الفيلم السعودي “آخر سهرة في طريق ر”: ليلة واحدة للفظ جميع الأنفاس!

يُمكن بسهولة تخمين قصة “آخر سهرة في طريق ر” من الاسم والإعلان الدعائي، إذ يدلنا كُل شيء على أنّ هناك فرقة موسيقية، ورغبات ملحّة، وليلة مجنونة، وأشياء تتم للمرة الأخيرة.

يعود محمود صباغ في آخر أفلامه وأنضجها بسيارة مجهّزة بكل ما يحتاجه ثلاثة رجال وامرأة في سعيهم المحموم للحصول على خمسين ألف ريال، في ليلة من ليالي جدة، عروس البحر الأحمر كما لُقّبت منذ فترة طويلة، والعروس قد تطرد بعض ضيوفها أحيانًا.

“نجم للصوتيات”، بأعضائها غير المتجانسين، وأجهزتها القديمة التي لا يفلح في التعامل معها غير سلفر أو جون سلفر (الممثل سامي حنفي)، وهو رجل خفيف الظل، وفيّ ومدمن يقوده الكيف حيث المخاطر، والعوّاد الشاب الضرير طرفي أو طرطر الغليظ (رضوان الجفري) الذي لا تجد النساء غضاضة في الظهور أمامه بزينتهن، وكولا (مروة سالم) الأنثى الوحيدة في الفرقة تغني وترقص بالصاجات، غزالة حسناء متعكّرة المزاج، ومثل أي غزال تفكر في الهروب طيلة الوقت، أما صاحب الفرقة فهو نجم أو أبو معجب (عبد الله البراق) الذي يُلاحق في ليالي جدّة فرص المال والحظوة، بقامته المديدة، وقصة شعره غير اللائقة بسنّه، ومظهره غير المُريح، فرقة متنافرة ومؤتلفة في نفس الوقت، نسخة “جدّاوية” من “عازفو بريمن”، وبينما لا تصل الفرقة الأخيرة إلى بريمن على الإطلاق،  تتيه شخصيات “نجم للصوتيات” في جدة، ثم تشهد الشروق في قلب صحراء الرياض بينما يغرب كل شيء آخر.

نجم هو ابن سيدة راحلة تُدعى كاكا القمر، ومن يعمل في مهنة كاكا يُقال أمامها بأنّها فنانة، وفي الخفاء “طقاقة”، وقد يُقال أسوأ من ذلك، ونعرف من حديث الأبطال أنّ كاكا إحدى نجمات الأعراس وجلسات الطرب، ومثل كل العاملات في مجالها سمعتهنّ مخدوشة دومًا، والرجل الذي له أم من هذه النوعية، شخصية “نجيب محفوظية” بامتياز، ظهرت في روايات نجيب محفوظ غير مرّة، وكاكا مثل عنايات أبو سنة في “شاهد ما شفش حاجة”، وريبيكا في الفيلم الذي يحمل اسمها لهيتشكوك، تحضر سيرتها مكثفة، وضاغطة، لكنّنا لا نراها على الإطلاق، وبالمناسبة كان هناك مطربة في مكة المكرمة اسمها فاطمة بشيت ولكنها معروفة بـ”كاكا” في أصقاع الحجاز حسب وصف الكاتب والمؤرخ والناقد الفني علي فقدنش.

لمطربات الأفراح أو “الطقاقات” سيرة ممتلئة عن آخرها في السعودية، مطربة أفراح/ حفلات خاصة/طقاقة، هي المرأة التي تُحيي الأعراس، وجلسات الطرب في المنازل والشاليهات، وما أقل من ذلك وما أكثر، ولأنّ زمن الصحوة ظهر في الثمانينيات ثم بلغ ذروته القصوى في التسعينيات وما بعدها فإنّ هذه الطبقة لم تكن تحيي الأعراس فقط، بل هي صوت ثقافي واجتماعي مهم، في حنجرة الموروث الفني في السعودية، وشبه الجزيرة العربية عمومًا، كان في جدة نجمات شهيرات مثل طاهرة، وزبيدة، وتوحة التي ذُكر اسمها صريحًا في أحد المشاهد، كما ذُكر في فيلم “عمرة والعرس الثاني”، لنفس المخرج.

