” الصعاليك”.. طيران بلا أجنحة
يبدو فيلم “الصعاليك”، وهو أول فيلم روائي طويل يعرض ل داوود عبد السيد تأليفا وإخراجا (1985)، كما لو كان شهادة قوية عن زمن الصعود السريع، عصر الإنفتاح، ولكنه أيضا، وبنظرة أعمق، حكاية مؤثرة عن الصداقة الضائعة، ويتضمن، بنفس الدرجة، إعادة تعريف لمفهوم الصعلكة، التي صارت أكثر انحطاطا ودونية، لم تعد هزارا ولعبا وحرية، ولا جدعنة في وقت الخطر، حتى ما يظللها من مودة وشهامة، كل ذلك ضاع بعد هبوب عاصفة المصلحة، وفي عصر جديد لا يرحم.
لا ينفصل “الصعاليك”، كما نراه اليوم، عن عالم داوود عبد السيد وملامحه في أفلامه الروائية الطويلة كلها: هو لا يرى شخصياته من الخارج فقط، ولكنه يراها من الداخل، ولا يرى عالمها أيضا من أعلى فحسب، ولكنه يراه فى العمق، ولعبته المفضلة أن يدخل شخصياته فى تجربة صعبة، أو ينقلهم الى عالم جديد ومختلف، ليختبر عجزهم وقوتهم، وليختبر أيضا قدرتهم على المشاركة أو المراقبة، وهي دوما شخصيات تثير التأمل، وربما التعاطف، لأنها رسمت بتفاصيل إنسانية كاملة، ولأنها تواجه تجارب أكبر من طاقتها، أو لأنها أكثر عجزا من ضبط حياتها وظروفها.
قاع المدينة
بطلا “الصعاليك” من قاع الإسكندرية، اثنان من الفهلوية بلعبان بالبيضة والحجر، شخصيتان على هامش المدينة، تحاولان أن تكونا شيئا، بدلا من صفة “صعاليك” التى قالها لهما رجل متأنق، أراد أن يقول إنهما مشردان فى مجتمع يتغير، نراهما لأول مرة فى عام 1962 يهربان من دفع النقود فى مطعم، بينما نسمع أغنية “ريسنا ملاح ومعدّينا”، هما خارج هذا التغيير الإشتراكي القادم، وأدنى حتى من مستوى النظر.
مأزق مرسي (نور الشريف) وصلاح (محمود عبد العزيز) فى الصعود والطيران، ولكنه صعود مكتسح فى السبعينيات، جعل من الأمر طيرانا بدون أجنحة، وتجربة الصعود ستتيح ل داوود تحقيق أكثر من هدف بضربة واحدة: اختبار قيمة الصداقة بين مرسي وصلاح، وهي تقريبا القيمة الوحيدة التي يؤمنان بها، بل إنها قيمة لا تتعدى الرجلين، فهي لا تصل مثلا الى صفية ( يسرا)، زوجة مرسي، والصعلوكة الثالثة التي ستصعد معهما، لقد ظلت مجرد امرأة خارج دائرتهما المقدسة، بل حتى علاقتها العابرة مع صلاح فى غياب مرسي، لم تفسد علاقتهما، نراها فى مونولوج طويل، بعد أن خانت مرسي مع صلاح، وهي تقول إنها لم تعد تفرّق بين مرسي وصلاح، فكأنهما رجل واحد، بل إنها تغار من هذه الصداقة، ومن هذا التهميش، وهو تعبير فريد وقاس للغاية، وفي النهاية تطلب من مرسي ألا يخسر صلاح أبدا، لأنه لا يمكن تعويضه، تقول ذلك بعد أن يكون صلاح قد ذهب بلا عودة الى الحياة الجديدة التي أرادها، والتي وافق على دفع ثمنها.
الهدف الثاني الذي أصابه سيناريو داوود المتماسك هو عمل مقارنة طريفة حقا بين انتهازية وسرقات الستينيات الصغيرة، وانتهازية السبعينيات والثمانينيات الكبيرة، مرسي وصلاح يلعبان حرفيا فى سنوات الصعلكة الأولى، بل ويستمتعان بالنصب البسيط، بلعبة الثلاث ورقات، وبالجري من أصحاب المطاعم، وبلحظات اللذة مع الغانيات، وبالفتونة الفاشلة فى البارات، وكأنهما مراهقان يلهوان في المدينة، ولكن شروط اللعبة ستتغير تماما مع تغير مفهوم “الصعلكة” فى زمن الإنفتاح، أو بمعنى أصح مع تحوّل “الصعاليك” الى بهوات، هنا يلعب الصعاليك الأصليون مع صعاليك جدد مختلفين، لهم قوانينهم الجديدة.
