“الشهد والدموع”.. انطلاقة الدراما الإجتماعية المصرية
كانت الدراما التليفزيونية المصرية منذ بدايتها تعتمد بشكل أساسى على تقديم مواضيع اجتماعية نابعة من المجتمع المصرى بكل فئاته وطبقاته الإجتماعية مرتكزة على أن مايجمع الأسرة للإلتفاف أمام الشاشة لمتابعة عمل درامى هو العلاقة التبادلية التى تقوم على رؤية المشاهد لأحداث درامية تصور له الحياة التى يحياها بالفعل وليس تلك الحياة التى لاتهمه ولايستطيع أن يحياها مثلما نجد فى مسلسلات السنوات الأخيرة حيث رجال الأعمال والقصور والرفاهية التى تدغدغ خيال المشاهد الذى لايستطيع أن يحقق هذه الحياة بطريقة شريفة وسليمة قانونياوفى نفس الوقت يريد إمتلاك كل هذه الرفاهية.
ومن هنا جاء إنصراف المشاهد عن هذه المسلسلات الأمر الذى أدى بصناعها الى زيادة نسبة جرعات الملابس القصيرة والإيحاءات الجنسية وسوقية الجمل الحوارية فى محاولة للحفاظ على نسبة المشاهدة وبالتالى نسبة الإعلانات التى أصبحت المتحكم الرئيسى فى الدراما منذ بداية الألفية الجديدة.
كل ذلك أدى الى تغير مفهوم الدراما التليفزيونية وخاصة الموضوع الدرامى المقدم للمشاهد، وبنظرة سريعة الى دراما الثمانينات نجد أن الموضوع هو أساس العمل بل يتفانى الكل فى تقديم مالديه فى سبيل الحفاظ على هذا الموضوع وإظهاره بالصورة الصحيحة، فالكل فى سبيل الواحد وهو هنا الموضوع الدرامى، لذلك برعت الدراما التليفزيونية المصرية فى فترة الثمانينات والتى تعتبر فترة الذروة لهذه الدراما.
ومن أبرز المسلسلات التى قُدمت فى تلك الفترة مسلسل “الشهد والدموع”لرائد كتابة الدراما التليفزيونية” أسامة أنور عكاشة”واخراج الراحل القدير”إسماعيل عبد الحافظ”.
المسلسل تم تقديمه على جزئين بسبب ظروف إنتاجية حالت دون تقديمه فى جزء واحد قدم الجزء الأول فى عام 1983 والثانى 1985.
قابيل وهابيل
يتناول المؤلف خلال المسلسل حياة أسرة “رضوان” بداية من مرحلة العهد الملكى حتى السبعينات من القرن الماضى من خلال الطرح الدرامى لماحدث للمجتمع المصرى خلال تلك الفترة عبر شخصيتى ( حافظ – شوقى ) الشقيقان ومفهوم كلاً منهما للحياة خاصة بعد رحيل الأب وطمع حافظ فى ميراث شقيقه والصراع المترتب على ذلك بين العائلتان، وتتأزم الأمور خاصة بعد وفاة شوقى الغامضة التى تؤكد أحداثها ضلوع حافظ فيها وهو ما يعيدنا الى قصة البداية على الأرض وماحدث بين الشقيقان قابيل وهابيل، ويستمر ذلك الصراع عبر العائلتان مع خلفية التطورات التى تحدث داخل المجتمع المصرى وأثرها عليهما، فنرى حافظ وزوجتة والإستفادة التامة من كافة ظروف المجتمع الإقتصادية والاجتماعية التى تحدث وتتغير، بينما زينب زوجة شوقى وأبنائها مستمرون فى حالة الصمود أمام كل ما يطرأ من ظروف على المجتمع تدعوا الى التفكك وتغير الشخصية المصرية البسيطة التى ترتكز على القيم والأخلاق والتعليم لمواجهة الحياة.
المؤلف أسامة انور عكاشة
ولأن المال هو نقطة إنطلاق الصراع الدرامى للأحداث منذ البداية فقد إستطاع المؤلف أن يصوغ أثر هذا المال على العائلتين، فهناك من يملك كل شئ وهناك من سرق منه حقه البسيط ويصر على إستعادته.
