“السلطانة غير المنسية” الفيلم الذي مر بجوار سيرة فاطمة المرنيسي

Print Friendly, PDF & Email

د .المهدي شبو

حققت السينما المغربية في السنوات الأخيرة تراكما كميا على مستوى الإنتاج بفضل الدعم الحكومي عبر آلية التسبيق على المداخيل والشراكات مع التلفزيون والمحتضنين ثم الإنتاج المشترك.

ترتب عن الطفرة الكمية توسيعا للأجناس الفيلمية المطروقة، وهكذا ولج المخرجون المغاربة كثير من الأجناس التي لم يكن للجمهور المغربي عَهدُ بها كما أفلام السيرة الذاتية Biopic التي لوحظ اهتمام متزايد بها في العشرية الأخيرة.

أنتجت السينما المغربية في هذا الجنس الفيلمي مجموعة من الأعمال متفاوتة القيمة نَخص منها بالذكر؛ فيلم ” العربي ” لإدريس المريني 2011 عن سيرة العربي بنمبارك لاعب كرة القدم الإفريقي الأشهر في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي ، و” القمر الأحمر” لحسن بنجلون 2013 عن سيرة الموسيقار عبد السلام عامر و” الشعيبية ” ليوسف بريطل 2015 عن سيرة الفنانة التشكيلية الفِطرية الشعيبية طلال ، وفيلم “نصف السماء” لعبد القادر لقطع 2015 عن جزء من سيرة الشاعر عبد اللطيف اللعبي ثم بالخصوص ” فاطمة السلطانة التي لا تنسى ” لمحمد عبد الرحمان التازي 2022 عن سيرة الكاتبة وعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي ( 1940-2015 ) والذي نخصه بهذه القراءة .

استوحى الفيلم عنوانه من مُعارضة لعنوان أحد مؤلفات المرنيسي ” سلطانات منسيات”، في لمسة وفاء أراد بها المخرج  أن يتوج فاطمة المرنيسي سلطانة غير منسية في مجالها. 

تبتدئ اللقطة الافتتاحية في الفيلم من مسيد ( كتاب قرآني) بمدينة فاس أواسط الأربعينات من القرن الماضي، حيث تظهر فتيات صغيرات يجلسن التربع يتمتمن بسورة الفاتحة تحث مراقبة امرأة صارمة بالجلباب واللثام على مقربتها عصى طويلة من شجر الزيتون. سرعان ما يقيم قارئ أعمال فاطمة المرنيسي الربط بين اللقطة وبين ما ورد في كتابها ” نساء على أجنحة الحلم ” – الذي تُرجِمَ إلى خمسة وعشرين لغة – حين تتحدث الكاتبة عن ” للا طام ” مُلَقِنة القرءان في كُتاب البنات التي كانت تمتلك  – على حد قولها – سلطة مخيفة ، كانت تلك طريقة المخرج في الارتداد إلى طفولة الكاتبة عبر تقنية الفلاش باك في مزواجة في الخط السردي بين حاضر الحكي والماضي البعيد.

مأزق السيناريو: السيرة الفكرية عِوضا عن السيرة الشخصية

يُحسب لمحمد عبد الرحمان التازي تخليه عن قبعة المؤلف – على غير عادة المخرجين المغاربة – لفائدة المخرجة المخضرمة فريدة بليزيد التي أسندت إليها مهمة صياغة السيناريو .

المخرج مع بطلة الفيلم وفرقة فولكلورية في منطقة زاكورا

حتى قبل مشاهدة الفيلم ، لاحت الصعوبة البالغة لمهمة السيناريست، فعلى ما كتبته فاطمة المرنيسي عن طفولتها داخل حريم بمدينة فاس، إلا أن حياتها الشخصية كامرأة وأنثى ظلت طي الكتمان، فلم تكتب سيرتها الذاتية، وقلما تحدثت في أحاديثها عن حياتها الخاصة، وربما لهذا السبب أجرى المخرج على لسانها  في الفيلم مقولة ” كتبي أهم من حياتي الخاصة “.

