الفيلم الوثائقى “التحرير 2011”.. ثورة شعب وغباء نظام
قبل أن ينتهى موسم 2011 السينمائى بأيام قليلة، فاجأتنا شركات التوزيع المصرية بالإفراج عن فيلمين سيكونا بالتأكيد ضمن القائمة القصيرة جداً لأفضل الأفلام فى نهاية الحصاد: أولهما الفيلم الروائى “أسماء” للمخرج عمرو سلامة، وثانيهما الفيلم الوثائقى الطويل “التحرير2011 .. الطيب والشرس والسياسى” لثلاثة مخرجين هم تامر عزت وأيتن أمين وعمرو سلامة أيضا.
الفيلم الثانى لا يستمد أهميته فقط من جودته الفنية، ولا من توثيقه لأحداث الثورة المصرية فحسب، ولكن من اعتباره يدشّن دخولا قوياّ لعالم الفيلم الوثائقى الطويل لكى يعرض تجارياً، نظير تذاكر مدفوعة، فى الصالات السينمائية.
من حُسن الحظ أن يصل الفيلم الوثائقى الى مشاهد دور العرض من خلال عمل ناضج قوى وذكى ومؤثر ومتماسك مثل تحرير2011، الذى يستحق قبل أن نحلّل أجزاءه الثلاثة المتكاملة أن نشير الى بعض الملاحظات الأولية العامة.
الملاحظة الأولى هى أن قيمة الفيلم الأولى فى أنه انتصر للفن قبل أن ينتصر للميدان، نجاح هذا الفيلم وتأثيره الكبيرعلى متفرجه يرجع الى أنه صنع بدرجة مدهشة من الإحتراف التقنى رغم مشكلة الوقت وتباين مستوى المادة الوثائقية المصورة، قد تشاهد عشرات المواد المصورة عن ثورة يناير، ولكن تأثير فيلم كهذا هو ابن الرؤية الخلاّقة لكل مخرج، ومن ثلاث وجهات متكاملة للنظر.
أى عمل وثائقى ناضج لايمكن أن ينتصر لموضوعه مالم ينتصر أولاً ويخلص إخلاصا تاما للأدوات الفنية التى يقدمه بها، والمشاهد الذى ارتبط الفيلم الوثائقى فى ذهنه بالملل، لن يشعر بلحظة ملل واحدة أثناء المشاهدة، بل قد يتمنى لو أن الفيلم قد استمر مدة أطول.
الملاحظة الثانية حول اسم الفيلم “تحرير2011 ..الطيب والشرس والسياسى”. العنوان طريف وجّذاب، ورغم رمزية ميدان التحرير التى أصبحت عالمية، إلا أن فيلمنا قد يعطى انطباعاً غير صحيح بأن الثورة المصرية هى اعتصام ميدان التحريرفيما كانت أشرس مواجهات الثورة فى مدينتى السويس والإسكندرية.
لااعتراض أيضاً على مصطلح الطيب لوصف شعب صبور ثار بعد أن تسامح كثيراً حتى فاض به الكيل، ولا تحفّظ على أن تصف التعامل الأمنى مع المتظاهرين بالشراسة والدموية، ولكن وصف السياسى فى الجزء الأخير من الفيلم لايبدو مناسباً على الإطلاق، إذ لو كان الديكتاتور/ مبارك سياسياً ما قامت الثورة من الأساس. لعل التعبير الأصوب هو “الغبى” وليس “السياسى”.
الملاحظة الثالثة أو الدرس الذى يقدمه الفيلم أنه فى حالة وجود عدة مخرجين لعدة أجزاء ضمن فيلم واحد فمن الأفضل أن يحاول كل منهم ن يجيب عن سؤال محدد، وتشكل الإجابات الثلاث ملامح صورة واحدة متماسكة، الإجابة والسؤال هما مناط الإهتمام وحلقة الإتصال على أن تترك حرية التناول والبصمة الخاصة لكل مخرج لكى تصنع مفعولها.
من هذه الزاوية، نجح تحرير2011 نجاحاّ مدهشاً إذ يجيب الجزء الأول الذى أخرجه تامر عزت عن تساؤل حول كيفية ثورة المصريين وتضحياتهم طوال 18 يوماً حتى لحظة تنحى حسنى مبارك، ويحاول الجزء الثانى الذى أخرجته آيتن أمين أن يرصد لماذا فشلت الشرطة فى قمع الثورة، بينما يجيب الجزء الثالث عن تساؤل حول كيفية تحوّل مبارك الى ديكتاتور يستأهل الخلع.
