المعيار الأخلاقي في الحكم على المنتج السينمائي المغربي

تكاد مجمل الكتابات التي تناولت بالنقد والتحليل موضوع السينما المغربية خلال السنوات الأخيرة تتشابه في زاوية نظرها إلى هذا الموضوع، فهي لا تني تردد مقولة الأزمة، وتتوسع في رصد ملامحها، واقتراح حلول بشأنها، لدرجة أصبح معها القارئ يتوقع – كلما باشر إنصاتا لمقاربة نقدية موضوعها السينما المغربية – حديثا عن الخلل والسطحية والتفاهة والغرابة والنظرة الفولكلورية وقصور الفكر وضعف المخيلة وتفكك البناء. ولاشك أن سيادة هذا التوجه، تعود في جزء منها إلى الواقع الذي تعيشه السينما، كما تعود في جزء آخر إلى فهم ضيق للنقد السينمائي يحصر مهمته في تصيد الأخطاء والهفوات. ويندرج كتاب ” السينما المغربية الواقع والآفاق ” لإبراهيم آيت حو في سياق هذا التوجه، لأنه يقوم على أساس أطروحة مركزية مفادها أن السينما المغربية تشكو من أزمة بنيوية.                                                                                       

ويقع هذا الكتاب – الذي يعتبر أول إصدار نقدي لصاحبه – في مائتي صفحة من القطع المتوسط موزعة على قسمين: قسم نظري يعرض لتجليات أزمة السينما المغربية، وقسم تحليلي يتناول مكوناتها الفنية والفكرية. وقد تم تصدير هذين القسمين بمقدمة وتذييلهما بخاتمة.     

في المقدمة نبه الناقد إلى أن هذا الكتاب هو في الأصل مجموعة  من المقالات التي نشرت على صفحات الجرائد الوطنية، والتي تتقاطع ضمن فكرة مركزية مؤداها أن السينما المغربية تعاني من أزمة بنيوية.                                                         

وخلال القسم الأول من هذا الكتاب راح الناقد يبحث عن تجليات هذه الأزمة عبر أربعة عشر فصلا.                                                                               

فصول الكتاب

ففي الفصل الأول المعنون بالنقد السينمائي إلى أين، تحدث الناقد عن التراكم الكمي والكيفي الذي حققه النقد السينمائي المغربي، ثم أقر بعد ذلك بخروج هذا النقد من معطف النقد الأدبي، ليعلن في الأخير عن هيمنة الرؤية الانطباعية في التعامل مع الأفلام المغربية لدى غالبية النقاد السينمائيين المغاربة.  

وفي الفصل الثاني المعنون برهانات النقد السينمائي بالمغرب، تحدث الناقد عن ثلاثة شروط ينبغي توفرها في كل قارئ سينمائي : أولها تسلحه بتكوين فكري متين، ومعرفة عميقة بتاريخه ومجتمعه وثقافته. وثانيها وعيه بأن العمل الإبداعي هو الذي يفرض منهجية التحليل المناسبة. وثالثتها استحضاره لفتوحات الثورة الإعلامية التي هبت رياحها على العالم بأسره.                                                                        

وفي الفصل الثالث المعنون بأزمة السينما المغربية هل هي أزمة سيناريو، حدد الناقد في البداية مفهوما للسيناريو، ثم ذكر بعد ذلك مراحل كتابته، ليصل أخيرا إلى الأزمة التي يعاني منها في مجمل الأفلام المغربية، محددا تمظهراتها، مقترحا حلولا لتجاوزها.                                                                                  

وفي الفصل الرابع المعنون بأزمة التمثيل في السينما المغربية، أشار الناقد في البداية إلى أسباب ومظاهر هذه الأزمة، لينتقل بعد ذلك للحديث عن الشروط الذاتية والموضوعية التي تحكم مجال الممارسة العملية للممثلين.                                    

وفي الفصل الخامس المعنون بموقع الموسيقى التصويرية في السينما المغربية، أعطى الناقد في البداية مفهوما للموسيقى التصويرية، ثم حدد بعد ذلك وظائفها، ليصل إلى واقعها داخل السينما المغربية، مركزا بهذا الخصوص على عدم توفق جل السينمائيين المغاربة في اختيار موسيقى منسجمة مع المواقف والأحداث والانفعالات التي ينوون التعبير عنها. وفي نهاية الفصل، حدد أسباب هذه الظاهرة، واقترح حلولا لتجاوزها.  