لا ندري حدود إطلاع المخرج على جوانب خفية من سيرة الكاتبة، وهو القائل بأنه صنع الفيلم من خلفية عائلية واحتكاك طويل مع الكاتبة امتد لأكثر من خمسين سنة على ما حكاه في تقديم الفيلم في عرض خاص كان كاتب هذه الكلمات ممن حضروه ، فهل أخفى جوانب مظلمة من حياتها ؟ أم حاول ببساطة تجَميل الشخصية ؟  

أمام الغموض الذي اكتنف الحياة الخاصة لفاطمة المرنيسي، اختار السيناريو أن يركب الأصعب وهو تقديم سيرة فكرية عن الكاتبة عوض الأسهل دائما في هذا الجنس الفيلمي وهو تقديم السيرة الشخصية، وينطوي هكذا نهج على محاذير كثيرة، فمن السهل تقديم فيلم عن السيرة المهنية لبطل رياضي أو مغني أو ممثل أو سياسي أو رجل دين، لكن من الصعوبة عمل نفس الشيء بالنسبة لكاتب أو مفكر، لأن العقبة في تجسيد حمولة ومضامين النتاج الفكري في نطاق عمل حكائي سينمائي .

قارب السيناريو السيرة الفكرية والأدبية للكاتبة من خلال تفاعلها مع محيطها الاجتماعي والثقافي، إلا أن المعالجة جاءت سطحية ومفككة، وقدمت فاطمة المرنيسي في نطاق لوحات متفرقة لا رابط بينها ولا خيط ناظم يجمعها في بوتقة سرد سينمائي مقنع .

من المشهد الافتتاحي في الفيلم

تجسدت المعالجة الأنفة الذكر عبر مستويين؛ علاقتها ببعض الفنانين التشكيليين كعبد العالي بلال وفريد بلكاهية والشعيبية طلال وعشقها لفن الملحون وعلاقتها بالسينما من خلال ولعها بسينما لويس بونويل وصداقتها مع بعض صناعها في المغرب ومنهم مخرج العمل الذي ظهر في الفيلم كإحدى شخصياته الرئيسة ، ثم تنظيمها لما يشبه الصالون الأدبي في بيتها استضافت فيه مرة معتقلا سياسيا سابقا جاء ليلقي أشعارا …

المستوى الثاني، ظهر من خلال نضالها كناشطة نسائية، وبدا من اهتمامها بتعديل قانون الأحوال الشخصية والعناية بأوضاع المٍرأة القروية وتعليم الفتيات في البوادي ومساعدة فنانات تشكيليات من الهامش في إقامة معارض بالمغرب والخارج ، ثم تثمين الصناعة التقليدية والحرفية خاصة صناعة السجاد التي كانت توليها اهتماما خاصا.

على أن الغائب في كل ذلك هي فاطمة المرنيسي عالمة الاجتماع والباحثة الميدانية ، وطيلة الفيلم لم نسمع منها مصطلحا في هذا التخصص أو تعليقا يحمل حمولة من الدرس السوسيولوجي، وباستثناء مقطع تحدثت فيه عن تمرد السيدة سكينة بنت الحسين على الحجاب وتعليقا على كتاب ” طوق الحمامة ” لابن حزم لم نرى أثرا للكاتبة التي صنفتها جريدة ” الغارديان” البريطانية ذات عام ضمن مائة امرأة الأكثر تأثيرا في العالم.

تقابل بين فاطمة المرنيسي والممثلة مريم الزعيمي التي قامت بدورها فيالفيلم

قد تكون الشخصية التي قدمها الفيلم ناشطة جمعوية من طينة عائشة الشنا أو آسية الوديع أو غيرهما، وقد تكون سيدة برجوازية من سيدات المجتمع المخملي العاشقات للفنون والتحف الفنية، أما المشاهدين من قراء فاطمة المرنيسي، فالأكيد أنهم لم يجدوا صدى لفكرها وكتاباتها في الشخصية.

تغييب للمعارك الفكرية لفاطمة المرنيسي  

تقول فاطمة المرنيسي في حوار داخل الفيلم : ” حصلت على الليسانس من جامعة السوربون بباريس، وقضيت مدة بلندن لتجويد لغتي الانجليزية ، قبل أن أتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث حصلت على الدكتواره “.