اسقاطات
والمال هنا هو الصورة الدرامية التى يقدم المؤلف من خلاله مجموعة من الإسقاطات السياسية والرمزية عبر صراع شخصيات العمل مع مفهوم هذا المال وأثره على كلاً منهم على حدا، فالأب رضوان “حمدى غيث” هو رمز لمصر التى تمر بمرحلة من عدم الإتزان نتيجة الإنتقال التاريخى من العهد الملكى الى الجمهورية وما صاحبه من غموض فى الحالة العامة للبلاد والتى استمرت عدد من السنوات حتى أتم عبد الناصر قبضته على كافة الأمور، وهو ما ينعكس على الأب الذى يذهب للزواج بامرأة تصغره كثيراً “جليلة محمود”، ثم ينجب منها ولد يسمى وحيد “عبد العزيز مخيون” ويصبح وحيداً بعد ذلك طيلة العمل وهو إسقاط أخر من أسامة بأن الجيل الذى ولد مع الثورة ظل تائهاً وحيداً بين شعارات تتردد فى جنبات الحياة يومياً وبين واقع يؤكد بأن كل ما قامت الثورة ضده مازال قائماً ويزداد مع مرور الوقت، وتقف رأسمالية الأب الوطنية المرتكزة على الأصالة الإجتماعية فى إسم العائلة ومكانتها حائلاً بين زواج الإبن الأصغر شوقى “محمود الجندى” من الفتاة التى أحبها زينب “عفاف شعيب” لأنها فقيرة ووالدها جعفر “أحمد الجزايرلى – عبد المنعم ابراهيم” يعمل فى أحد محلات الحاج رضوان ولا يليق به هذا النسب، فالإبن شوقى هنا هو رمز للطبقة المتوسطة التى تبحث عن البساطة والأصالة بعيداً عن حسابات المال والجاة والثروة الزائفة لذلك فهو يصر على الزواج من زينب غير عابئ بمستواها المادى والإجتماعى طالما أحبها فهو يراها حبيبة وزوجة وأم مخلصة ولايعيبها تواضعها المادى والإجتماعى، فهو هنا النظير العملى لتطبيق سياسة الإشتراكية والتى نادت بها يوليو 52 ولم تطبقها على نفسها.
رمز الصعود
على النقيض نجد شخصية حافظ “يوسف شعبان” الإبن الأكبر رمزاً للإستغلال الطبقى والوصولية فهو يتزوج من دولت”نوال أبو الفتوح” إبنة أحد الباشوات رغبة منه فى أن يصبح أحد أفراد هذه الطبقة التى واصلت مغامراتها المالية حتى مع وجود نظام سياسى جديد بعد إنتهاء الملكية، ويستمر صعود هذه الطبقة حتى تستنسخ صورة جديدة لها فى فترة الإنفتاح الإقتصادى وهو ما تمثل فى شخصية حجازى “محمد متولى”وزوجتة “ليلى يسرى” التى قامت بالإستيلاء على أبناء أختها”فتحية طنطاوى”ليصبحوا أبنائهم لأنهم غير قادرين على الإنجاب وكذلك إستيلائهم على ممتلكات حافظ فى نهاية الأمر، فى إستمرارية درامية شديدة الذكاء من المؤلف كرمز على إستمرار المتاجرين بالبلاد والعباد المتماهين مع كافة الأنظمة حفاظاً على مصالحهم الخاصة.
ولأن الجزاء يأتى دائماً من جنس العمل كانت الحلقة الأخيرة من الجزء الثانى تحمل معها مجموعة من أمتع المشاهد الدرامية من بينها المشهد العبقرى الذى جمع حافظ”يوسف شعبان”بجعفر”عبد المنعم إبراهيم” داخل الجامع فى محاولة أخيرة من حافظ لإيجاد حل يزيح عن كاهلة هذه اللعنة التى أدت الى إنهيار عائلته فإبنه الأكبر سمير”يسرى مصطفى”يريد أن يحجر عليه من اجل المال وابنتة الكبيرة ناهد”نسرين” أصبحت محطمة بعدما خذلها حبها لإبن عمها أحمد “خالد زكى”وإبنتة الصغرى”تحية الأنصارى”هاجرت الى أمريكا وتزوجت هناك بينما الوحيد الذى هرب من لعنة المال ورفضه هو الإبن الأصغر هانى”إبراهيم يسرى” الذى ترك كل هذا الزيف وإكتفى بحياة بسيطة فى طنطا مع من أحبها وتزوجها عفاف”عبلة كامل”فى إعادة ذكية لقصة شوقى وزينب فهى نفس الظروف العائلية ولكنها هذه المرة حياة يحميها الحب والإرادة فهى غير قابلة للكسر.
