الفيلم السعودي “رولم”: تراتيل بصرية لوجه المدينة

كيف تحمل التجربة الأولى كل هذا الصدق والنضج والقدرة على تجسيد الرؤية وتطويع الأفكار. نحن أمام عمل ناضج صاغته الموهبة التواقة للتحقق، والإصرار المدهش على صنع الأصيل والمغاير، ولو دققنا النظر قليلاً لوجدنا صناع العمل يرسمون أنفسهم على هذا الشريط المفعم بالمشاعر.

وربما لا نلاحظ الخط الوهمي الفاصل بينهم وبين أبطال الفيلم، فالأحلام مشتركه والهم الفني والإنساني واحد، والأزمة ممتدة خلف الكاميرا وأمامها. من تلك الذاتية والتجربة الحية تتجلى أهمية فيلم “رولم”، الذي أراه بمثابة بيانٍ قوي، يبوح بهموم وتطلعات شباب السينمائيين الذين عشقوا السينما وساقهم الأمل نحو إبداع مغاير، يعبر هذا الفيلم بلغة بصرية شديدة العذوبة عن أحلام هذا الجيل المبعثرة وسعيهم الصادق لخلق سينما جادة تعيد هذا الفن الغائب إلى جمهوره وعشاقه.

ويبدو أن هذه الرسائل التي حملها الفيلم وجسدت طموح جيل محمل بالشغف، قد أتت ثمارها فيما تشهده المملكة الآن من اهتمام بالغ بالسينما وتدشين العشرات من دور العرض، وإقامة المحافل التي تشجع التجارب الجادة وتدعم مشاريعهم.

بصوت طلال مداح وابتهالاته المشحونة بالروحانيات يبدأ القرشي فيلمه بريبورتاج بصري مكثف لمدينة جدة العريقة، نتذوق طعم البيوت ونتحسس وجه الحارات التي رسمها الزمن بريشة عاشق، نستنشق رائحة البحر الذي حضن المدينة، تتوالى اللقطات التوثيقية للأسواق والدكاكين وأصحاب الحرف بل للقطط الضالة التي تنام في سلام المدينة. هذا التدفق ينجح في شحن وجدان المشاهد بطاقة روحية تتسق مع إيقاع ومضمون الفيلم الذي يتقصى الجمال في الأماكن والأرواح.

تنقلنا موسيقى” محمد ناصف” بإيقاعات رشيقة لقصة عمر نزار “خالد يسلم” عن مخرج شاب عائد من أمريكا بعد أن درس السينما، يعمل في وكالة دعاية وإعلان، لكن طموحه وتطلعاته لا تقف عند أفلام الدعاية السطحية التي يصممها لأصحاب السلع.

طبيعة عمر المتمردة النزقة تجعله دائم الصدام، تارة يصطدم مع واقعه الاجتماعي المنغلق فيساق إلى مخفر الشرطة، وتارة أخرى مع عميل لا يكترث لأفكاره وفنه فيرحل عن وكالة الإعلان، ثم صدام أخير مع حبيبته لينا “سارة طيبة” تلك الفناة المشرقة التي تدفعه الغيرة عليها لإهانة غريمه بكل طبقية واستعلاء، تغضب لينا من عمر وتبتعد وكأنها تدينه للخروج عن ميثاق هذا الجيل الجديد المستنير الذي يؤمن بمبادئ الحرية، عمر يخسر عمله ويبتعد عن حبيبته لكنه لم يخسر حلمه الذي ظل يبحث عنه في شوارع جدة.

سيناريو هذا الفيلم الذي كتبه القرشي مع ياسر حماد هو أساس نجاحه وتفرده، هذا التنامي الدرامي الناعم السلس الخالي من ترهلات السرد والتفريعات والثرثرة التي تحول الأفلام لمجلة حائط. كذلك التأسيس الناجح للشخصيات والخروج بها من دائرة التنميط والأحادية، اشتباك الشخصيات الذي ينتج عنه حواراً تتسرب من خلاله الرسائل دون أن تشعر بجملة واحدة وضعت عمداً على لسان شخصية، مهارة لم نعد نراها كثيراً، في ظل أفلام بلا سيناريو.

