السينما كما رآها الروائي الفرنسي سيلين قبل نصف قرن
عن صحيفة “القدس العربي”
قبل ستّين عاماً، في 1955، صدرت رواية قصيرة للكاتب الفرنسي لوي- فيرديناند سيلين، المعروف بسيلين فقط، عنوانها «مقابلات مع البروفيسور Y». ليست هي رواية بالمعنى التقليدي، بل هي حوار طويل بين سيلين نفسه وبين أكاديمي يريد نشر رواية له، يتناول فيه سيلين علاقة المؤلّف بالنّاشر، معرّجاً على العديد مما قد يؤثّر أو يتأثّر بالكتابة الأدبيّة، بما فيها السينما، والحديث هنا، للتذكير، عن خمسينيات القرن الماضي.
كان للسينما في تلك السّنين مجموعة من أهم مخرجيها حتى اليوم، روسّيليني في إيطاليا، ورينوار في فرنسا، وهيتشكوك في أمريكا وبيرغمان في السويد وأوزو في اليابان، وكانوا، وغيرهم، أسماء جعلت من السينما في حينها فنّاً مكتملاً وصارت أفلامهم، الآن، مراجع للإشارة إلى مجموعة من أفضل الأعمال في تاريخ السينما. وليس الآن فقط، بل كانت أسماء كهذه مؤثّرة في مخرجين آخرين أتوا بعدهم وصاروا بأعمالهم مراجع كذلك، كبازوليني وفيلّيني وغودار وشابرول وتاركوفسكي وكاسافيت وعشرات آخرين.
كان ضرورياً الإشارة إلى ذلك قبل تناول رأي سيلين، وهو من أهم الروائيين الفرنسيين وأكثرهم إثارة للجدل، في السينما، كما طرحه في كتابه. لكن ليست الإشارة هذه للقول بأنّه تقصّد أسماء كالتي ذكرتُها، بل كان واضحاً في رأيه حين أشار إلى البعد التّجاري الاستهلاكي في السينما، في وقت مبكّر، ما يعني أن أياً من الأسماء أعلاه لم تكن، غالباً، في ذهنه، أثناء الكتابة، وقد فرّق بين الأفلام التّجارية وبين الفنّية منها.
يقول سيلين في كتابه مُقارباً بين الأدب والسينما، وبين تأثير الأخيرة على الرّوائيين وتميّزها عن أعمالهم: الكتّاب اليوم لا يعرفون أنّ السينما موجودة، وأنّها جعلت طريقتهم في الكتابة سخيفة وغير مجدية، مطوّلة وعبثيّة… فرواياتهم جميعها تكسب الكثير، بل تكسب كلّ شيء بتحويلها إلى فيلم من خلال أحد المخرجين، رواياتهم ليست أكثر من سيناريو، وهو تقريباً تجاري، يبحث عن مُخرج.
واليوم، الحال أكثر سوءاً مما كان عليه في زمن سيلين، إن أخذنا بعين الاعتبار طغيان الأفلام التجارية على الأفلام الفنّية عدداً وتكلفةً، وكذلك الفروق الفلكيّة بين ما يمكن أن يكسبه الرّوائي من كتابه، إن كسب شيئاً، وبين ما يمكن أن يكسبه بتحويل الكتاب إلى سيناريو ليصير فيلماً، وتجارياً تحديداً، وأخيراً بعدما صار تحويل الرّواية إلى فيلم جائزةً كُبرى لمؤلّفها. فيُكافأ الرّوائي بتحويل روايته إلى فيلم، أي أن تُكرّم الرّواية بأن تصير فيلماً. وهذا هو التطوّر الطبيعي اليوم لما قلق منه سيلين وسخر منه كذلك في نصّه.
لكنّه، سيلين، يضع اللوم على الكتّاب. يكمل قائلاً: السينما بالنسبة للكاتب هي كل ما تفتقده رواياته: الحركة، المَعالم الطبيعيّة، المشهديّة، الدّمى الصغيرة، بشَعر وبدونه، طرازان، المراهقون الجميلون، الأُسود، ألعاب السيرك الفاشلة، الجرائم… وغيرها مما عدّده سيلين، ما يمكن، إضافة إلى وصفه كتابةً، رؤيته مُصوّراً في السينما، بتفاصيل مكتملة، وهو ما يميّز الفيلم عن الرّواية، وهو ما يجعل سيلين (صاحب الرّواية الشهيرة «رحلة إلى آخر الليل») يقول بأنّ كل ذلك، وغيره، مما تُصوّره السينما، يفتقده الكتّاب في نصوصهم.
لكن، كي لا يكون الكلام تعميمياً، فسينمائياً أشار سيلين إلى التّجارية منها، وأدبياً كان حديثه، في سياق الكتاب كلّه، عن كتّاب يسعون إلى الكسب المادي، أي التّجاريّة، مشيراً مراراً إلى الكتابات المكتوبة خصّيصاً على مقاس جائزة غونكور، الجائزة الأدبيّة الأرفع في فرنسا.
وما كتبه سيلين عن امتيازات السينما عن الأدب يخصّ الكتّاب المتطلّعين إلى حالة في الأدب تُقابل حالة «التّجارية» في السينما، وهو غالباً ما صار يُسمّى بـ»البست سيلر» أي الأكثر مبيعاً، وهو المعيار المقابل تماماً لما هي عليه الأفلام التجارية، التي تُقاس بحسب صندوق التذاكر وما تدرّه من أموال، بخلاف أفلام منجزة كأعمال فنّية تلقى تقييمها في المهرجانات والصحافة الثقافية الجادة، وليس بالمردود المالي لها.
يكتب سيلين في الصفحة التالية لما ذُكر أعلاه بأنّ السينما تفتقد للعواطف وأنّها باردة وميكانيكيّة. هو منحاز دائماً للأدب، أمّا امتياز السينما عن الأدب وهو ما يخص المشهديّة، فهذه طبيعتها، هذه طبيعة الكاميرا والشاشة، أمّا ما انتقده فهو جعل بعض الكتّاب لهذه الميزة افتقاداً في رواياتهم، وبالتالي جعل امتياز السينما المذكور انتقاصاً في الأدب.
لا يمكن قراءة رأي سيلين في السينما خارج زمنه، في خمسينيّات القرن الماضي، لأنّ الستينيات والسبعينيات منه شهدا تطوّراً في سينما فنّية وتحوي من العاطفة والحسّية ما يمكن أن يحويه الأدب، لكن بأسلوبها، كما لا يمكن قراءة رأي سيلين بشكل تعميمي، وهو ما حاول تجنّبه بالإشارة أكثر من مرّة إلى الصفة التّجارية للسينما، في سياق كتاب يشير مراراً إلى الصفة التجارية في الأدب.
أمّا اليوم، بعد ستين عاماً من كلّ ذلك، فما تزال كلمات سيلين صالحة وفارقة بين الفنّي والتجاري، في كل من الأدب والسينما، ومايزال كذلك التّجاري طاغياً، أدبياً وسينمائياً.