وتأتى كلمات الكاتب الفلسفية عن لعنة المال والطمع وكيف أن الإنسان بأطماعه ونوازعه للشر تجعله لايرى الحقيقة الواضحة أمامه فنرى التتابع الحوارى البديع فى ذلك المشهد ليؤكد على رؤية أسامة فيما حدث وكيفية الخروج من ذلك.. (حافظ وجعفر يجلسان فى المسجد يبدو حافظ مهموماً بينما جعفر شارداً).
حافظ: قولى أعمل إيه يا عم جعفر ؟.. الطريق انقطع عليه.. العتمة نزلت مابقتش شايف رجليها ورمت من المشوار مابقتش قادر.. قلبى اتملى بالحزن مابقتش حاسس.. ورايا سكة قطعتها وجراب مليته.. واما جه الأوان لقيت الجراب فاضى .. أتاريه كان مخروم والزاد بيتسرسب منه وانا غفلان.. لما فوقت م الجوع والعطش مالقتش لقمة تشبع ولا شربة مية تروى.. اللى قدامى زى اللى ورايا.. الليل زى النهار.. الحب زى الكره.. الجوع زى الشبع.. طبقت إيدى على رمل إفتكرته تبر.. مليت جوفى بمية مالحة.. وصلت لخطوة على حرف حفرة.. معيش ولا دليل ولا نسمة هوا ولا صوت يرن فى الودن يقول هات إيدك يابن رضوان.. مفيش دلوقتى غيرك
يا عم جعفر.. انت الخير القديم.. انت الأب اللى كان
جعفر : وتسمع يا حافظ ؟
حافظ : أسمع وأطيع
جعفر: خفف حملك.. وإرمى لعنتك.. اللى فرق بينك وبين أخوك زمان.. اللى خسرك
ولادك وولاد أخوك.. اللى زلك لمراتك ووطى راسك قدام إبنك.. المال يا حافظ: المال اللى إتربى فى حضن الطمع.. بقيت حتة منه وجزء من شره.. والشر لفك وأكل عمرك.. ومالوش غير حاجة واحدة
حافظ : إلحقنى بيها
جعفر: خطوة للخير ماهياش بعيدة
حافظ: دلنى
جعفر: منه له.. منه له.. جاى رايح.. منه له
حافظ: فسر لى.. إدينى أمارة
جعفر: منه له.. منه له.. جاى رايح.. منه له
(صمت)
حافظ: فهمتك يا جعفر… منه له.. منه له
(تداخل صوتى بينهما)
جعفر: جاى رايح.. منه له
حافظ: جاى رايح.. منه له
جعفر وحافظ: منه له.. منه له.. جاى رايح.. منه له
(يقوم حافظ خارجاً)
وهكذا تعطينا دراما “الشهد والدموع” تحليلاً لمصر عبر مراحلها الحرجة سواء من التحول الملكى للجمهورى ومن نهضة محدودة فى الستينات الى هزيمة يونيو المؤلمة ومن نصر أكتوبر التاريخى الى الإنفتاح الإقتصادى كل هذه المراحل التى عبرتها مصر متأرجحة بين الماضى العريق والحاضر المؤلم والمستقبل غير المتوقع، كل ذلك قدمه أسامة أنور عكاشة مرتكزاً على تقديم صورة للعائلة المصرية المشابهة للكثير من العائلات فى الواقع، الأمر الذى أحدث إرتباط وثيق بين العمل والمتلقى كلما تمت إعادته فيزداد بريقاً وعشقاً لدراما هذه الفترة.