المؤثرات التسجيلية في فيلم “بيوتيفول”

أمير العمري

فيلم “بيوتيفول” (2010)” Biutiful هو امتداد- على نحو ما- لثلاثية المخرج المكسيكي أليخاندرو إيناريتو جونزاليس، أي ثلاثية الموت: “أموروس بيروس” (ملعون الحب)، “21 جراما”، و”بابل”. وهو الفيلم الأول لمخرجه، الذي لا يكتب له السيناريو الكاتب المكسيكي جيلرمو أرياجا الذي تعاون مع إيناريتو في أفلامه الثلاثة الأولى، بل كتبه إيناريتو نفسه بالتعاون مع كاتب أرجنتيني. وهو أيضا فيلمه الأول الذي تدور أحداثه في إسبانيا.

أسلوب الإخراج المميز في أفلام إيناريتو واضح هنا رغم اختلاف طريقة السرد، الذي يقوم على محاور عدة، تلتقي وتتقاطع معا حول شخصية اللابطل، الفرد، المهزوم من البداية، المقضي عليه أيضا بالموت، فهو يعاني من سرطان المثانة ولم يعد أمامه سوى شهرين في الحياة، كما يقول له الأطباء.

“أوكسبال” (الذي يقوم بدوره الممثل الإسباني خافيير بارديم) لا يعاني فقط من المرض العضال الذي يأكل حياته ساعة بعد أخرى، بل من تمزق علاقته بزوجته (عاهرة سابقة، مدمنة خمر، مريضة بمرض ازدواج الرؤية، تعاني من نوبات توتر عصبي حاد).. وقد انفصل عنها منذ فترة، لكنها تتردد على مسكنه الضيق لرؤية طفليها منه، تريد العودة إليه، لكنها لا تستطيع رعاية الطفلين بعد أن قضت المحكمة بإسناد حضانة الطفلين إليه. وهي ايضا تخونه مع شقيقه.

ولكن كيف يعيش “أوكسبال”.. هذا الرجل الذي فقد الأب أخيرا، وفقد الزوجة من قبل على نحو ما، والآن هو مهدد بفقدان الحياة نفسها وترك طفليه خلفه؟

إنه نموذج واقعي تماما للرجل الهامشي الضائع، الذي يعيش على هامش مجتمع الحياة في مدينة برشلونة. من هذا المدخل، أي من مدخل العلاقة بين الرجل والمدينة، يكثف إيناريتو (المكسيكي) رؤيته الخاصة لبرشلونة التي تختلف تمام هنا، عن برشلونة “السياحية” الملونة التي رأيناها في فيلم وودي ألين “برشلونة فيكي كريستينا”.

إن “برشلونة إيناريتو” يناسبها أكثر الطابع التسجيلي المباشر، الذي يجعل بطله- اللابطل، شاهدا على هذا الواقع، ومنغمسا فيه أيضا: إنها برشلونة المهاجرين غير الشرعيين، والمطاردات بين الشرطة وهؤلاء، وبائعي المخدرات في الزوايا والأركان المظلمة من الشوارع، وكيف امتد الفساد إلى الشرطة، وأصبح هناك من الضباط من يتستر على ممارسات البعض من المهاجرين غير الشرعيين في مجال توزيع المخدرات مقابل الحصول على المال، والظروف الشاقة التي يعيش فيها المهاجرون على هامش الحياة.. إلخ

يبدأ الفيلم بداية شاعرية ناعمة في مشهد يبدو كما لو كان يدور بين الحلم واليقظة، نرى فيه بطلنا “أوكسبال”، يقف في غابة في الصباح الباكر، يتأمل الطبيعة، ويرى جثة بومة ماتت لتوها، ويتبدى له شاب افريقي الأصل، يقول له كيف أن البومة قبل أن تموت تنفث شعيرات من أنفها وتلصقها بالأشجار، لتخلق حياة جديدة، ثم يقلد له أصوات الثعالب والريح.. وتتداعى الصور في مخيلة أوكسبال، الذي أصبح مشرفا على الموت، ويتكرر هذا المشهد عند النهاية، بعد ان أصبح أوكسبال متأهبا لاستقبال الموت.

الحي الذي يقيم فيه “أوكسبال” في برشلونة هو حي معروف بكثرة المهاجرين الوافدين الذين يقيمون فيه، من الآسيويين، والصينيين تحديدا، إلى الأفارقة من السنغال ووسط أفريقيا، إلى الرومانيين والبولنديين، وغيرهم.

تتقاطع حياة أوكسبال تقاطعا أصيلا مع حياة الكثير من هؤلاء المهاجرين، فهو مسؤول عن 24 صينيا استقدمهم للعمل أو ضمن دخولهم البلاد، ولكنه يبقيهم تحت رحمة اثنين من أقرانهم يستغلونهم أبشع استغلال ويبقونهم تحت خط الحياة في مخزن بارد تحت الأرض.