يحتفي الفيلم بطرب الحجاز وشبه الجزيرة العربية، كما ذكر المخرج، وظهر ذلك جليًا في الأسماء، والاقتباسات، والأمثال، هناك مثلًا اسم “أبو معجب”، وهو في الأصل كنية الشاعر الغنائي يحيى عمر الجمالي اليافعي، وهو من الشخصيات الغنائية المؤثرة في طرب المنطقة ككل.

يقترب الفيلم من هذه الطبقة الموضوعة جانبًا، بأخلاقياتها، وطقوسها، ولغتها الاجتماعية، ويلتقط منها عينة، يناوشها، يلكزها بعصاه كي تعترض، وتصرخ، وتشتم، وتُظهر نفسها أكثر، فكان هذا الفيلم الذي يُقارب الساعتين، من اللهاث، والأدرينالين، والغرائب. 

يبدأ الفيلم من الليل، من قاعة إحدى الأعراس التي تحييها الفرقة، كولا على المسرح وبجوارها طرفي، أما سلفر ونجم ففي الكواليس محجوبيْن عن النساء، كعادة الأفراح في السعودية، ومن هذه القاعة تخرج الفرقة تجوب الشوارع كي تحظى بفرصة رزق، لكنّها في كل مرة تجابه مشكلة مختلفة تذكّرها بأنّ الزمان والمكان قد لفظاها وعليها أن تستسلم أو تعمل بشروط اليوم، نحن لا نطالع الفرقة فقط، بل نتفحّص جدة من رأسها حتى قدميها، بشوارعها، وأزقتها، ومعمارها، وبشرها الذين لا يقلون غرابة وفرادةً عن الفرقة، فمن سبوع  المولود أو الـ”رحماني” كما كان يُسمى قديمًا، إلى السيدة المحتفلة بخلع زوجها (الممثلة شيماء الطيب)، وأبو سراقة (إبراهيم حسن محمد) الثري الذي يقول بأنّه تاب عن الحرام، ويعيش في شقة فارهة مع أنثى ببغاء يؤمن بأنها مسكونة بروح زوجته الراحلة،  إلى مجموعة من الفتيات اللاتي يحتفلن بآخر حقنة دواء في “أُبحر”، نمرّ أيضًا على نادٍ ليلي اسمه “باب شريف إن”، وهو مكان تكوّن ببساطة بسبب نوعية السكان من الجالية الفلبينية في منطقة باب شريف الذي كان أحد أبواب جدة قبل قرون، حتى نصل إلى مطاردة في منطقة جدة القديمة (البلد) مع صبيان بن هام (جميل علي)، تاجر الحبوب الذي يقطع إصبع نجم بالسيف لأنّه لم يدفع مستحقاته المالية، إنها أماكن معبئة حتى رأسها بذكريات جدة، وناسها، وتفاصيلها، وتاريخها غير المكتوب، ثوانٍ تطير بسرعة قد لا ينتبه لها كل المشاهدين، وإن انتبهوا فقد لا يقرأون ما تدل عليه، هناك على سبيل المثال، “عماير الإسكان” التي تظهر بشكلٍ خاطف في أحد المشاهد، وقلة من يعرف أنّها تحمل ذكرى تاريخيّة مهمة بقدر ألمها، إذ كانت سكنًا مؤقتًا لبعض الأسرة الكويتية التي فرّت من الموت أثناء غزو صدام حسين الغاشم.

في الفيلم طلّة محبوبة للمخرج الكبير خيري بشارة، خصوصًا أنه ظهر في كادر يتوسط آخر، وكأنه فيلم داخل الفيلم، عندما أطلّ خيري بشارة، لم يظهر وجهه فقط، بل رأينا معه عمّال محالج القطن من فيلمه “العوامة 70″، وسيمون وهي تحقن المدمنين على مركب النيل في “يوم مر يوم حلو”، وشيريهان مدفونة ظلًما في “الطوق والإسورة”، وعمرو دياب راقصًا في “آيسكريم في جليم”، عوالم ساحرة خرجت من خيال هذا المخرج الكبير، ظهرت بجواره أيضًا الكاتبة السعودية خفيفة الظل أمل الحربي، التي أتمنى أن تُمنح فرصًا أخرى للظهور في السينما، قدّمت هنا دور عاملة داخل الملهى ومن مهامها جمع الأموال المُلقاة على أرضية المسرح مثل علاء مرسي في فيلم “كباريه”، لهما ذات الانفصال عن الواقع والاستخفاف به.