وفي الفصل السادس المعنون بالسينما والمكان، تحدث الناقد في البداية عن أهمية المكان في السينما عامة، ثم انتقل بعد ذلك لمقاربة هذا المكون داخل السينما المغربية، ملاحظا بهذا الخصوص تعامل السينمائيين المغاربة التبسيطي معه، محددا الشروط السليمة التي ينبغي استحضارها أثناء توظيفه.     

وفي الفصل السابع المعنون بالسينما والجمهور، حدد الناقد في البدء الأسباب الكامنة وراء انصراف الجمهور المغربي عن سينماه الوطنية، ثم اقترح بعد ذلك مجموعة من الحلول التي بإمكانها الحد من هذه الظاهرة.  

وفي الفصل الثامن المعنون بالسينما، التلفزيون، الفيديو علاقة صراع أو تكامل، أشار الناقد في البداية إلى الأضرار المادية التي لحقت بالسينما من جراء منافسة التلفزيون، لكنه أكد في الأخير أن هذه المنافسة لن تشكل خطرا على السينما، خصوصا إذا حرص المخرجون على توخي الإبداع الحق، وتملك رؤية واعية وأصيلة تجاه هموم مجتمعاتهم.

وفي الفصل العاشر المعنون عبد القادر لقطع وأزمة السينما المغربية، عرض الناقد للوضع السينمائي السيئ بالمغرب من منظور مخرج سينمائي مغربي هو عبد القادر لقطع.                                                                                     

وفي الفصل العاشر المعنون بسينما وطنية بلغة أجنبية، ركز الناقد في البداية على التعامل القاصر للسينمائيين المغاربة مع اللغة، حينما ينظرون إليها بمعزل عن خلفياتها الحضارية والثقافية، محددا في الأخير السبل الكفيلة التي تمكن من التعامل الإبداعي معها.          

وفي الفصل الحادي عشر المعنون بملاحظات حول السينما المغربية الناطقة بالأمازيغية، ركز الناقد بالدرجة الأولى على الخصائص الفنية والموضوعية لهذه السينما، محددا ملامح قوتها وضعفها.   

وفي الفصل الثاني عشر المعنون بالجامعة الوطنية للأندية السينمائية أية آفاق، أشار الناقد في البداية إلى الدور الثقافي الذي لعبته هذه المؤسسة، ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن المناخ السياسي والثقافي الذي احتضن نشأتها، ليحدد أخيرا الطريقة التي تشتغل بها في الوقت الراهن، والتغيرات التي من الضروري أن تطولها مستقبلا.    

وفي الفصل الثالث عشر المعنون بالسينما المغربية وسؤال الهوية، حدد الناقد في البداية مفهوم الهوية في الحقل السينمائي عموما، ثم أكد بعد ذلك افتقاد السينما المغربية لهوية حقيقية.                                                                                      

وفي الفصل الرابع عشر المعنون بالأفلام الأجنبية التي تصور بالمغرب، وقف الناقد في البداية عند الأسباب التي تقف وراء توجه الأجانب نحو المغرب لتصوير أفلامهم، ثم ذكر بعد ذلك بالفوائد التي تجنيها السينما المغربية من هذه العملية، ليشير في الأخير إلى مخاطرها، داعيا إلى ضرورة التعامل الحكيم معها. 

وخلال القسم الثاني من الكتاب، اقترب الناقد اقترابا نقديا من بعض الأفلام السينمائية المغربية، محاولا رصد خصائصها الفكرية والفنية. وهكذا أشاد بجرأة مضمون فيلم ” باب السماء مفتوح ” وروعة إخراجه، وتوقف عند الخصائص الفكرية والفنية لسينما نبيل لحلو، ورصد مظاهر التوجه الغرائبي في أفلام مصطفى الدرقاوي، وحدد معالم البناء الدرامي لشخصيات فيلم ” مكتوب “، واستحسن قيام فيلم ” بوتافوناست والأربعين لصا ” على أساس تراثي متين.      

