“القرط” رحلة إلى أقاصي البؤس التونسي
ما قد نسميه بالسينما التونسية تعيش منذ “ثورة الكرامة” صحوة قد تتجلى نتائجها في الدورة المقبلة لأيام قرطاج السينمائية، صحوة من اليسر ملاحظتها على الأقل في جانبها الوثائقي أو ما شابهه لأن الوجه الروائي يتطلب أساسا فترة تخمير لم تنقض بعد.
إن افلاما رائعة مثل “يلعن بو الفسفاط” لسامي التليلي او “يا من عاش” لهند بوجمعة أو “بابل” للثلاثي إسماعيل، سليم وخير الدين (رغم ما بالفيلم من إفراط في التشكيل والتنظير) و”أولاد عمار” لنصر الدين بن معاطي دون ان ننسى رائعة “شلاط تونس” لكوثر بن هنية حتى وإن اعترض البعض على وجوده في هذه الخانة، معللين بأنه فيلم روائي – وله من ذلك نصيب وافر- ولو ظاهريا.. مع أفلام اخرى من الصعب حصرها هاهنا. إلا انه من المستحيل قطعا الاّ نضيف إليها فيلما فريدا سيعتبر هو ايضا من نتائج ثورة 14 يناير 2011، ولولاها لما كان له ان يكون حتى وإن انطلق إنجازه مند عام 2007 (فهو يعرض لما شاهده في أحداث الحوض المنجمي) واستمر لمدة ست سنوات حتى عام 2012، بعض الشهادات تعرض للتحركات الاجتماعية ايام الثورة من جانب قلّ عرضه.
هذا الفيلم هو “جمل البرّوطة” (يحمل عنوانا بالفرنسية وهو “القرط”، أي علف الحيوانات) هو أول فيلم طويل لمخرجه حمزة العوني (من مواليد 1975 بالمحمدية) الذي أنجز من قبل فيلما قصيرا عنوانه “الحقيقة بالابيض والأسود” ويستعد حاليا لفيلمه الطويل الثاني نتيجة لنجاح “القرط” الذي حصل من أجله على عديد الجوائز سواء بتونس أو بخارجها، منها جائزة ملتقى السينمائيين التونسيين وجائزة افضل مخرج من العالم العربي وجائزة “الفيبريسي” (نقاد السينما) في الدورة السابعة لمهرجان أبوظبي وقد تم به افتتاح الدورة الاخيرة لمهرجان “وثائقيات” بتونس.
هذا الفيلم ومدته 87 دقيقة، ظهر به كل من خير الدين الحجري ومحمد العقربي وعبد القادر الساحلي وآخرون، وكلهم من المواطنين الذين لا علمَ لنا بوجودهم قبل هذا الفيلم، وإن البعض منهم معروف لدى الفلاحين وباعة الكحول وسلك الامن . الفيلم وثائقي من جنس تلك الأفلام التي تفرض ذاتها لجهة خطابها السينمائي القائم على الكاميرا المحمولة ومناخيات ليلية وعفوية الشهادات، وهي كلها من خصائص ما يعتبر بـ”سينما الحقيقة”، أي تلك السينما التي تعمل في ذات الوقت على اصطياد اليومي، أسبابه وآثاره مع خلق مسافة فاصلة بينه وبين الشاهد والعمل على رسم علاقة تفهّم وتعاطف مع من رصدهم الفيلم، وهي معادلة من الصعب الوصول إلى فك رموزها، ولنا في السينما العالمية امثلة عديدة لا داعي لذكرها هنا.
لا كلام إلا الفاحش، الثائر
تنطلق الأحداث – إن كانت هي أحداث بقدر ما هي شهادات وحالات نفور، فثورة، فتقيؤ عضوي ولفظي تنطلق من الذاتي لتنسحب دون عناء على العام الآن وهنا في ايامنا الثورية هذه – تنطلق الاحداث عند آذان الفجر بدق على باب حديدي يصم الآذان وتنبعث معه كلمات نعتبرها خادشة للحياء، لتلازمنا طيلة تسجيل الشهادات والاعترافات – تجدر الإشارة هنا إلى العمل المضني الذي قام به كل من المخرج والمصورين وخاصة المولّفة نجوى الخشيمي للتنسيق بين الفترات المتعاقبة دون إشعارنا بذلك – ثم تنطلق بنا الرحلة إلى أقاصي واعمق تجاعيد روح فئة من الشباب التونسي المهمّش، المتروك، والمنسي الذي لم تنفعه لا الاستشارات الوطنية ولا التخطيطات التنموية، والاخطر من ذلك كله، انه شباب لم تحمه الروابط العائلية ولا مؤسسات الدولة، فتقلصت لديه روح الانتماء الوطني… فكانت آفاقه لا تتعدى إسقاطات يومه من حفنة من الدينارات بعد تجوال اقرب إلى التيه والضياع بين آفاق التراب التونسي من الرديف وتمغزة إلى الكاف، إلى المنبع والمأوى: مدينة المحمدية. كلنا يعرف تاريخ هذه المدينة في جانب من تأسيسها كحلم لفئة من سلالة البايات ومن بينهم “أحمد باي” تمثلا بما قام به لويس الرابع عشر في “قصر فرساي”… كان “فرساي” كما رعته الملكية والثورة الفرنسيتين فيما بعد ولم تكن “المحمدية” لا زمن البايات ولا الدولة الوطنية… وكأننا يا حلم لارحنا ولا جينا.