قال محمود صباغ أكثر من مرة بأنّ هذا الفيلم رسالة حب إلى مدينة جدة، وقد كان ذلك واضحًا بالفعل في كل مشهد، وكل زاوية تصوير، وكل رنّة موسيقى، وبالتالي جاء الفيلم مثل أي “رسالة حب”، يشوبها بعض الافتعال، والمبالغة، ومجافاة المنطق قليلًا، فلا يوجد في الحقيقة، أحد يتحدّث بالأمثال، والكلام المقفى والمسجوع طيلة الوقت، مهما بلغت شعبيته أو “حونشيته”، فقد بالغ بعض الممثلين بطريقة الحديث مما أفقدهم قليلًا من الطبيعية المفروضة في هذه الأدوار، فظهروا كأنّهم أغراب يحاولون إثبات الانتماء حتى بدا مزيفًا بدرجةٍ ما.

أما بالنسبة للسهرات التي حضرتها الفرقة، فبالنظر إلى ازدحام مدينة جدة، ومساحتها، ونوعية تجمعاتها، فلا تكفي ليلة واحدة لكل هذه الانتقالات، والمشاوير، والفعاليات، وإن أضفنا لها سفرية إلى الرياض قبل الشروق، أصبح ذلك ضربًا من المستحيل فعلًا، وفي نفس السياق، فقد رأينا نجم وقد بُترت إصبعه بسيف بن هام، لكنّه يُكمل ليلته بشكل طبيعي، فلا نراه يتأوه، أو يتألم، أو يطمئن عليها، أو حتى ينظر إليها، وكأنّ ما خسره كان شعرة رأس، وليس إصبعًا بعظمها، ودمها، وأعصابها!

من ناحية أخرى رغم أنّ الفيلم من المفروض أنه فاقع المحلية، لكن توجد به لمحة مستوردة ومُقتحمة، مثل ابتسامة الجوكر الموشومة على كف أحد صبيان بن هام تاجر الحبوب، لقد ظهرت هذه اللمحة، بالمناسبة، بشكلٍ أكثر وضوحًا في فيلم صبّاغ السابق “عمرة والعرس الثاني” الذي أعدّه الأقل من حيث المستوى في أفلام صبّاغ الثلاثة.

إن الأفلام التي تتحدث عن الفشل بعد ازدهار المهنة قليلة جدًا، ليس في الشرق الأوسط بل في العالم، فهناك الكثير من الأفلام التي تعرض صعود الأبطال من القاع إلى القمة، في الفنون أو الرياضة وغير ذلك، من “حكاية حب” وحتى “مولد نجم” و”كريستال”، ومن “الملك ريتشارد” وحتى “دانغال”، لكن من يحتفي بالعكس قلة قليلة، إنّ تصوير الانهزام ثقيل على النفس، تقول حكمة منسوبة إلى الرئيس الأمريكي جون كينيدي أنّ:” للنصر ألف أب، أما الهزيمة فيتيمة”، ومن يتصدّى ليكون أبًا لهذه الهزيمة، فهو مخرج جسور بالتأكيد، ويندرج “آخر سهرة في طريق ر” تحت هذا الضرب السينمائي، وهو أول فيلم سعودي من هذا النوع حسب علمي، وهي النقطة الأكثر اكتمالًا وقوةً فيه.

لقد غفرت مشاهد النهاية للفيلم ما تقدّم من عيوبه وما تأخر، ولو كان لدى أي مشاهد شك في موهبة عبد الله البراق، فهذه الدقائق كفيلة بقطع الشك باليقين، التغيير الذي طال وجه نجم كان كاسحًا، إذ تسللت ملامح الاستلام إلى وجهه دون مجهود، وتحوّل من شخص دنيء النظرات، إلى رجلٍ بعينين غشتهما دموعٌ أبت الهطول، وارتخت ملامح وجهه بطريقةٍ يعرفها كل من أدرك إنه يعيش ختام الأشياء، رغم أنّ نجم كان طوال الفيلم، شخصًا جريئًا، وانفعاليًا، وسليط اللسان، لكنّه عندما تيقن بأنّ النهاية قد حانت، لم يكل الشتائم لطرفي وكولا، ولم ينُح على رفيق حياته، بل بلع لسانه الطويل، واستلم لصمتٍ بليغ، وواجه الشمس معطيا ظهره للمشاهدين، في صحراء واسعة، والصحراء في السينما، مثل البحر تمامًا، تقف عليها النهايات شامخةّ، ونجم، مثل أي نجم، لا بد أن يأفل يومًا ما، يا لها من نهاية عذبة، قد تسكن المشاهد لساعات، أو لأيام، وربما للأبد!