شخصية محورية مثل “الدواخلي”، التى لعبها ببراعة الممثل القدير علي الغندور، تكشف للصديقين عن نموذج آخر للصعلكة الجديدة المرتدية ثوب البهوات، لا نعرف الكثير عن ماضي الدواخلي، ولكنه بالتأكيد من الصاعدين طيرانا، هو لاعب الثلاث ورقات، ولكن على نطاق أوسع، وهو لا يعرف شيئا اسمه الصداقة، أو يمعنى أدق، لا يعرف صديقا سوى النقود والثروة.
زمن الصعود
الهدف الثالث الذي حققه “الصعاليك” هو تحليل آليات الصعود السريع فى زمن الإنفتاح، عمليات الإستيراد والتصدير المشبوهة، وطرق ضرب الفواتير، وتضليل الضرائب، وإدراك مرسي لحاجة الثروة الى سلطة تحميها، فيصبح عضوا في مجلس الشعب، متمتعا بالحصانة.
فيما بعد ستتعقد شبكة المصالح، لتصل فى فيلم “مواطن ومخبر وحرامي” (2001) تأليف وإخراج داوود عبد السيد، الى تحالف عجيب، والى مزيج مؤلف من فوضى كاملة، ولكن “الصعاليك” باكتشافه بدايات تكوين شبكات الفساد، يمثل أحد أفضل الأفلام التي قدمت مأساة انفتاح السداح مداح، والأهم من ذلك، رصد تأثير هذا الصعود السريع، على انهيار القيم عموما، بل وعلى انهيار القيمة الوحيدة التي كانت تربط بين مرسي وصلاح، وهي قيمة الصداقة.
الهدف الرابع من رحلة مرسي وصلاح اختبار الشخصيات من الداخل من حيث صلابتها، ومن حيث عجزها وقدرتها، ومن حيث رؤيتها للقيود وللحرية، وهو أمر يشبه النغمة السائدة في كل أعمال داوود التي كتبها وأخرجها، وكذلك في عمله الوحيد الذي كتبه سيناريست آخر “أرض الأحلام”، وهو فيلم كتبه هاني فوزي، وقامت ببطولته فاتن حمامة.
سؤال فيلم “الصعاليك” الضمني: الى أى مدى يمكن أن يتحمل الصعاليك القدامى هذه الصعلكة الجديدة المنزوع منها اللعب والمتعة بل والحب والحرية أيضا؟
هذا السؤال فى قلب معنى الفيلم، وهو مضمون حوار فى مشهد أخير ل صلاح مع مرسي: صلاح يرى أن الثروة جعلتهما جبناء، ومرسي يرى أن الجبن ضروري لحماية الثروة، لقد أصبح لديهما الآن ما يخافان عليه، الخوف لديه هو ثمن الثروة، ولا يمكن أبدا الرجوع الى مفهوم الصعلكة القديم.
صلاح عجز تماما عن استيعاب الحياة الجديدة، صار مراقبا عاجزا يوقع على أوراق، بل إنه سيتحول الى عاشق رومانسي لفتاة تحتقر هذا الصعود، ولا ترى فيه إلا حقيبة نقود، الفتاة منى (مها أبو عوف) تزيد لديه صدمة الصعود، وتكشف زيفها، فى الوقت الذي لم يعد يستطيع أن يلعب كمراهق، أو أن يعود متشردا سعيدا بحريته، تبدو الثروة بالنسبة له قيدا لم يتوقعه، وهو الآن فى سباق، فإما أن يواصل الصعود، أو يتجاوزهم الدواخلي بشركة جديدة، وبصعاليك جدد.
أما مرسي فهو شخصية عملية، سرعان ما تخلص من عجزه، بل واعتبر أن تصميمه على عمل شيء، سينتهي بالتأكيد الى تحقيقه، وهو يعرف أن اللعب مع الدواخلي، وأمثاله من الكبار، أمر خطر للغاية، ولكن لا مفر منه، مقامرة ضرورية، الفرصة حاضرة الآن وفورا، ليس من خلال اكتشاف خاتم من الألماظ فى سمكة فى البحر، ولكن من خلال سوق حر ” ما فيش فيه أي حرية” كما يقول لصديقه صلاح، لم يكن مرسي أيضا مخلصا لزوجته صفية، ولكن صلاح حطمته أول قصة حب حقيقية، وثاني حلم أراده، فياله من صعلوك من زمن الرومانسية التى لم تعد عملة رائجة فى زمن البيزنس.
