصور كياروستامي هذا النوع من السجاجيد وكأنها خريطة أو مصور لحديقة، بين طرقاتها و أقسامها و مجاري المياه فيها فضلا عما فيها من النبات و الزهور و الواقع أن حب الحدائق و الزهور من أبين الصفات في الفن الإيراني و أن الزهور و النبتات تزين أرضية أكثر أنواع السجاجيد المعروفة و معناها أن السجادة حديقة ملأى بالسوسن و الورد ولذا اتخذها البلبل سكنا له” وينسج هذا النوع من السجاجيد “الروضة الغناء”.

تكمن جمالية السجاد في الثقافة الفارسية في حبها للحياة، اذ تجمع بين جمالية اللون الأحمر، دقة التشكيل و نظام المساحة بأشكال مستطيلة الشكل ،تتوسطها روضة بغصون الأشجار، الزهر والبلبل تصريحا بعذوبة المشهد و الحياة في هذا الاطار أي الحديقة جليا أن الزخرفة، الحياة ،الطبيعة و الانسان الفنان أربع عناصر لا يمكن أن نفصل بينها في الحياة و الفن الإيراني يقول ثورت عكاشة ” الفرس مفطورون على حب الزخرفة”

لا تكمن جماليات فيلم “السجاد” لعباس كياروستامي في جانبها البصري الذي يأسر العين لجمالية المشهد المصور بل للمعاني العميقة في للعبارات الشيرازية المنسوجة على الجوانب الأربع للسجاد وكأنها تحرس الحديقة الغناء. تعود هذه العبارات لأبيات شعرية لسعدي الشيرازي تقول بعض أبيات القصيدة “براعم الأشجار من انجاز البلابل”، “تفتحت الشجرة بالبراعم و البلابل ثملة”، ” بساط العشب أصبح هشيما تحت أقدام الفرح”، “قال السرو أنك غير مثمرة ردت : الأحرار فقراء لا يملكون شيئا”. ان فيلم السجاد هو فيلم قصير يجمع بين نغمية اللون و عمق المعنى فحول من حدث المشاهدة احتفاء بالحياة ، نزوع عن درك الشقاء، ميل نحو نعومة الحياة وعذوبة العيش فوق البساط بين أشجار السرو ونغمات البلبل.

يحتفي عباس كياروستامي بتاريخه ويخرج عن صورة الواقع البائس الى حنين وعودة نحو الفن الفارسي القديم حيث: عذوبة القول، جمالية اللون و نبل المقاصد الإنسانية و الوجودية. يحيل فيلم السجاد الى سماء كاملة من المعاني السعيدة تغنى بها كل الشعراء القدامى وتميز بها سعدي الشيرازي في كتابه كلستان روضة الورد حيث تنعم الحياة بين روضات الورد الماء نهرها سلسبيل التي تنتج من الثمار فنون وفوق زرابي الزبرجد الخضراء وبين الأوراق السندسية وحلل النيروز وأعطاف الأشجار، تنتعش مشاعر الشكر، الرحمة، الرزق، النعمة، السرور، الخير، الفرح، الحياة. 

إنها احتفالية الحياة حيث تتناغم الطبيعة مع الحياة الإنسانية لترسم فلسفة للوجود الثري بالمعنى. يكرم عباس في كل فيلم من أفلامه شعراء الفرس على طريقته وكأنه يمسح الغبار على تحفة فنية قديمة في متحف الذاكرة ليجدد ما طمر في ثنايا النسيان وكأنه يقول مع سعدي الشيرازي أن عبق الأزهار  أريج البستان لا يموت الى الأبد.

           بروضتي ورد ندي بالورق     فلم من البستان نبأت الطبق

           فالورد عمره قصير الأمد      وروضتي تزهو لأخري الأبد

لئن كان فيلم “السجاد” فيلما قصيرا إلا أنه فيلم بعيد وعميق في جذوره التاريخية، فالعودة الى سعدي الشيرازي ليست عودة الى مقاطع شعرية فحسب بل عودة الى شاعر الإنسانية وأمل في معاودة عبره وديانته التي تؤمن بالحياة و بالإنسان. ان فيلم السجاد على الرغم من كونه فيلما ذو ملامح هووية إيرانية واضحة فأنه يحمل في طياته ديانة كونية مرصعة بالشعر والآيات والامثال والعبر.  تحول سعدي الى معلم ومرشد يقول امرسون، الكاتب والمفكر الأمريكي المشهور في القرن التاسع عشر، “ان سعدي ينطق بلسان جميع شعوب العالم”.

يفتح الوقوف العميق عند هذا الفيلم القصير الوقوف على اعتاب الماضي المجيد لتاريخ الخط في الفن الاسلامي الذي شاد بذوق المسلمين بحبهم للمعرفة وتناقلها دينا وشعرا وميلهم الى الجمال الفني فالمسلم تأخذه “ما تحويه الكتابة من جمال المعنى وروعة الحكمة فهو يرى ويسمع همسات الآيات المنقوشة التي تعيده الى دخيلة نفسه واعماق وجدانه وهكذا اصبحت الكتابة وسيلة للتزيين كما هي وسيلة للمعرفة”.

ان العودة الى سعدي والى اشعاره هو عودة مفاده التشابه في الوضع السياسي والديني والاجتماعي للقول الشعري عند شعر سعدي الشيرازي[1] وسينما عباس كياروستامي فكيلهما يأمل في مجتمع متناغم ومتجانس وحياة رضية هنية لجميع افراد المجتمع ولمل البشر.

 تعتبر العودة الى التاريخ المجيد للأسلاف سياسة جديدة للعالم المعاصر الذي يريد أن يفلت الجميع من رداءته ومن بشاعته ولكن عودة عباس كياروستامي الى التاريخ الفارسي هو احياء رمزي لجهد ثقافي كبير لا يقتصر على السجاد الإيراني بل ينفتح على ثقافة شاسعة تمتد على كل جهات الفكر والابداع من الشعر الى ادب القصص الفارسية القديمة الشهيرة، الى العمارة بكل أنواعها الزخرفة، الزجاج داعما كل هذا الموروث الثقافي بقدرة المخرج الشاعر، المصمم، الرسام والفوتوغرافي لينسج مزيجا بين عبق الماضي والانفتاح على الحاضر.


 

Visited 3 times, 1 visit(s) today