الفيلم اللبناني “عصفوري” ضرورة الذاكرة والسينما أيضا!

“عصفوري” هو الفيلم اللبناني الوحيد ضمن مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة خلال الدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي (9-16 ديسمبر)، الفيلم من إخراج اللبناني فؤاد عليوان وهو نفسه كاتب السيناريو وشريك الإنتاج مع زوجته روزي عبده.

درس فؤاد عليوان السينما بجامعة مونتانا الأمريكية وأنجز منذ تخرجه عددا من الأفلام الروائية القصيرة منها “شوق مريض لوطن مريض” و”هوا بيروت”و”إلى اللقاء”وقد حصل فيلمه”عصفوري”على منحة إنجاز المقدمة مؤسسة دبي للإعلام، ويعتبر عرض الفيلم ضمن مسابقات المهر العربي هو العرض العالمي الأول له.

الوطن/ البناية

في تقديمه للفيلم قال عليوان ان الفيلم عن بناية جدة أبو عفيفي وهي واحدة من البنايات القديمة في بيروت والتي تنوي البلدية هدمها، ومن هنا جاء قراره أن يقوم بتصويرها داخل فيلم يتحدث عنها كي يوثقها ويحفظ صورتها, فقرارات الأزالة لا تسري على ذاكرة السينما.

قد تبدو فكرة الوطن/ البناية إحدى التيمات الشهيرة في أفلام الذاكرة او الأفلام السياسية ذات الطابع الاجتماعي التي تدور خلال حقبة ماضي، فالموازة بين ما يحدث في بناية واحدة اختصارا لوطن ودولة كاملة- أو ما يحدث لها- هو تواز جيد، في حال تمكن صناع الفيلم من صياغته بشكل عميق وحقيقي ودون أفتعال او ميلودراميا او مباشرة تقتل روح التعبير الفني.

لكن ما حدث في”عصفوري” أن المخرج قام بخلطة غريبة من عدة أشكال وأنواع سينمائية دون دراية كافة بمدى هارمونيتها الكميائية داخل التجربة، مما افقد الفيلم قوة البناء، فأمسخ الأسلوب وضاع ألق الفكرة وأنتهت التجربة إلى كونها محاولة متعثرة لصناعة فيلم عن حال الوطن وضرورة الذاكرة بأقل نسبة من السينما وأكبر كمية من الأخطاء.

يبدأ الفيلم بمشهد مصور بتقنية الكاميرا سوبر 8 لسرب حمام يطير بشكل دائري في سماء بيروت القديمة، اللقطة من خلال تقنية السوبر8 تعطي شعور بالنوستالجيا والحنين إلى الماضي الجميل، يتبعها مباشرة لقطة لأحدى شرفات البناية ويكتب على الشاشة بيروت 75 أي قبل أيام قليلة من إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.

ولأن المخرج يصور البناية في عام 2012 فإن أضمن وسيلة للإيهام هي الاقتراب من البناية قدر الإمكان في لقطات قريبة أو متوسطة مع وجود بعض السيارات القديمة التي تعكس الحقبة الزمنية، ويبدو السرد والإيهام الخاص ببيروت خلال سنوات الحرب الأولى (75 – 82) أكثر قوة وتماسكا من أجزاء السرد والأيهام الخاصة ببيروت عام 95 بعد توقيع اتفاقية الطائف وبدء إعادة الأعمار.

في البداية نتعرف من خلال مشاهد ذات طابع اجتماعي ملون بمسحة طرافة او إستظراف على الأسر التي تسكن في البناية، والتي أهمها أسرة كريم حفيد ابو عفيفي/ المعادل الدرامي للمخرج نفسه والمكونة من أمه الحازمة ربة المنزل قوية الشكيمة وأبيه الطيب الحنون وأخته الصغيرة.

يعتمد الفيلم على سرد متقاطع يحاول ان يكسر الزمن عبر الفلاش باك سواء القادم من ذاكرة كريم أو بأسلوب الأستدعاء الحر دون أن يكون عبر ذاكرة أي من شخصيات الفيلم.

هذا السرد المتكسر هو جزء من فكرة ضرورة الذاكرة التي تحدثنا عنها لكنه يأتي ساذجا في احيان كثيرة ومفتعلا ومقحما في أحيان أخرى، خاصة فيما يتعلق بذكريات كريم عن أسرته وجده والبناية والجيران، فالمشاهد تبدو ركيكة نمطية تشبه عشرات المشاهد التي قدمت من قبل في كل الأفلام التي تحدثت عن الحرب اللبنانية (الملثمون- الكتابة على الجدران–اصوات المدافع والطلقات النارية- الخوف من المجهول) المشكلة ليست في التكرار ولكن في كونه تكرار باهت وغير طازج لا يؤطر لرؤية جديدة أو يطرح زاوية مختلفة للنظر إلى الماضي أو الحاضر على حد سواء.