وفي الخاتمة أعاد الناقد تذكيرنا بتجليات أزمة السينما المغربية سواء على مستوى التوظيف البشري، أوالرؤية الفكرية، أو أدوات التحليل، أو الإبداع الفني، أو التكوين المعرفي، أو الوعي الاجتماعي، أو القراءة النقدية، أو الممارسة التمثيلية، أو الاستعمال اللغوي، أو الاستثمار المكاني، أو البنية التحتية.                                              

تقويم وحكم

والواضح من خلال هذا العرض الموجز لمحتويات الكتاب أن إبراهيم آيت حو كان منشغلا بالبحث عن تجليات أزمة السينما بالمغرب، فوجد أن هذه الأزمة تطول جميع مكونات الوضع السينمائي المغربي : النقد والكتابة والتمثيل والموسيقى والمكان والتلقي والتداول والهوية. فمجمل الكتابات النقدية تعمد إلى إصدار أحكام دون الاستناد إلى خطة منهجية واضحة، والناقد السينمائي في حاجة إلى تكوين فكري وفني وإلى وعي بلحظته التاريخية وشرطه الإنساني والثقافي، والسيناريوهات المعتمدة في جل الأفلام المغربية تفتقد الاتساق والتكامل، والممثلون المغاربة يحتاجون إلى التكوين الأكاديمي، والموسيقى التصويرية توظف يشكل سيء، والمكان يستثمر بشكل سطحي، والجمهور المغربي عازف عن مشاهدة الأفلام السينمائية المغربية، والتلفزيون استحوذ على زبائن السينما، والمخرجون السينمائيون المغاربة متذمرون من الأوضاع التي يشتغلون فيها، واللغة الأجنبية لا يتم توظيفها إبداعيا داخل الأفلام السينمائية المغربية، والسينما المغربية الناطقة بالأمازيغية لازالت لم تكمل خطواتها الأولى، والجامعة الوطنية للأندية السينمائية تشتغل بطرق تقليدية، والسينما المغربية تحتاج إلى هوية، والأفلام الأجنبية المصورة بالمغرب تسيء للحضارة والقيم والأخلاق.                                                    

والحق أن الوضع السينمائي المغربي موسوم بالعديد من هذه المظاهر، لكن ذلك لا يسمح لنا أن نتحدث عن أزمة بنيوية ترخي بظلالها على كل مكوناته، لأن الحديث عن الأزمة معناه أن الواقع الموسوم بها واقع اكتملت بنياته الأساسية، والحال أن واقع السينما بالمغرب لازال يخطو خطواته الأولى، وبالتالي فإن مصطلح الأزمة لا ينسجم وواقعا بهذه الصورة. ثم إن العمر القصير للسينما المغربية لم يكن كله ظلاما دامسا، بل أفرز إشراقا وتوهجا من الصعب إنكاره. لذلك فأننا تعتقد أنه آن الأوان للاحتفاء النقدي بتوهجات السينما المغربية وإشراقاتها لأن من شأن ذلك أن يشحذ الهمم ويدفع بها في اتجاه مزيد من الخلق والإبداع.                                                                                   

خلفية أخلاقية

ومما أثار انتباهنا – ونحن نتفحص هذا الكتاب – أن إبراهيم آيت حو قد كان محكوما في تصوره عن السينما المغربية بخلفية أخلاقية تستبعد في الكثير من الأحيان الأبعاد الجمالية في الممارسة السينمائية المغربية. معنى ذلك أن المعيار الأخلاقي المستمد من القيم الدينية والوطنية والحضارية هو المؤهل أكثر من غيره  للحكم على جودة المنتج السينمائي أو رداءته، أما المعيار الفني فلا يحتل إلا مرتبة هامشية. وعلى الرغم من أننا لا نبيح لأي منتج سينمائي أن يسيء إلى حضارتنا وقيمنا الدينية والوطنية، فإننا نخاف أن يكبل المعيار الأخلاقي – إن طبق بشكل أحادي – طاقة الإبداع والخلق لدى المخرجين السينمائيين المغاربة.                                                                             