من هذا التناقض ينشأ الصراع الأخير، فيدمر آخر قيمة وهي الصداقة، وبينما كان مرسي يسعد بلكمات صلاح وهما فى السجن، لأنها كانت بالنسبة له دليل صادقة وتمسك بالتضحية، فإن لكمات وضربات النهاية هي بين شخصين لم يعودا يعرفان بعضهما البعض، الفنار والميناء والإسكندرية هم شهود النهاية، مثلما كانوا شهود البدايات، أعطاهما الصعود بدلا جديدة، ورحلات وسيارات، ولكنه دمرهما تماما، يبدو لي بوضوح أن داوود يعامل بطليه، رغم عدم مثاليتهم، كبطلين تراجيديين، اختارا بشكل خاطئ، وكانت لديهما نقطة بيضاء، ولكن انتهت قصتهما بشكل بائس.
مرسي والده طبال هرب مع راقصة، وترك الأسرة مشردة، وصلاح والده منجد قتله مرض صدري بسبب مهنته، فعلمل ابنه مساعدا فى محل كباب، وأخذ يكح أيضا مثل والده، ولكنه كان يأكل اللحمة مجانا، وصفية والدها يصنع الشاي، مات فصارت تبيع الشاي بدلا منه، وهي أيضا دفعت ثمن الصعود، زوجا لم يعد معها أو لها، الصعلكة القديمة كانت صعبة وبائسة، ولكنهم كانوا أفضل وأكثر تماسكا، حياتهم خطرة دائما، فكأنهما محكوم عليهم بالإنتقال بين عالمين، وبمصير غامض، إذ لن نعرف أبدا مصير مرسي بعد قتله لصلاح، في الأغلب سيخفي جثته، ويعود للعبة الخطرة مع الدواخلي، صار مرسي أخيرا صعلوكا جديدا، وصار أيضا قاتلا.
الرأي والرؤية
في فيلمه الروائي الطويل الأول، يقدم داوود عبد السيد نفسه كصاحب رأى ورؤية سينمائية، وككاتب سيناريو من الطبقة الأولى الممتازة، ورغم الدور الهام للحوار في كل أفلامه، إلا أنه أيضا يهتم بكل عناصر الفيلم السينمائي، شخصياته تبدو كما لوكانت مأخوذة عن رواية بقوة تفاصيلها وملامحها النفسية والإجتماعية، لا يفضل أبدا تفتيت المشهد الى لقطات قصيرة، بل إن فيلمه الأول فيه مشاهد طويلة نسبيا أخذت في لقطة واحدة، مثل مونولوج صفية الشهير مع صلاح بعد الخيانة، وحوارمنى مع صلاح فى مشهدين بالفيلا قبل سفرها، وحوار صلاح ومرسي عن حياتهما قبل وبعد الثراء، بينما يمسك صلاح بالحقيبة التي ستهدم المعبد على الدواخلي، وقد ظلت هذه المشاهد الطويلة من ملامح أفلام داوود، وبما يتفق مع رغبته في التعبير عن شخصياته من الداخل، ومع رغبته في أن يتأمل المتفرج الشخصيات بهدوء، وأن تصل إليه كل ملامح حيرتهم وعواطفهم المضطربة.
اهتم داوود على الدوام بالممثلين واختيارهم، وهنا يمنح محمود عبد العزيز ونور الشريف ويسرا ثلاثة أدوار متميزة، نجح نور ومحمود فى تجسيد الشخصيتين فى مرحلتين مختلفتين، على أن تزيد المسافة بين الرجلين كلما اقتربنا من النهاية، الشيء الذى لم يتغير تماما، هو طريقتهما القديمة في الكلام، بل وباللهجة الإسكندرانية بالنسبة لمحمود عبد العزيز، هذه أشياء من الصعب أن تنمحي بسهولة، يسرا أيضا كانت جيدة فى مشهدين أمام نور ومحمود، والمشهدان عن علاقة الصداقة بين مرسي وصلاح، ربما كانت شخصية صفية فى حاجة الى مزيد من المشاهد المؤثرة، خصوصا بعد الثراء، هي أيضا من الصعاليك، ولكن الفيلم يركز أكثر على الصعلوكين الذكور!