من المستحيلات السبع تلخيص “حيثيات” الفيلم لأنه من ألفه إلى يائه، يدور ويلف وينخرط ويذوب في/ حول شخصيتين كأنها من خميرة الدراما الإغريقية المصارعة لقرارات الآلهة وفي ملامستها مصائرها بالإخفاق على جميع الأصعدة العاطفية كما الأسرية، الشغلية كما الامنية، الروحية كما المادية… وماذا يتبقى لشباب فقد كل علامات الوجود إلا المنفذ المؤدي إلى العدم… بمعنى أن السواد والسوداوية هما السمة الغالبة على تطور الفيلم سواء في مقصورة شاحنات نقل علف الحيوانات، او على مجروراتها في ترصيف “بالات القرط” او مساحات تحويلها من مكان إلى آخر، او في فضاءات الطبيعة التي لم تنيرها بعد اشعة الشمس الصباحية او هجرتها تلك الاشعة حتى أن إحدى الشخصيتين تقول وهي على مقربة من حاجز الصبار ومن إحدى الزوايا، تقول:”باش يوصل عمري 30 سنة وما تبدل حتى شيء… نرقد مكرّز… نفيق مكرّز… نااااقم… كان نلقى نقتل دين والديها العباد الكل… نشعر روحي في غزة… الشيء اللي ريتو عبارة عن 60 سنة وانا عمري 20… كان جات فرنسا مستعمرة تونس، راهي ماستعمرتناش كجماعة الكماين (الشاحنات)”. وتتالى الصور المعبره عن شمولية حالات التفتت زمن النظام البائد (نرى ذلك في رحلة صباحية) وبعد الثورة في بتر ساق احد الذين، بعد ان سكروا، ارادوا سرقة ما يمكن سرقته… فتقول إحدى الشخصيات انها بدأت تسرق مع الثورة… وبين طيات الشهادات عن الوضع البائس الدائم، إحداها تقول عما شاهدته بنبرة تاتيك كراس خنجر ينغرس فيك :”تونس بلاد قحبة… الرئيس يبيع في الزطلة وواخو وحدة قحبة ويبيع في الزطلة… ويقولوا لينا كيفاش شباب تونس يطلع ميبون“… وفي جلسة يحييها مشروب كحولي شعبي وحيث تضمحل الرقابة الذاتية – وإن هي اختفت منذ الصورة الاولى – تسأل إحدى الشخصيات: “علاش الثورات العربية بدت من تونس؟” تجيبه شخصية أخرى: “ماهو الوبنة من تونس (ضحك) على خاطر الوبنة ما تبدا كان في تونس… اقبح دين رب شعب هو شعب تونس...”
الحقيقة العارية مسلك للنقاهة
هذا الانفلات اللغوي والذي نعبر عنه إجتماعيا بـ”العنف اللفضى” المشهورة بها بلادنا إذ وصفت في الماضي بكونها “عاصمة الكلام الفاحش” وبينت دراسة أن 88 في المئة من الشباب التونسي لا ينطق جملة إلا ويدبّجها بالكلام الفاحش. فما هذا السلوك القديم جدا إلا محرار معبر عن غليان داخلي لا طريق تطهيرية له إلا ثلاث: التنفس بالكلام الفاحش، السجن او “الهجرة غير الشرعية… وهذه الاخيرة هي ملاذ كل شخصيات الفيلم التي تحلم بالحرقان لإيطاليا… هذا، ناهيك عن صورة الأنثى في الفيلم. فبقدر ما اللغة لا تتعدى ذكر الاعضاء التناسلية من فرج وشرج وإير (ولنا في كتاب “الإيضاح في علم النكاح” للشيخ النفزاوي اكبر معجم لهذه الأعضاء) وما إلى ذلك، فأن في شهادة الام عن اطفالها من كبيرهم إلى صغيرهم – ولم نرى في الفيلم اي اب، بل نسمع عنهم كما سمعنا من قبل عن المعيدي – إن لم يكن الإخفاق، فهو القطيعة التامة بينها وبينهم… فلا تواصل ولا هم يحزنون… صورة الفتيات التي لا نسمع عنهن إلا عبر الهواتف الجوالة وشهادات الثنائي الضائع ما هي إلا صورة ذكورية-ريفية على حضرية تعتبر كل البنات مومسات وبائعات هوى بدون مقابل، في حين يعترف الشابان أن لا عاطفة ولا حب بينهما والفتيات. فهما يبحثان عن وضع اليد على المال اللازم لتحقيق الهجرة السرية إلى إيطاليا.
ولن نعرض في الختام لما آلت إليه إحدى الشخصيات بعد الثورة من يأس وقنوط وانسداد أفق، فالحل في مشاهدة الفيلم في قاعة من قاعات السينما – دون التذرع بالأخلاق الحميدة لمحاولة صنصرته او تنقيته مما قد يعتبر خدشا للحياء وضربا للآذان الرقيقة – فيلم “جمل البروطة” (القرط) لحمزة العوني الذي يشكر على مثابرته ودقة نظره وحدة حاسته الفنية والاجتماعية حتى مدنا وآثرانا بهذا الفيلم الذي – كما هو فيلم “شلاط تونس” لكوثر بن هنية – نقلة نوعية في تاريخ الصورة المتحركة في تونس.
فحتى متى سيبقى فيلم “جمل البروطة” حبيس مهرجانات الدوائر المقتنعة مسبقا؟ فلينزل إلى السوق، فجمهورة هناك!