عمر تسوقه الصدفة لمحل انتيكات يملكه رجل سبعيني يدعى فريد أو الخواجة  “شاهر القرشي”، يبدو أن عمر وجد ما كان يبحث عنه في هذا المكان الضيق الذي يكتظ بالتحف والنوادر وبدائع البشر، تتجلى قدرة عبد الإله القرشي في توظيف هذه السينوغرافيا البديعة في خلق تكوينات غاية في الدلالة والمعنى، تسرد حكايات من ماض بعيد، “نوستالجيا” تأسر القلب والوجدان، يتحرك عمر ورفاقه في المكان الضيق، صور قديمة تروي أمجاداً وتؤبن هزائم، صوت أم كلثوم يشدو برباعيات الخيام، الأسطوانات النادرة، وصورة عبد الناصر تلمحها الكاميرا بصعوبة فتتوالد المعاني، هذه السينوغرافيا البصرية المليئة بالتفاصيل الدقيقة تمهد دراميا للدخول لعالم هذا الفنان القديم عاشق السينما صاحب الأحلام المؤجلة، وجامع التراث الذي يهدي كتبه ونوادره القيمة بسماحة لمن يعشقها ويقدر قيمتها. يرصد عمر هذا التسامي والرقي والقدرة على العطاء والتخلي فيقع في عشق عرابه الجديد الذي يفتح صندوق نقوده للعابرين.

 تفتحت عيون فريد في مصر، درس في الإسكندرية حيث درس يوسف شاهين وشهد الحلم الناصري ثم سافر إلى فرنسا ودرس التصوير السينمائي وعاد مع انطفاء الحلم هكذا يحكي فريد قصته التي لونها الزمن وصبغها بالشجن، تتجلى هذه الشخصية من خلال أداء شاهر القرشي المبهر الواعي بعمق الشخصية وقدرته على ضبط الانفعالات والنبرات وفق المنسوب الدرامي لكل لمشهد، ربما كانت شخصية فريد بكل ما تحمله من عمق وحب هي المعادل البشري للمدينة القديمة التي تخبئ أسرارها وتنظر لبراح البحر في صمت.

 عمر يريد أن يحكي عن جدة مثلما حكى يوسف شاهين عن الإسكندرية في أفلامه. هكذا أخبر عمر صديقه لكن صديقه الذي اغرورقت الأيام في وجدانه، يقول له “تذكرني بمخرج ترك المدن التي فتحت له قلبها، وعاد لجدة التي انهزم فيها، لأنه كان وحيداً “. هنا يتحدث فريد عن حلمه القصي وكأنه يوصي هذا الجيل بالصمود وعدم الاستسلام، تتحول الصداقة إلى تلاقٍ فني بين جليين، عمر، الذي يمثل المستقبل المشرق، وفريد هو الأب الذي يريد لابنه أن يكمل حلمه، عاشقان يلتقيان في حب معشوقة واحدة، السينما.

يبحث عمر عن جدة في وجوه البشر وحكايات الناس، يتحقق الحلم ويبدأ التصوير وينطق بكلمة رولم، وهي اختصار “Roll film”هذا المصطلح الذي يستخدمه يوسف شاهدين في تصوير أفلامه (الفيلم يقدم التحية ليوسف شاهين مرات عديدة).. وبعد أن يفرع عمر من تصوير فيلمه بمساعده الأصدقاء وعلى رأسهم فريد الذي اقترب من روح الشباب، يرتدي الملابس العصرية.

يبدأ عمر في التفكير في مكان لعرض فيلمه، يفكر في سينما فريد المهجورة لكن الجهات ترفض التصريح له، ويبدأ الحلم في التلاشي مرة أخرى، وبعد محاولات فاشله في إعادة فتح السينما، يموت فريد في مشهد شاعري بديع بافتراقهما عند الباب وكأنه يوصيه بعدم الاستسلام. يرحل فريد تاركاً كل شيء لوريثه الفني محل الانتيكات، السينما القديمة، والأهم الحلم، نعم عمر هو وريث الحلم.

يبدو أن السينما المستقلة التي يصنعها المخرجون الشباب مازالت تفاجئنا وتدهشنا. في هذا العمل اجتمعت عناصر كثيرة لترسم تلك اللوحة، سيناريو متماسك وتوليف حافظ على خط المشاعر، موسيقى ملهمة تناغمت مع المؤشر الدرامي، أداء “خالد يسلم” المشرق، الحضور الجميل لسارة طيبة وفاطمة حسين مع سليم الحمصي ونايف الظفيري. مجموعه كبيرة من المخلصين قادهم عبد الإله القرشي ليحقق حلمه الأول.     

يتحقق الحلم وينجح عمر في افتتاح “سينما فريد” ويأتي الجميع لمشاهدة الفيلم الذي يبدأ بكلمة ملهمة للملهم الراحل، هنا يختلط الواقع بالخيال ونشعر أننا من بين هؤلاء الحاضرين، وسنقف جميعا احتراماً لصناع فيلم “رولم” الذين أسعدونا بفنهم.

Visited 13 times, 1 visit(s) today