منح داوود أيضا دورا ممتازا لممثل قدير هو علي الغندور، وهو مخرج مسرحي كبير، تألق فى سن متأخرة كممثل، ومنحه مخرجو الثمانينيات الكبار مثل عاطف الطيب وداوود عبد السيد ومحمد خان أدوار لا تنسى فى أفلامهم، وقدم داوود أيضا دورا مميزا ل مها أبو عوف، لعله من أفضل أدوارها فى السينما، شخصية منى التى لعبتها فريدة فى استقلالها وفي قوتها ، وفى تغليبها لعقلها بدلا من عواطفها، وفى اختيارها للحرية وللقيمة، كانت مها مغنية في فريق الفور إم، وكان يمكن أن تقدم أدوارا أكثر وأفضل فى السينما.
محمود عبد السميع مدير التصوير الكبير القادم من السينما التسجيلية، منح مشاهد الشارع فى النصف الأول من الفيلم حيوية مدهشة، يبدو لنا كما لو أن الكاميرا قد اختلست لحظات من مرح وحرية صعلوكين فى المدينة، يتسع العالم، فيغمر الضوء عالم صلاح ومرسي بعد الثراء، ولكنه في الغالب ضوء مصنوع ومؤقت.
يلفت النظر في شريط الصوت إضافة داوود أغنيات وطنية تنقل أجواء كل مرحلة، وتتناقض مع ما نراه، نسمع مثلا ” ريسنا ملاّح ومعدينا” فى مشهد هروب مرسى وصلاح من المطعم بدون دفع الحساب، وأغنية ” بالأحضان يابلدنا ياحلوة بالأحضان” فى مشهد تهريب صلاح للمخدرات من الميناء بسيارته، وأغنية ” ما نقولش إيه ادتنا مصر” فى مشهد بين مرسي وصلاح بعد أن اتسعت أعمالهما فى بداية السبعينيات، وكلها أغنيات تقتحم شريط الصوت، دون انشغال بمصدرها داخل الفيلم، وكأنها صوت المخرج نفسه تعليقا على ما يراه، كما يلفت النظر فى شريط الصوت استغلال داوود البارع لوقفات الصمت بين جمل الحوار، وتوظيفه الممتاز لتلك اللحظات على مدار الفيلم.
أما موسيقى راجح داوود فقد منحت الدراما معادلها المسموع، مرحا وشقاوة فى زمن الصلعلكة القديم، وشجنا وألما سواء مع فشل قصة حب صلاح، أو مع صراع صلاح و مرسي فى مشاهد النهاية، لا شك أن داوود قد وجد صوته الموسيقي فى راجح، ولذلك تواصل تعاونهما بنجاح في أفلام داوود التالية، بل لقد ظلت موسيقى راجح تستدعي أفلام داوود ومشاهدها الى ذاكرة المتفرج فى كل وقت وحين، حتى وهو لا يراها أمامه.
ثلاثة من المخرجين ظهروا فى فيلم “الصعاليك” كمملثين فى أدوار قصيرة: خيري بشارة الذي لعب دور الرجل المتأنق ذي البدلة البيضاء الذي يصف مرسي وصلاح بأنهما صعاليك، ورضوان الكاشف وهو الرجل الضئيل الذى سيفسر ل مرسي وصلاح معنى كلمة صعاليك، ومحمد النجار، الذى لعب دور ضابط الميناء، الذي يخدعه صلاح، بتهريب المخدرات فى السيارة، هذا الشريط السينمائي يضم جيلا يساند بعضه بعضا، يشتركون فى الرؤية، ويظهرون فى مشاهد قصيرة، عنوانا على وجودهم بالصورة، وفى قلب الصورة، وقد نجحوا جميعا فى أن يردوا بالسينما على ما فعله الصعاليك الجديد فى الناس والوطن.
يلطخ مرسي وصلاح بدلة الرجل البيضاء لأنه وصفهم بأنهم صعاليك، كانوا وقتها صعاليك يحتفظون بقيمة الصداقة على الأقل، فلما صعدوا وجدوا آخرين يلعبون بهم، أصبحوا أغنياء، ولكنهم ظلوا دائما فى ذيل الكبار، يتذكر مرسي المشهد بعد قتله ل صلاح، هل تراه يفكر في أن الطين الذي لطخوا به الرجل قد أصابهما بعد التجربة القاسية؟ ألم يكن خاتم من الألماظ فى سمكة افتراضية داخل الحلم أفضل من هذه الطيران بلا أجنحة؟ وألم تكن صفعة صديق أفضل من رصاصة غريب لم يعد منتميا إلا لنفسه؟
هذه تراجيديا مفزعة ومغلفة بالخوف والشفقة، حتى النصب جعله الإنفتاح أكثر وضاعة وخسة، وحتى الصداقة صارت بلا معنى عند أهل الشقاء والشقاوة.