وفي الوقت نفسه يستخدم بعض المهاجرين الافارقة في بيع السلع التي يصنعها الصينيون في الشوارع. وهو بالتالي يلهث طيلة الوقت لتدبير الأمور، الحصول على المقابل المالي من الذين يشغلون الصينيين، ورعاية طفليه، واسكات الشرطي الذي يطالب بالمال وإلا أبلغ عن المخالفات العديدة المتراكمة التي يقوم بها، واللهاث وراء علاج قد يطيل بعضة أيام من عمره وهو الذي يتبول دما.

وفي مشهد يمتليء بالحيوية مصور في الشارع، نرى الباعة الأفارقة من المهاجرين غير الشرعيين، يحملون سلالهم الشهيرة، وفجأة تهاجم الشرطة الحي، ويحدث هرج ومرج، وتقع مطاردات وتعتدي الشرطة بوحشية على المهاجرين البؤساء، وتعتقل الكثيرين منهم، ويشهد بطلنا ما يجري وعندما يحاول التدخل يلقى القبض عليه أيضا.

هنا يطغى أسلوب الفيلم التسجيلي على المشهد تماما بكل عناصره: الكاميرا المحمولة على الكتف التي تضفي اهتزازاتها الطابع الواقعي التسجيلي على المشهد كما لو كنا نشاهد لقطات من الجريدة السينمائية أو من التقارير التليفزيونية الاخبارية، وزوايا التصوير المتنوعة التي تساعد في الإحاطة بكافة أركان المشهد، والانتقالات السريعة بين اللقطات، لتغطية المكان بما يحدث فيه في لقطات متنوعة، استخدام المجموعات الحقيقية من المهاجرين وتصوير كيف يتعرضون للمطاردة والمداهمة بالتفصيل وبكل ما يحمله المشهد من عنف بالغ.

وفي مشهد آخر نرى العمال الصينيين وهم يرقدون مكدسين في المخزن البارد، بينهم نساء وأطفال يبكون، وصاحب العمل يوقظهم في غلظة لكي يبدأوا العمل. وإلى مسكن جماعي يقيم فيه عدد كبير من المهاجرين الأفارقة، يتوجه بطلنا لكي يقدم مساعدة مالية لزوجة أحد المقبوض عليهم وكان من ضمن الذين يعملون لحسابه في توزيع المنتجات، ونرى كيف يتكدس المكان بالبشر في ظروف متدنية للغاية، آيات قرآنية معلقة على الحائط، امرأة افريقية تغسل الملابس، دورات مياه قذرة، أطفال يبكون. وعندما ينتهي هذا المشهد، ينتقل المخرج إلى منظر للكاتدرائية الشهيرة المميزة لمدينة برشلونة، أي كاتدرائية “العائلة المقدسة” التي تعد العلامة السياحية الشهيرة للمدينة، تجسيدا للتناقض الفاضح بين العالمين.

وفي مشهد آخر نرى مخيما كبيرا لإيواء المهاجرين الأفارقة، حيث يذهب أوكسبال للبحث عن الرجل السنغالي المسلم الذي ألقي القبض عليه، وهناك يعلم أنهم يقومون بترحيل المهاجرين دون النظر إلى وضعهم العائلي وظروفهم الشخصية، فزوجة هذا الرجل حصلت على اقامة شرعية، وهي ترعة ابنه، وهي التي سيوكل لها أوكسبال في النهاية رعاية طفليه قبيل رحيله عن الحياة، لكن صديق أوكسبال الشرطي يقول له بوضوح إنه لا يمكنه أن يفعل شيئا في هذه الحالة، أي لا يملك أن يغير من قرار الترحيل.

أجهزة التدفئة الرخيصة التي لا تتوفر فيها ضمانات الأمان التي يشتريها أوكسبال لتدفئة المخزن الذي يتكدس فيه العمال الصينيون، تتسبب في مأساة، عندما يتسرب الغاز منها ليلا، فيقضي 24 صينيا بينهم نساء وأطفال، حتفهم في مشهد مروع. وتتفجر الفضيحة في أجهزة الإعلام عندما تطفو جثث الصينيين فوق سطح البحر، ويتضح أن الرجلين الصينيين اللذين يقوما بتشغيلهم قاما بنقل الجثث وألقيا بها في مياه البحر لإخفاء حقيقة ما وقع.