عام 95 يعود كريم إلى لبنان ليواجه بالحديث المستمر عن إعادة الأعمار ويرى كم التغير الذي طرأ على البناية خاصة على المستوى الديموغرافي، فالسكان تغيروا، بعضهم هاجر وبعضهم مات وجاء إلى البناية مهاجرون من مناطق النزاع الطائفي, كاتب مسرحي عجوز مسلم وزوجة مسيحية شهوانية وأبنة طائشة لديها ميول للعهر الفني تريد أن تغني بجسدها وتسافر إلى حفلات الأمراء في الخليج, والتي نراها تعجب بكريم من النظرة الأولى وتصعد له في شقته كي تغويه دون سابق معرفة.

ضرورة السينما

 بمجرد أن ينتقل الفيلم إلى عام 95 ينحدر المستوى الإيهامي والدرامي تماما، فالمخرج اختار عام إعادة الأعمار ليحاول قراءة عملية هدم وبناء الوطن من جديد، أو بمعنى أدق هدمه لصالح الآخرين وليس لصالح ابنائه متمثلا الوطن في البناية, لكن يفوته تفاصيل بصرية كثيرة حيث يتساهل في أمور مثل ماركات السيارات، ووجود أجهزة المحمول الحديثة في منتصف التسعينيات وهو ما لم يكن وقتها خاصة على مستوى الأشخاص العاديين وفي بلد لم يكن فيه بنية تحتية فما بالك بشكبة محمول، ورغبة جارة كريم الطائشة في ان تصور فيديو كليب كي تقدم نفسها كمطربة وقت لم يكن هناك ما يسمى بالفيديو بالكليب، وهي محاولة للنقد الأجتماعي عن فتيات لبنان الائي تحولن فيما بعد لمجرد أجساد تتلوى على الشاشة بدعوى الغناء، بل أن كريم حين يذهب لأحد البارات يلتف الجميع حوله ويغنون أغنية راب عربي وذلك قبل ظهور الراب العربي بعقد كامل على الأقل.

ويصل فقدان الأيهام لحد العبث الكامل عندما تتحدث نشرات الأخبار في التليفزيون المحلي عن تولي رفيق الحريري رئاسة الوزراء وفي المشهد التالي نلمح جزء من المنشورات الملصقة على جدران البناية تحي الشهيد رفيق الحريري الذي قتل بعد هذا التاريخ بعشر سنوات!

لقد اختار المخرج الحقبة الزمنية الصحيحة لكنه لم يوفها حقها الدرامي أو البصري فصار الجزء الخاص بالتسعينيات أقرب للبارودي منه للتناول الدرامي الرزين والهادف.

ناهينا عن المباشرة التي تمثلت في تعرف كريم على مذيعة شابة فرنسية من اصل لبناني، الممثلة الشابة (زلفي سورات) وهي ايضا مشاركة في السيناريو ويبدو انها مشاركة بمشاهدها فقط.

هذه المذيعة تقوم بعمل بعض الريبورتاجات عن إعادة الأعمار وفي سياق تليفزيوني برامجي بحت تلتقي مع بعض المتضررين من عملية هدم البيوت القديمة وعدم الحصول على بيوت جديدة وهو جزء من تخبط الأساليب لدى المخرج وزيادة طين المباشرة ببلة تليفزيونية.

تفرد زلفي لنفسها مشاهد طويلة تغني فيها في السيارة بجانب كريم وترقص قليلا وترتدي مايوه على البحر وأخيرا تمارس معه الجنس كاشفة صدرها الجميل وكأنها تقدم دعاية عن امكانياتها كممثلة شاملة ولكنها للأسف لا تملك من مقومات الموهبة شيئا يذكر, فهي مجرد وجه جميل لكن لا تزال تحتاج إلى مران درامي وفني كثير كي تتبلور وتصبح قادرة على تجسيد شخصية درامية وليس مجرد تمثيل دورها في الحياة كفتاة جميلة.

