الفيلم السعودي “سكة طويلة” تجربة جريئة
أمير العمري
من الإيجابيات التي تتميز بها أي سينما في العالم، تنوع الاتجاهات، أي أن الانغلاق على شكل واحد، واتجاه واحد، سواء النقدي اجتماعي، أو الواقعي، لا يساهم في تطوير السينما نفسها، كما يضيق من دائرة الجمهور الذي يتفاعل مع الأفلام. لذلك، مثلا، أصبح من سلبيات الوقع القائم حاليا في السينما المصرية، هيمنة نوع واحد من الأفلام هو الفيلم الكوميدي.
لذلك كانت مفاجأة سارة أن نجد، رغم النشأة القريبة، أو بالأحرى، عودة الحياة إلى السينما السعودية بعد فترة كمون طويلة، رغبة لدى صانعي السينما في المملكة العربية السعودية، على التنويع في الاتجاهات الفنية بين مجموعة الأفلام التي صدرت حديثا، من الكوميديا إلى فيلم “الأكشن”، المثير، من والفيلم الاجتماعي، إلى الفيلم الدرامي المشوب بنزعة فكاهية، وغير ذلك. هذا التنوع يتيح الفرصة أمام ظهور مخرجين وكتاب جدد، بحكم التنوع في اختيار المواضيع، كما يساهم في تطوير السينما السعودية نفسها، بإخراجها من دائرة الاتجاه الواحد الذي يصبغ على سبيل المثال، غالبية الأفلام الإيرانية التي تخرج إلى العالم.
ولعل أبلغ دليل على هذا التجديد هو فيلم “سكة طويلة” (أو الطريق السريع رقم 10)، وهو الفيلم الروائي الطويل الذي أخرجه عمر نعيم، وقام ببطولته براء عالم، وفاطمة البنوي. ورغم أن المخرج (الأردني- الأمريكي)، استعان بعناصر من الخارج، للقيام بالعمليات الفنية، أهمها مدير التصوير البريطاني “ماثيو إرفنج”، إلا أن الاستعانة بعدد من المساعدين السعوديين، يتيح انتقال الخبرات خصوصا في هذا النوع من الأفلام الذي يتطلب مهارة كبيرة سواء في التصوير أو المؤثرات الخاصة، فنحن بصدد فيلم “أكشن” وإثارة على غرار أفلام هوليوود ولكن في سياق سعودي، مع الاستعانة أيضا بممثلين سعوديين، أبرزهم الممثلة السعودية الجميلة الموهوبة، فاطمة البنوي التي سبق أن تألقت في فيلم “بركة يقابل بركة” للمخرج السعودي محمود صباغ، فهي تجمع بين الجمال والرشاقة وخفة الظل، والقدرة على التعامل مع المواقف الصعبة دون وجل، وأمامها في الفيلم الممثل الشاب براء عالم، الذي انتقل من مجال الولع بالسينما والحديث عما يحبه من أفلام، إلى احتراف التمثيل.
لكن ما هو الموضوع؟
في المشهد الأول نرى كلا من “مريم” (البنوي)، وشقيقها “ناصر” (العالم) يشرعان في وضع الحقائب في السيارة تمهيدا للذهاب إلى المطار، حيث يعتزمان السفر إلى أبوظبي والوصول في نفس اليوم، لحضور حفل زواج والدهما. فالرجل الذي توفيت زوجته كما سنعرف، بعد معاناة مع السرطان، قرر الزواج، وهو يخبر ابنه عبر الهاتف أن هذا الزواج ليس لمصلحته الشخصية فقط، بل في مصلحة ناصر وشقيقته أيضا (ولكنه لا يوضح المقصود، فهو شخص مناور كما سيتضح)!
يأتي اتصال هاتفي بناصر يبلغه بإلغاء الرحلة، ولكن لأنهما يجب أن يصلا اليوم لحضور الحفل في المساء، لم يعد أمامهما سوى السفر بالسيارة، وقطع الطريق السريع رقم 10 الذي يصل إلى الإمارات. ومن هنا يصبح الفيلم من النوع المعروف بـ “أفلام الطريق” مع جرعة إثارة كبيرة، ومفارقات ومشاكل تقع خلال الرحلة الصعبة، في طريق يخلو من السيارات والبشر، يشق الصحراء الحمراء القانية المخيفة التي تخفي أكثر مما تعلن، هناك السائق المتهور الذي يريد أن يريد أن يسبق سيارة الاثنين، مهما كانت خطورة ما يفعله، وما يمكن أن يسببه من كوارث. وهما يتركانه يسبق، فينطلق بسرعة مجنونة، وبعد قليل نجده وقد تعطلت سياراته، لكن ناصر لا يهتم بالتوقف لمساعدته، فهو يشعر أن الرجل يستحق العقاب. ويدور حديث عن تهور السائقين في البلاد، وكثرة حوادث الطرق في لمسات من النقد الاجتماعي.