لغة الفيلم قوية وسريعة التأثير: الملابس، الألوان، والإضاءة، وزوايا التصوير، والمشاعر المخطوفة التي لا توشك أن تبدأ حتى تنتهي، هناك على سبيل المثال، المشهد الذي أظهر ما يُمكن تفسيره بأنّه ميولًا مثلية بين السيدة المطلقة والبنت كولا، لكن المخرج قدّمه باحترافية مرّرته خفيفًا بلا مشاكل، كما استطاع المخرج باقتدار السيطرة على الاحتشاد، احتشاد الفيلم بالممثلين، والأجواء، والذكريات، والمعلومات.

“آخر سهرة في طريق ر”، حقق هدفه الذي وُضع له في النهاية، رسالة حب لمدينة جدة، وفيها كل ما في رسائل الحب، من قوة وضعف، وحسناتٍ وعيوب، إنه الفيلم الثالث للمخرج محمود الصباغ، الذي عرفناه من “بركة يُقابل بركة”، و”عمرة والعرس الثاني” وصبّاغ يُحب التقابل بين النقيضيْن، بركة الرجل القادم من طبقة شعبية، أمام بركة الفتاة القادمة من الطبقة الكريمية، وعمرة الزوجة القديمة أمام عشتار الزوجة الشابة، وهنا جدة الآفلة مقابل جدة المُقبلة التي تدهس ولا تُبالي.

إن الطقاقات أو مطربات الأعراس مع فرقهم، هم من أمسكوا بقناديل الفن في ظُلمة التطرف الديني، دون وعي منهم ربّما، وهم الذين تناقلوا الموسيقى، مثل كلمة سر للعب والنجاة، فكانوا “حرّاس الطرب” بلا مبالغة.

إن كاكا محظوظة لأنّها خُلدت قصةً في فيلم، وإن كانت شخصية خيالية، لكن هناك العشرات مثلها، لم يحظين بالشهرة، ولا بالمال، وذهبت أعمارهنّ هباءً في أفراح الآخرين، واحترقت بشراتهم أمام مواقد النار للحفاظ على اشتداد الطبول والدفوف. 

الفيلم لم يوصم أحدًا، وليس هذا دور السينما أصلًا، وحتى الحبوب المخدّرة التي أدمنها بعض أعضاء الفرقة كان بسبب طبيعة العمل التي تفرض عليهم ساعات طويلة من السهر، والـ”طق”، وغلاظة الزبائن، وقلة تهذيبهم، وطلباتهم التي لا تتوقف، إنها أخلاقيات طبقة معينة، بحلوها وبشاعتها، لا تريد منّا التبرير أو الوصم، يكفي أن يظلوا في الذاكرة.

الكثير من الأشياء قد لفظت أنفاسها هنا، أهمها الممثل سامي حنفي الذي توفي بعد انتهاء مشاهده في الفيلم، كما انتهت الفرقة، وغاب جزء من تاريخ جدة إلى الأبد أيضًا، جدة التي كانت مدينة الانفتاح الأبرز في السعودية لعقود طويلة، لم تعد هي الوحيدة إذ تنافسها مدنٌ أخرى حاليًا، عندما وقف نجم في مواجهة الشروق، كان يودع غروبًا آخرًا، إنه من المشاهد السينمائية القليلة التي تعطي للشروق معنى مضادًا، إذ درجت العادة أنّ نعني البدايات عند حديثنا عن بزوغ الشمس، ناسين أنّ كل شروق يحملُ موتًا من نوعٍ ما، لقد أطلعنا محمود صباغ على لحظات نادرة، لحظات تلفظ فيها فرقة فنية أنفاسها أمام ناظرينا، ورسالة الحب هذه، مهما شابها من عيوب، تستحق رسالة شكر، ربما تحتوي قليلًا من العتاب، لكن مع الكثير من التحايا والتقدير للمخرج وطاقم الفيلم، ومع الكثير من الترحّم على “أحياء” جدة وقتلاها.

Visited 11 times, 1 visit(s) today