إذا قمت بتجميع الإجابات الثلاث يمكن أن تحصل على إجابة واحدة متماسكة تقول إن حاكماً ظل فى موقعه 30 عاماً فأصبح ديكتاتوراً غبياً لايؤمن إلا بالحلول الأمنية التى انهارت منطقياً وواقعياً أمام ثورة الشعب وانفجاره مثلما حدث فى كل الثورات.
سيتضح هذا التكامل أكثر عندما نقوم بتحليل كل جزء: فى الجزء الأول الذى يبدأ بالنتيجة النهائية وهى مراحل سقوط مبارك خلال 18 يوماً، سيعتمد البناء على عدة شهادات لأشخاص شاركوا فى الثورة من مواقع مختلفة. الشهادات لاتُقدم بشكل رتيب وإنما اعتماداً على مزج متداخل للقطات سُجّلت للشخصيات فى نفس أماكن الأحداث العاصفة ولكن بعد الثورة، ولقطات وثائقية للمظاهرات والمواجهات والإعتصام فى ميدان التحرير ولبيانات مبارك التى كانت بدورها وقوداً للثورة والثوار، كما يستخدم تامر عزت ، وهو مونتير متمكن قبل أن يكون مخرجاً، لوحات مكتوبة تمثّل محطات تختزل أبرز ماجرى فى دراما التحريرمن شعار الجيش والشعب إيد واحدة الى شعارالشعب خلاص أسقط النظام.
الشخصيات
اختيار الشخصيات فى هذا الجزء تم أيضا بمنطق يحكم الفيلم كله هو تعدد زوايا الرؤية: فمن مُتظاهرة شاهدت أول شهيد يسقط يوم يناير28 فى محاولة الولوج الى ميدان التحرير، الى طبيبة المستشفى الميدانى التى تشرح لنا كيف تحولت زاوية للصلاة الى عيادات طبية بدائية تجرى فيها العمليات، الى مصور فوتوغرافى قطع دراسته فى الدانمرك وعاد فورا ليشارك فى توثيق الصراع للتخلص من الديكتاتور( موقعة الجمل وما بعدها)، الى مطرب الثورة رامى عصام ، الى شاب يحمل حتى اليوم رصاصة فى جسده من أيام المواجهة، الى شاب اشترى ورقاً أبيض لكى يكتب عليه كل متظاهر كلمات تتداخل فى مكساج ذكى لتقود الى عمر سليمان وهو يُعلن التنحى.
هذا الجزء يصل فى إتقانه الحرفى الى أن تعتقد أنه لقطة واحدة ممتدة مع أنه مكوّن من مئات اللقطات والتفاصيل التى تصنع ما يطلق عليه الفيلم “دولة التحرير”، ويصل هذا الجزء الى درجة عالية من التأثير لدرجة تجعل من الصعب ألا تدمع عيناك وأنت ترى عظمة هؤلاء الثائرين الذين خلقوا نظاماً فى 18 يوماً أفضل مما فعل حسنى مبارك فى 30 عاماً.
بكيتُ وأنا أشاهد المصرى الفصيح يهتف مغنياً بسقوط الفرعون، وأنا أرى أطباء الميدان وهم يضمدون الكسور بورق الكارتون، الشباب الغض الرائع وهو يحمى المصور الفوتغرافى من الحجارة حتى يقوم بعمله فى فضح النظام الغبى، حلاق الميدان الذى تبرع بالحلاقة بدون أجر حتى يشارك بما يستطيع، الأم الحامل التى تمسك طفليها وتدعو الناس للنزول، عقد قران فى قلب الميدان فى ظاهرة لانظير لها فى تاريخ الثورات، وهذا الشهيد الذى قُتل بالرصاص فى موقعة الجمل.