تجاهل الفيلم هذه الفترة الخصبة من حياة الكاتبة المفروض أن تؤثر في تشكيل شخصيتها، بالمقابل كانت كل الأعمال الروائية والسينمائية العربية تؤكد على استثمار لحظة الاغتراب بكل ما تحمله من احتكاك وانبهار وتصادم حضاري مع الآخر المختلف.

التحقت فاطمة المرنيسي بهيئة التدريس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط  حوالي العام 1974، والعهد لا يزال قريبا بواقعة الإغلاق القسري لمعهد السوسيولوجيا بالرباط ، وكان الدراسان الفلسفي والسوسيولوجي يلقيان مقاومات بالجامعة المغربية، ولم يكن للمثقفة الملتزمة أن تظل بعيدة عن هذا الصراع الذي اختزله الفيلم في زميلين محافظين كانا يتلصصان بطريقة كاريكاتيرية على محاضرات الكاتبة.

لم يكن للفيلم أن يتجاهل نكبة كتابها ” الحريم السياسي ، النساء والنبي” ، فخصه بإشارة في السيناريو، حين لم يحضر أحد لحفل توقيع مؤلفها هذا بإحدى أشهر مكتبات العاصمة لأن أصوليين متشددين كانوا يرابطون أمام باب المكتبة ، بالطبع لأي فيلم سينمائي طويل هامش من الخيال، غير أن الخيال السينمائي في أعمال السيرة الذاتية المتقاطعة مع التاريخ لا ينبغي أن يُجافي الحقيقة التاريخية سيما عندما تكون مشهورة لا غبار عليها.

 يعلم الذين عاصروا هذه المرحلة أن الكتاب صدر ووزع بشكل عادي ولم يثر حينها أية ردود فعل شعبية مناوئة، ومع ذلك تم حظره بقرار إداري وسحب من جميع نقط البيع إلى جانب كتب أخرى من أشهرها ” الخبز الحافي” لمحمد شكري و “موسم الهجرة إلى الشمال ” للطيب صالح ، ويقول المطلعون على بواطن الأمور أن وراء المنع حراس القيم من المحافظين، بدليل أن الحظر استمر خمسة عشرة سنة، ولم يرفع إلا مع العهد الجديد في تدشين لمرحلة انفتاح جديدة.

امتد السرد في الفيلم على فترة زمنية معتبرة لم تقع فيها أية إشارة إلى الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى التي بصمت تاريخ المغرب المعاصر مقاربة على الأقل من منظور الكاتبة ونظرتها الخاصة.

تصاعدات وتخافضات في الانجاز

زاوج السرد بين الأسلوب الخطي الممتد زمنيا ما بين 1974 تاريخ رجوع الكاتبة إلى المغرب و2015 تاريخ وفاتها، وأسلوب التذكر المدعوم بتقنية الفلاش باك للارتداد إلى أجواء فاس الأربعينات بكل عبقها.

ونستطيع القطع بأن الفيلم كان أكثر توفيقا في توثيقه لأجواء الأربعينات مقارنة بسعيه لتمثل مرحلة السبعينيات وما بعدها.

لقطة من الفيلم

لم يخرج التازي عن نهج المخرجين الفرنكوفونين المغاربة في بصم أفلامهم بلمسة فلكلورية لا تخطئها العين، وهو ما بدا من توثيق أسفار الكاتبة إلى منطقة درعة في أقاصي المغرب العميق وزياراتها لمواسم الأولياء. 

لم يشتغل المخرج مع السيناريست على الحوار بالإتقان المفروض في فيلم عن كاتبة بارزة لها مكانتها في الثقافة المغربية الحديثة؛ حيث حضرت النبرة الخطابية في كثير من المقاطع إلى جانب الكلشيهات الجاهزة التي ساهمت في تعميق سطحية معالجة الشق السوسيولوجي والنضالي من مسيرة الكاتبة، بالمقابل نتذكر كيف ساهمت استعانة مخرج الفيلم بالمبدع أحمد الطيب لعلج في الارتقاء بالحوار في الجزء الأول من فيلم ” البحث عن زوج امرأتي” .