أوكسبال إذن نموذج مكثف للبريء- المذنب، فهو مسؤول عما آلت إليه الأمور، لكنه أيضا البريء الذي يتحايل لكي يساعد نفسه ويساعد الآخرين على النجاة من هذا الواقع الكابوسي الذي يشده إلى أسفل. إنه الأب الذي يكتشف معنى الأبوة متأخرا، ربما بعد أن توفي والده، ويكتشف أنه أهدر حياته فيما لا ينفع، وأن وناياه الطيبة لا تؤدي دائما إلى الخلاص بل يمكن أن تقود إلى المآسي سواء لنفسه أو للآخرين.

ولعل من مشاكل البناء في الفيلم الافراط كثيرا في التفريعات والتعرجات الدرامية. صحيح أنها تخدم الفكرة، لكنها تنحرف بالفيلم في اتجاهات فرعية بعيدة عن البؤرة الدرامية الأساسية. إننا نرى مثلا، كيف يمتلك أوكسبال، رغم إغراقه في العالم السفلي الواقعي الصرف، قدرة روحية خاصة على محادثة الأرواح والاتصال بها، وكيف يستعين به الكثير من اقاربه ومعارفه لتسكين أرواح أحيائهم قبيل مغادرتهم الحياة وهم على فراش الموت.

ونرى أيضا كيف أنه في غمرة لهاثه من أجل البقاء في الحياة، لا يمانع من بيع قبر والده لشركة تقيم فوقه سوقا تجاريا كبيرا، مقابل الحصول على بعض المال، على أن يقوم بحرق الجثة، رغم ارتباطه الشخصي بوالده الذي توفي حديثا في المكسيك ونقلت جثته إلى اسبانيا.

وهناك أيضا المشهد الطويل الذي يدور في المرقص حيث يذهب للبحث عن شقيقه، والحديث الذي يدور بينه وبين إحدى العاهرات اللاتي يجالسهن شقيقه، وأوكسبال يحدثها عن الموت، وكيف أن نهاية حياته قد اقتربت، في حين تطالبه الفتاة بالرقص وتناول الشراب، دون أن تفهم بالضبط ما يتحدث عنه، وهو من المشاهد الزائدة التي كان من الأفضل التخلص منها.

المخرج إيناريتو مع بطل فيلمه خافيير بارديم

ولعل أهم ما يبقى في الذاكرة من هذا الفيلم تلك المشاهد الخارجية التسجيلية الطابع التي تصبغ الفيلم بصبغة واقعية وتجعل الشخصية جزءا لا يتجزأ من المكان، من المحيط المتدني، وكأننا نشهد “الجحيم الأرضي” خاصة وأن شخصية أوكسبال تبدو لرجل باحث عن الخلاص، كما أنه يدرك متأخرا أن عليه دينا يتعين تسديده، لولديه أساسا، اللذين يجب أن يترك لهما أكبر مبلغ ممكن من المال قبل أن يودع الحياة.

وشأن أفلام إيناريتو الأخرى، ليست هناك مساحة كبيرة للتفاؤل في هذا الفيلم، لكن ليس هناك أيضا فزع من فكرة الموت، فالدنيا التي يصورها لا تغري بالبقاء فيها طويلا، في حين أن الصورة العذبة النقية التي يقدمها في مشهد ما قبل البداية وهو نفسه مشهد النهاية، لعالم ما بعد الموت، تبعث على الإحساس بالراحة والانسجام مع النفس. إنها رؤية الفنان وفلسفته الخاصة تتجسد هنا كأبلغ ما يمكن من خلال الصور واللقطات والموسيقى الحزينة لنغمات البيانو أو الأورج، والإضاءة الشاحبة الداكنة، والأبخرة المتصاعدة في قاع مدينة برشلونة، ولعل المدينة هنا تصبح على نحو ما أيضا، وعاء يحتوي مختلف الأجناس كمعادل للدنيا.

والمؤكد ايضا أن هذا الفيلم ما كان لياتي على هذا النحو من التجسيد المكثف المعبر الموحي بعشرات المشاعر إلا بفضل الأداء التمثيلي المتميز كثيرا، للممثل الاسباني خاييم بارديم في الدور الرئيسي، فهو يحمل الدور بل الفيلم بأسره، على كتفيه، ويتعايش مع الشخصية من الداخل، ويعبر عن الألم البدني المباشر بتعبيرات الوجه وتأوهات الجسد كأبلغ ما يكون، ولذا استحق عن دوره هذا جائزة التمثيل في مهرجان كان.

أخيرا، كلمة “بيوتيفول” (أي جميلة ولكن مكتوبة بخطأ في أحد الأحرف) هي في النهاية تعليق ساخر على الحياة في برشلونة.. التي نراها في هذا الفيلم كما لم نرها من قبل.. وهي كلمة تكتبها ابنة اوكسبال وبها الخطأ الإملائي، تعبيرا عن تلك الصورة المقلوبة للواقع.. الصورة الصادمة التي يقدمها لنا الفيلم.

Visited 1 times, 1 visit(s) today