لوحة
لوحة هائلة متكاملة تجسد ثورة شعب بكل فئاته، ربما كان ينقصها ولو لقطات وثائقية لمواجهات السويس والإسكندرية الأكثر دموية وشراسة، وربما كنا فى حاجة الى لقطات للّجان الشعبية فى أحياء القاهرة التى حافظت على الأمن بعد غياب الشرطة، ولكن تأثير هذا الجزء القوى، وخبرة تامر عزت المونتاجية، نجحا فى أن ينطلقاً الى افتتاحية جديرة بثورة عظيمة.
فى الجزء الثانى وعنوانه الشرس، تحاول المخرجة آيتن أمين بالشهادات واللوحات المرسومة وببعض المواد المصورة أن تنقل الثورة من الطرف الآخر: عصا الشرطة التى كسرها الثوار. بعد مقدمة يرفض خلالها أكثر من شرطى من مختلف الرتب الحديث أو التعليق، وبعد أن يقاطع المونتاج الذكى هذا الرفض المصحوب بنظرة منكسرة، بلقطات لعبارات المرور الموحية مثل “قف” و”مسار إجبارى” ، نسمع صوت آيتن على شريط الصوت وهو يعبر عن الإصرار لكى تفهم كيف يرى رجال الشرطة ماحدث.
ربما يبدو هذا الجزء أقل جاذبية من حيث الشكل، ولكن قيمته الكبرى فى الإستماع الى ثلاث شهادات أساسية وهامة: أولها من النقيب مصطفى جمال بقطاع الأمن المركزى الذى وافق على تسجيل شهادته بزيّه الرسمى وفى مواجهة الكاميرا، وثانيها مع ضابط جلس فى الظل لا تظهر منه سوى رتبته الأعلى وفمه الذى يتحدث، وثالثها ضابط استقال بعد شهور من عمله فى جهاز أمن الدولة الرهيب.
التزمت آيتن أيضاً بأن تتداخل الشهادات، وأن تستخدم سلاح المونتاج إما لإثبات ماتقوله الشهادة ( مثل مشهد الهجوم واقتحام قسم شرطة السيدة زينب، أو عدم تدخل الشرطة فى فض تجمع سلمى يقوده عبد المنعم أبو الفتوح أمام نقابة الأطباء) ، أو لنفى هذه الشهادة والسخرية منها ( كأن يتحدث أحد الضباط عن الإخوة الثوار بينما تنزل الهروات على ظهورهم فى إحدى المظاهرات).
استعانت المخرجة أيضاً بنماذج من أخبار عن مصرع بعض الإرهابين فى التسعينات لكى تؤكد كلام ضابط أمن الدولة المستقيل الخطير بأن هناك تصفيات للإرهابيين ضد القانون، وأن الضباط كانوا يستخدمون عبارة “علّق له الرمانة” للإشارة الى هذا المعنى.
حصاد الشهادات يؤكد الحيرة بين الواجب وعدم الإقتناع بالأوامر، مصطفى جمال أبدى ذهوله أن تُترك الشرطة لتحمل أوزارفشل السياسة، وأن يواجه بقواته الشعب كله، قال فى صراحة إن الشرطة هى عصا النظام يتكئ عليها ويضرب بها الناس، أدهشه أن يخوض حرباً لمنع الناس من الذهاب الى أحد الميادين.
الشرطة مكروهة
الضابط القابع فى الظل اختصر المشوار كله بأن الشرطة مكروهة فى كل مكان، ولم ينس أن يعترف بأنها رسبت فى امتحان الثورة، أما ضابط أمن الدولة المعتزل فقد اعترف بأن أى اسم يرد فى أى تحقيقات تُصنع له كروت وملفات، وأن هناك قناصة فى الشرطة، وأن الإرهابيين تمت تصفية بعضهم دون محاكمة.
خطورة هذا الجزء فى شهاداته التى تترجم ببساطة معنى الدولة البوليسية، نجحت آيتن فى إثراء الشهادات بالمواد المصورة سواء فى قسم السيدة بعد حرقه أو فى مشاهد الإشتباك مع المتظاهرين أو فى لقطات وثائق أمن الدولة بعد نهبها، كما استعانت بأغنية الشيخ إمام “أنا رحت القلعة وشفت ياسين” لتصاحب غُرف قسم السيدة زينب الخاوية وإن كان ينقص الإسئلة محاولة الإجابة عن السؤال الهام والخطير: من يقف وراء قرار انسحاب الشرطة التاريخى؟
ينتهى هذا الجزء بتلعثُم الضابط القابع فى الظلام عند سؤاله عن الإيذاء البدنى للمصريين حتى لو خرجوا عن القانون، وهو تلعثُم أكثر بلاغة من أى إجابة.