هيمنت شخصية فاطمة المرنيسي على ما عداها من شخصيات العمل التي حضرت لتأثيث المشهد العام، ضاعت مثلا الصديقة التي أدت دورها نسرين الراضي ولم تؤد حتى الدور التقليدي للسنيدة في حدوده الدنيا، أقحم المخرج نفسه كشخصية رئيسية (أداها بريس بكستر) رافقت المرنيسي طيلة الفيلم دون أن يتطور دوره على امتداد تعاقب الأحداث، فقد لازمها في أغلب الوقت كظلها لا يظهر إلا وفي يديه آلة تصوير أو كاميرا فيديو لتوثيق حركاتها وسكناتها.

ولئن دافع محمد عبد الرحمان التازي على هذا الحضور برابطة عائلية واحتكاك مستمر بالكاتبة امتد على مدى أكثر من خمسين سنة، إلا أن شخصيته لم تجد لها موقعا في الأحداث وصيرورتها ، وكان الأمثل في اعتقادنا لو وظفت الشخصية من زاوية الراوي.

لم يجد المخرج صعوبة في إدارة الممثلين المحترفين أمثال مليكة العمري ورشيد الوالي ونسرين الراضي ومالك أخميس، إلا أننا لمسنا تقصيرا في تأطير الممثلين الثانويين وعابري الحضور الذين أدوا حواراتهم بنوع من التكلف والتصنع؛ كما الطلبة في أسئلتهم وسيدات الحركة النسوية في النقاش حول مدونة الأحوال الشخصية.

أدت الشخصية الرئيسية الممثلة مريم الزعيمي، وكانت خيار المخرج الأول والأخير على ما أفضى به عند تقديمه للفيلم ، وربما انتزعت الدور بحكم تشابهها مع فاطمة المرنيسي في الشكل والقوام وحتى في الحضور و الكاريزما.

والحقيقة أن المتفرج لمس اشتغالا كبيرا للممثلة على الشخصية، وأدتها بشكل جيد بإقرار من عرفوا فاطمة المرنيسي عن قرب . 

وفي ارتباط بالظهور العام لمريم الزعيمي، لابد من الإشادة بعمل ” الزبير ناش” خبير التجميل والمكياج الذي وُفٍقَ إلى حد كبير في رسم الشكل العام للكاتبة وتلون مظهرها مع مرور السنين .

على تعامل المخرج مع المونتير التونسية المقتدرة والمجربة كاهنة عطية في توضيب شريطه، إلا أن المونتاج  لم يسلم من بعض الهنات، ويبقى الحكم النهائي مؤجلا مادام أن  النسخة التي شاهدها كاتب هذه الكلمات ليست هي النسخة النهائية ، إذ أبدى محمد عبد الرحمان التازي عزمه على تقصير مدة الفيلم، فماذا يا ترى سيتبقى ؟ !

من جانب الموسيقى التصويرية، يُحسب للتازي انفتاحه على كفاءة موسيقية في شخص إدريس الملومي أحد أشهر العوادين المغاربة الذين وصل صداهم خارج حدود المغرب، وفي أول تجربة في التعاطي مع موسيقى الأفلام، لم يجد الملومي هامشا كبيرا لتفجير طاقاته بحكم الحيز الضيق المتروك للموسيقى، ويمكن القول عن انجازه العام أن تجارب الموسيقى التصويرية عبر العالم تنبئ بأن الاعتماد على الموسيقى الآلية الوترية والإيقاع ليس دائما جيدا ولا يُوصل ما يمكن أن يؤديه التوزيع الموسيقي في توجيه الأحاسيس.

مما لاشك فيه أن جنس السيرة الذاتية يبقى من أصعب الأجناس السينمائية التي يمكن أن يطرقها السينمائي، والدليل أن قلة فقط من أفلام السيرة الذاتية تُصَادف النجاح الفني وتلقى الترحاب النقدي، وقد جاء فيلم ” فاطمة السلطانة التي لا تنسى ” ليؤكد هذه القاعدة ، وليدلل أيضا على أن الحماس والنوايا الحسنة ليست كافية دوما لصنع أفلام كبيرة عن شخصيات عظيمة .

كاتب من المغرب

Visited 1 times, 1 visit(s) today