في الفصل الأخير من الفيلم يتخبط الأسلوب تماما، تبدأ الشطحات الفانتازية في الظهور متمثلة في ظهور الممثلين بأكثر من شخصية ودون مبرر درامي مقنع، فتظهر شخصيتين كاريكاتوريتين لا ندري لماذا رغم ان الفيلم من المفترض أنه كوميدي وليس هزلي لدرجة الكاريكاتورية، هاتين الشخصيتين هما محاسبي لجنة التعبئة والأحصاء التي شكلت بعد الحرب لتعداد السكان ببيروت، ولكننا نجدهم بعد قليل في سيارة فاخرة وملابس أنيقة وان كانوا بنفس الكاريكاتورية وقد تحولا إلى مندوبي شركة مقاولات تريد شراء البناية وهدمها لبناء مول تجاري، صحيح أن فكرة هدم البناية القديمة وبناء مول فكرة جيدة وإن كانت نمطية في السينما المنتجة بالمنطقة العربية خاصة مصر، وصحيح أن أداء نفس الممثلين لشخصيات رجال الحكومة وفي نفس الوقت رجال الأعمال الجدد سخرية واضحة لكنها تقدم بأسلوب خارج عن اطار الفيلم الذي يتخذ شكل الواقعية الاجتماعية او السياسية منذ بدايته، والذي يتغير نحو الفانتازيا في النهاية بلا مبرر أو أقناع.

يبدأ كريم بعد زيارة مندوبي شركة المقاولات في رؤية كابوس طويل يرى نفسه فيه وكلا الرجلين يقومان بالحلاقة له دون إرادته وهو اسوأ مشاهد الفيلم تنفيذا ودلالة, لأنه يقدم رؤية شعبوية تافهة عن فكرة”الحلاقة” بالمفهوم العامي أي النصب والأحتيال رغم أن المخرج كان لديه تواز جيد لو أنه صنع تقابلا فنيا بين مشهد الحلاقة الجبرية وبين مشهد الحلاقة الرقيقة لكريم وهو ما يزال صغيرا والذي كان أحد ذكرياته التي رأينها في البداية عن بيروت والبناية القديمة.

ولا يتوقف المخرج عند مشهد الحلاقة الجبرية الفج والمصور بأسلوب الكاميرا الغير مستقرة مع مونتاج أرعن وهزلي، لكنه يستمر في مسألة ظهور نفس الممثلين بشخصيات أخرى وإذا به ينهي فيلمه على الطريقة المصرية (يحيا الهلال مع الصليب) حيث يقدم لنا شخصية الحلاق العجوز مع صديقه أبو عفيفي جد كريم واللذان رأيناهما من قبل في أحد مشاهد الفلاش باك ولكن في هذه المرة يقدمهم كشيخ معمم وقس يرتدي الأسود وهم يبحثان في البناية عن أي من السكان حتى يصلان إلى السطح متعبين ومندهشين من فراغ البناية من سكانها, دون أن ندري من هم ولا لماذا يبحثان عن السكان ولا أين ذهبت عائلة كريم ! بل هي محاولة رخيصة لأقحام شعار الوحدة الوطنية دون ان يكون له محل من الإعراب الدرامي أو التمهيد الشكلي فمشكلة البناية ليست طائفية من الأساس ولا تحتاج إلى شيخ وقسيس متحدين يبحثان عن السكان لهدايتهم.

تنتقل الكاميرا في المشهد الأخير في حركة بان واسعة وطويلة لنرى أفق بيروت المليئ بعمليات البناء الحديث بعد مشهد لتعليق قرار الأزلة على بناية أبو عفيفي فيصيبنا التشوش! فهل الرسالة أن البنايات القديمة يجب أن تهدم من أجل إعمار المدينة من جديد! وهي رسالة مناقضة تماما لكل ما حشد له المخرج أثناء الفيلم, أم أن الرسالة أن الوطن القديم يهدم ويباع لصالح منتفعين جدد؟ لكننا لا نراهم في هذه اللقطة للأفق البيروتي الحديث بل نرى حركة إعمار حماسية وجيدة لا تفيد أبدا أن أحدهم يستغل هذا البلد بسوء, أن أسوأ ما في هذا النوع من الأفلام أن يظل المعنى بعد نهاية الفيلم في بطن المخرج فلا نحن خرجنا برسالة ولا شاهدنا سينما حقيقية.

عصفوري

تبقى الإشارة إلى أن عنوان الفيلم “عصفوري” اكتشفنا أنه قادم من تلك اللغة المؤلفة والتي يقول كريم لصديقته الفرنسية أن جده وجدته كانا يتحدثان بها بإضافة حرف زين لكل كلمة، ولكن الغريب أننا أثناء الفيلم لا نر الجد والجدة يتحدثان بها ولكننا نسمعها من الجد أبو عفيفي وصديقه الحلاق العجوز قبل أن يتحولا إلى قس وشيخ في النهاية, بالأضافة إلى أن تلك اللغة الخاصة والمأخوذ منها أسم الفيلم لا علاقة لها من قريب أو بعيد بموضوع البناية والذاكرة والوطن الذي يهدم ويبنى, بل أن وجودها من عدمه لم يكن ليشكل فارق في السرد ولا الحكاية ولا التيمة ولكنها جزء من التخبط الأسلوبي والفكري لصناع الفيلم.

Visited 25 times, 1 visit(s) today