ألقت الشرطة المسؤولية على الأوامر العليا الغبية، لذلك سيصحبنا عمرو سلامة فى الجزء الثالث الساخر والممتع وعنوانه السياسى لكى نكتشف كيف يتحول حاكم عادى قادته الصدفة الى السلطة بعد مقتل السادات الى ديكتاتور شديد الغباء.
البناء يعتمد هنا على أكثر من عنصر: شهادات من سياسيين وإعلاميين وعلماء فى النفس، لقطات وثائقية تثرى الشهادات تؤكدها وتعلّق عليها، لقطات كارتونية تقوم بدور الفواصل تعبيرا عن الخطوات المصرية لصناعة الفرعون من صبغة الشعر والأغانى واحتكار أسماء الشوارع الى التوريث وإنكار وجود الشعب والإنفصال نهائيا عن الواقع ثم مواجهة النمر الجريح للثائرين على غبائه.
بناء ساخر
البناء الساخر ليس فقط فى هذه الفواصل الكارتونية الملّونة التى تذكرنا بأن السلطة أقرب فى هذه الحالة الى ألعاب الأطفال، ولكنها أيضاً فى بعض إجابات المتحدثين كأن يقول محمد البرادعى أن مبارك وصل فى آخر أيامه الى الإحساس بأن الشعب عبءٌ عليه، وكان يتمنى أن يستيقظ فلا يجده أمام عينيه، وكأن يقول الإعلامى وجدى الحكيم إن يوم الإربعاء فى الرياسة كان مُخصصاً لكى يصبغ فيه الكوافير محمود لبيب شعر مبارك ورجال دولته ، وكأن يقول بلال فضل أنه كان ضد إزاحة مبارك لأن هناك تكاليف باهظة سنتكبدها لمحو اسمه من المؤسسات والمدارس، وكأن يقول حسام بدراوى إن المخلوع قال له إنه مستعد للموت من أجل مصر، فقال له بدرواى: ولماذا لا تبتعد وتعيش من أجل مصر؟!
الحقيقة أن اختيار أعمدة فى الحزب الوطنى المنحل مثل مصطفى الفقى أو حسام بدراوى أو سامى عبد العزيز لكى يدينوا عصرمبارك بعد أن كانوا من اتباعه يحمل سخرية مبطنة من المحيطين بالديكتاتور وليس من الديكتاتور فقط.
استُخدمت اللقطات الوثائقية لتعميق السخرية كأن نسمع مبارك وهو يقول إن جمال ابنه لن يحكم ولكنه يساعده مثل ابنة شيراك، أو كأن يقطع المونتير من مشاهد جمال الهجانة فى احتفالات عيد الشرطة الى جمال البطجية فى موقعة الجمل.
على أن هذا الجزء لم يعدم كلاماً جاداً للغاية من علاء الأسوانى عن مراحل انهيار الديكتاتور من الإنكار الى الحديث عن مؤامرة وأجندة خارجية ثم التعامل الشرس على طريقة النمر الجريج، أو اعترافاً من سامى عبد العزيز بتدخل الأمن فى الإعلام، أو تحليلا للدكتور أحمد عكاشة لأسباب تحول مبارك من طلب النصيحة فى بداية حكمه الى احتكار الحكمة، أو اعترافاً من مصطفى الفقى أن علاء مبارك استدعاه بعد ثورة تونس لينقل له احساسه بقرب نهاية النظام بسبب أخيه جمال.
ينتهى هذا الجزء والفيلم كله بمشهد الميدان ممتلئاً، ثم تكتب عبارة تسجل محاكمة مبارك بعد ستة شهور من تنحّيه ، وعبارة أخرى تؤكد أن “الثورة مازالت مستمرة”.
ولعل اختيارهاتين العبارتين بالذات لختام الفيلم كله يؤكد من جديد أن هذا الجيل الرائع الذى صنع الثورة شديد الوعى والنضج والموهبة، وأنه الأفضل والأقدر على التعبير عما جرى فى ثورة يناير العظيمة من خلال هذه الأفلام المدهشة.