لا شك أن “الحبكة” تشبه كثيرا حبكة الفيلم الأمريكي “المبارزة” Duel أول أفلام المخرج ستيفن سبيلبرج الذي أخرجه للتليفزيون عام 1971، وكان بطله، وهو مندوب إحدى الشركات، يقود سيارته في طريق طويل في صحراء تمر عبر جبال “سييرا نيفادا” بكاليفورنيا، يريد أن يلحق بموعد مع أحد زبائنه لعقد صفقة مهمة، لكنه يجد نفسه مطاردا من قبل شاحنة عتيقة غامضة، يقودها شخص لا نراه، ومن دون أي سبب واضح.
أما في الفيلم السعودي، فلدينا اثنان، شاب وفتاة، في طريقهما لحضور زواج أبيهما. وبدلا من الشاحنة ستظهر على الطريق سيارة “جيب” غريبة الشكل، لديها عدد من المصابيح مثبتة أعلى الواجهة الأمامية. يقودها شخص، لن نراه في البداية، لكنه سيخرج فيما بعد من السيارة ويظهر ملثماً. ما سبب هذه المطاردة والتعقب المستمر المزعج الذي يتحول عند مرحلة معينة إلى محاولة تدمير سيارة ناصر ومريم، وقتلهما؟ فلا نعرف إجابة عنه. وهو السؤال الذي يشغل بال ناصر ومريم ويفجر أيضا بعض الخلافات فيما بينهما، ويكون مدخلا لاستدعاء الذكريات، الحلوة والمرة، والأهم، أنه سيكشف أيضا العلاقة المتوترة بين جيل الأبناء وجيل الأب. كما ستساهم الرحلة في نهايتها، في توثيق علاقة الشقيقين، وكذلك دفعهما لمواجهة الأب بسلبياته والتخلي عن الخضوع المستمر لرغباته. إنه بهذا المعنى فيلم تمرد أيضا على القيم الاجتماعية القديمة، على “السعودية القديمة” التي يمثلها في الفيلم جيل الأب.
الفيلم إذن، لا يجعل من السيارة الغامضة التي تسعى للفتك بالبطلين، شيئاً قدرياً غامضا يحمل معالم رمزية كما كان الأمر في فيلم سبيلبرج، بل يعيد الأمور إلى نصابها الواقعي، ويلقي الأضواء على العلاقة بين ناصر ومريم، وهي علاقة منقطعة، رغم أنهما يقيمان في منزل واحد كما تشكو مريم، وأما ناصر فحجته أنه مشغول في العمل في إدارة الشركة التي يمتلكها والده. وخلال الطريق سيشكو ناصر من إساءة موالده في معاملة العمال، وعدم الاهتمام بمشاكلهم، وظلمه لهم، وهو ما تسبب في موت أحدهم، والآن أصبح “ناصر” نفسه، هو الذي يواجه قضية رفعها ضده أقارب العامل القتيل.
هل يمكن أن يكون أحد الذين ظلمهم الأب وراء هذه المطاردة التي لا تتوقف والتي تتخذ أبعادا شديدة الوحشية والهمجية؟ أم ربما يكون أحد أصدقاء طفولة ناصر الذي تسبب الأخير قبل سنوات بعيدة، في فقدانه عينه بسبب قذيفة غير مقصودة؟ هذه التساؤلات تبرز، وسط أجواء غريبة كثيرا، وتفاصيل تراكم بعض التداعيات وتمهد للمواجهة التي ستقع بين السيارة الهجومية وسيارة الشقيقين.
على سبيل المثال، يتوقف الاثنان في مكان ما ويدخلان مسجدا صغيرا لأداء الصلاة، وعندما يخرج ناصر من المسجد يجد أن حذاءه قد اختفى. ويضطر لقيادة السيارة بقدمه عارية. ولكن هناك عقرب تسلل من البداية داخل السيارة، والآن توقف العقرب فوق قدم ناصر العارية، مما يصيبه بالذعر، ويربك قيادته السيارة، ولولا حنكة مريم، لساءت العاقبة.
مريم تتحدث عن المستشفى الذي تديره، وواضح أيضا أنها تملكه، فنحن أمام أسرة ثرية، تتمتع بالمال والنفوذ، فناصر مثلا يملك أن يشتري هدية لوالده عبارة عن خنجر ذهبي بمائة ألف ريال، وهو مبلغ كبير يثير حنق مريم. لكن سيأتي وقت يستخدم ناصر الخنجر في الدفاع عن نفسه، فمن الجوانب الجيدة في سيناريو الفيلم، أن كل التفاصيل الصغيرة التي يراكمها من البداية، تستخدم في تطوير الحبكة أو الإضافة إلى أجواء الإثارة، بما في ذلك ابرة “المكحل” التي تستخدمها مريم في تكحيل عينيها، فهي ستستخدمها في طعن المهاجم الشرس.