غير أن حدة الخلفية الأخلاقية قد خفت نسبيا حينما باشر إبراهيم آيت حو قراءته النقدية لمجموعة من الأفلام السينمائية المغربية. صحيح أنه أعجب أيما إعجاب بالرؤية الدينية التي حكمت فيلم ” باب السماء مفتوح ” لفريدة بن اليزيد، وانتقد انتقادا لاذعا الرؤية الكوميدية لمؤسسة الزواج التي أطرت فيلم “البحث عن زوج امراتي” لمحمد عبد الرحمان التازي، لكنه التفت بشكل واع ودقيق إلى الآليات الفنية التي اشتغلت داخل الأفلام السينمائية المغربية، سواء تعلق الأمر بالسيناريو، أو الموسيقى أو التصوير، أو الديكور، مما يتيح لنا أن نتحدث عن بداية نشوء تيار داخل النقد السينمائي المغربي أصبح يتعامل مع السينما باعتبارها فنا أداته الأساسية هي الصورة. لكن هذا التيار لازال يخطو خطواته الأولى، ذلك أنه لم يستطع بعد أن ينفلت من إسار التنظير لدرجة نحس معها أن الناقد يمر سريعا على الجوانب الفنية في الفيلم، أو يتخذها في أحسن الأحوال وسيلة لطرح قضايا نظرية تشغل باله. لكننا نعتقد أن هذه الحالة ستؤول إلى زوال بفعل تنامي الوعي لدى النقاد السينمائيين المغاربة بضرورة التعامل مع السينما باعتبارها تجسيدا للدلالة بواسطة الصورة، لا تعبيرا عنها من خلال الكلمة.                                           

أما بالنسبة للخطة المنهجية التي اعتمدها المؤلف في مقاربته للمنتج السينمائي المغربي، فإنها تتخذ مسارا واضحا محدد المعالم يقوم على أساس خطوات ثلاث : تقديم عام يتضمن تقويما للفيلم، ثم تحليل لمقومات هذا الفيلم الدلالية والفنية من عنوان وسيناريو وديكور وحدث وشخصيات، فتلخيص عام يؤكد التقويم الوارد في المقدمة. والواضح أن هذه الخطة تستقي الكثير من مقوماتها من ميدان النقد الأدبي. ولاشك أن إبراهيم آيت حو كان واعيا تمام الوعي بهذا الاختيار، خصوصا وأنه أكد خلال القسم النظري من كتابه أن مناهج النقد الأدبي شكلت ولازالت سندا قويا للنقد السينمائي. إلا أننا تعتقد أن بين هذين اللونين من النقد مسافة شاسعة، لأن التعبير باللغة يختلف اختلافا جوهريا عن التعبير بالصورة، وبالتالي فان المقتربات النقدية التي تشتغل سواء على التعبيرات المعتمدة على اللغة، أو التعبيرات المعتمدة على الصورة ينبغي أن تراعي هذا الاختلاف وتحترمه.                                                                

وبخصوص البناء العام للكتاب، فإن التقسيم الذي لجأ إليه المؤلف قد تحكمت فيه طبيعة المتن المعتمد، والذي هو عبارة عن مقالات نشرت على صفحات الجرائد الوطنية. ومن هذه المقالات ما كان نظريا، ومنها ما كان تحليليا، مما حتم على المؤلف تقسيم الكتاب إلى قسمين. وعلى الرغم من تلمسنا لذلك الخيط الناظم لمجمل مكونات الكتاب، فإننا تعتقد أنه كان من الأجدى تجميع بعض فصول القسم النظري والعمل على الربط بين قضاياها، كان يتم التقديم للقسم الأول بحديث عام عن أزمة السينما المغربية، ليتم تفصيل هذا الحديث ضمن فصول هذا القسم. كما بمكن تجميع بعض الفصول باعتبار التقاطع الموجود بين القضايا التي تشكلها، كأن يتم الجمع بين الفصلين الأول والثاني ضمن فصل واحد يتشكل من فقرتين أساسيتين، تنضوي تحتهما مجموعة من العناوين الصغرى.        

استنتاج

إن ما سجلناه من ملاحظات بشان هذا الكتاب، لا ينفي بتاتا قيمته العلمية، والمجهود الذي بذله صاحبه.

ولا أدل على ذلك من أن الانشغال برصد واقع السينما المغربية والتماس آفاق لها لم يكن مجرد شعار تم رفعه خلال عنوان الكتاب ومقدمته، بل كان هما حقيقيا وقناعة راسخة تم تتبعهما بهدوء ووعي وثبات من أول سطر في القسم النظري إلى آخر سطر في القسم التحليلي. ولنا اليقين أن الأفكار التي طرحها إبراهيم آيت حو ستشكل – إن فهمت في بعدها الفني – مشاريع بحث ستسهم لا محالة في تطوير الكتابة النقدية حول السينما المغربية.                                          

غلاف الكتاب         

Visited 21 times, 1 visit(s) today