عندما يتصور الاثنان أنهما قد وصلا إلى من ينقذهما من هذا الشبح الغامض الذي يطاردهما ويريد قتلهما، وهو شرطي يجلس في سيارة الدورية على أحد جانبي الطريق، سرعان ما تلتوي الحبكة، فالشرطي يتصل بمقر قيادته ويعطيهم تفاصيل هوية ناصر ومريم، فيقبض عليهما، ويضع القيد في يدي ناصر، بدعوى أنهما ربما يكونا قد سرقا السيارة، فقد أبلغ “أحدهم” بسرقة سيارة بنفس المواصفات. هل هي محض مصادفة!
لكن السيارة المطاردة ستظهر فجأة، فهي قادرة باستمرار على التغلب على أي عثرة، وكلما تصور ناصر ومرم أنهما نجحا في تضليلها، أو في إرغامها على الجنوح خارج الطريق مثلا، تستطيع أن تعود مجددا. والآن تعود السيارة بأقصى سرعة تريد أن تدهس ناصر ومريم إلا أنها بدلا من ذلك، تدهس الشرطي. ويسرع ناصر بالسيارة إلا أن مريم تريده أن يعود إلى مكان سقوط الشرطي فربما يكون جريحا ويحتاج للمساعدة الطبية، وهو ما يراه ناصر أنه تصرف غير عاقل قد يؤدي إلى قتلهما على يدي ذلك الشيطان الذي يطاردهما.
في الفيلم الكثير من الحيل والحركات الصعبة الخطرة التي ينفذها بمهارة فريق الإنتاج وخصوصا المؤثرات الخاصة وبدلاء الممثلين، وهي مشاهد لا تقل دقة في التنفيذ عن أفلام هوليوود، كما أن الحل لن يأتي في نهاية الأمر، سوى بعد خسائر كبيرة، لكن الأمر الإيجابي أن ناصر سيكون قد حسم أمره وآثر التخلي عن العمل مع أبيه، كما أن مريم ستهمس في أذن العروس الشابة التي تزوجها والده، تحثها على طلب الطلاق!
هناك بالطبع، كما في مثل هذا النوع من الأفلام، بعض الاستطرادات، وبعض السذاجة في الحوار، والمبالغة في تعبيرات الوجه في لقطات “الكلوز أب” (القريبة)، كما يوجد بعض التكرار في مشاهد اصطدام السيارة الغريبة بسيارة ناصر ومريم. وربما لا يكون منطقيا أو مقبولا أيضا وجود سيارة أخرى وسط رمال الصحراء من دون سبب واضح، بينما يتحدث رجلان بالقرب منها، يطلب منهما مريم وناصر مدهما بهاتف محمول بعد أن فرغ الشحن في هاتف مريم، التي تبذل جهدا كبيرا في التقاطه بينما باب السيارة مفتوح، وناصر يقود ويلتف ويحاول الفرار من السيارة التي تتعقبه تريد أن تفتك به. وكلها من الحواشي الضرورية لزيادة جرعة الإثارة والتوتر في هذا النوع من الأفلام. فالمهم أن الصنعة جيدة، والفيلم نفسه يتميز بالسلاسة، ويتيح للمشاهدين الاستمتاع وترقب لحظة النجاة أو “الإنقاذ في اللحظة الأخيرة” من دون المونتاج المتوازي الذي كان رائد الفيلم الأمريكي ديفيد وارك جريفيث أول من ابتدعه. فسياق السرد في الفيلم تقليدي، غير متعرج، مع وجود بعض اللقطات السريعة التي تشير إلى نوع من “الهلوسة” البصرية التي يعاني منها ناصر بعد اصابته بجروح في اشتباكه مع السائق المجنون، ودور المونتاج أن يجعل السرد سلسلاُ، متدفقا، ويبني المشاهد من الانتقال بين داخل السيارة وخارجها، وبين اللقطات القريبة (للوجوه)، واللقطات العامة من بعيد، أحيانا من زاوية مرتفعة للطريق المخيف الخالي الذي يشق الصحراء، أو لخلق التوتر بين السيارة المسرعة الغريبة التي تشرف على الاصطدام بسيارة ناصر ومريم، اللذين لا قدرة لهما على التعامل مع هذا الموقف ولابد أن تتدخل في النهاية، يد العناية الإلهية.
يلفت النظر في فيلم “سكة طويلة”، أن فاطمة البنوي (في دور مريم) تظهر في ثياب عصرية، من دون غطاء للرأس، في سياق طبيعي مقبول وهو ما يمنح الفيلم طابعه الحداثي، ويقربه من المشاهدين من جيل الشباب.
رابط الفيديو