الرمز السياسي فى فيلم “الهلفوت”
بداية علينا أن نتفق أنه لا يمكن اختزال أي عمل سينمائي في مجرد ما يطرحه من رسائل سياسية أو قضايا اجتماعية مهما كانت هامة ومؤثرة وكاشفة، بل أن الشريط السينمائي يخضع لفنيات متعددة ومتداخلة لرسم صورة تحمل لغة بصرية خاصة، فتأثير السينما ليس بما تقدمه من قضايا وحقائق فقد، بل السينما والفن بشكل عام تأثيره بما يقدمة للحواس من لذات جمالية وللعقل من خيال، فالسينما هي الكذبة الجمالية التى تقودنا لكل الحقائق .
الكاتب الراحل وحيد حامد والمخرج سمير سيف كونا ثنائياً فنياً ناجحاً وقدما أعمالاً هامة مثل أفلام “الغول” و”آخر الرجال المحترمين” و”سوق المتعة” و”الراقصة والسياسي” و”ديل السمكة” و”معالى الوزيز” .. وغيرها، وقدما أيضاً مسلسلات تليفزيونية شهيرة مثل “سفر الأحلام” و”البشاير” و”أوان الورد”.
فيلم “الهلفوت” الذي عرض عام 1984 هو أحد أفلام هذا الثنائي الشهير والذي مكنهما من الاستمرار وتقديم المغاير في سوق سينمائي مزدحم بكل ألوان الفيلم السينمائي، وربما يكون النجاح التجاري الذي حققه الفيلم قد حرمه التحليل غالبا من التحليل النقدي الرصين الذى لا يتعامل مع الشريط السينمائي بنظرة فوقية ويحصره في نطاق التصنيف، ولكن قبل الحديث عن هذا العمل لابد من قراءة المناخ الذي صدر فيه هذا الفيلم.
فترة الثمانينات شهدت إنتاجاً غزيراً وصل عام 1986 إلى 96 فيلماً، وشهدت احتدام الصراع بين الجهات الإنتاجية التى اعتادت تقديم سينما سائدة تحمل أدوات نمطية وجيل متحمس من السينمائيين، حاولوا تقديم سينما مغايرة متحررة من القيود التجارية التى تفرضها جهات الإنتاج وتدافع عنها باستماته، تجلى هذا التيار فيما أطلق عليه الناقد سمير فريد (الواقعية الجديدة) فظهرت تجارب عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد والميهي وخيري بشارة.
في المقابل وفي الكفة الأخرى ولأسباب عديدة ظهرت أفلام المقاولات التى أطلت بوجهها القبيح على المشهد السينمائي وزادت معها معدلات توزيع شرائط الفيديو لدول الخليج، من هذا البون الشديد بين اتجاهات ونوعية الأفلام المقدمة فى فترة الثمانينات نجد أن إشكالية سينما الثمانينات لم تكن إبداعية بقدر ما كانت متعلقة بالاتجاهات الإنتاجية التى لم تتخلى عن منهجها الربحي كأولوية تسبق الهم الفني.
والغريب أن التباين لم يكن في المجمل الانتاجي لفترة الثمانينات فقط بل كان على مستوى المبدع نفسه وما يقدمه من أعمال تتزام مع بعضها، فالثنائي وحيد حامد وسمير سيف قدما عام 1984 فيلم “الهلفوت” بالتوازى مع فيلم “أخر الرجال المحترمين”. والفرق بين الفيلمين كبير فأخر الرجال المحترمين فيلم جاد يحمل رسائل إجتماعية عميقة ويدق أجراس الخطر في مجتمع تراجعت فيه الاخلاق والثوابت علاوة على اجتهاد فني واضح من صناع الفيلم وبطله نور الشريف.
أما “الهلفوت” فقد صنع بالمقاييس التجارية على حساب نواحي فنيه عديدة رغم احتوائه على العديد من الرموز والدلالات المذابة فى السياق الدرامي. حتى على مستوى نجوم تلك الفترة الذين لمعوا بشدة فى فترة مثل عادل إمام بطل فيلم “الهلفوت” الذي تعاون سمير سيف ووحيد حامد في فيلم “الغول”، هذا الفيلم الجرئ الذي رآه البعض دعوة واضحة لثورة دموية على فساد رأس المال القادر على شراء الذمم وتطويع العدالة لخدمة مصالحة فى ظل نظام حاكم ومؤسسات دعمت سطوة المادة مقابل العدالة التى غابت عن (قانون ساكسونيا).
يقدم هذا الفريق (المؤلف والمخرج والبطل) فيلم “الغول” 1983 وبعد عام يقدمون فيلم “الهلفوت” مع أختلاف جهة الانتاج. والحال كذلك أيضا مع نور الشريف الذى قدم فيلم “غريب فى بيتى” ثم “أخر الرجال المحترمين” مع الثنائي (حامد / سيف)
خلطة تجارية ولكن
نجح صناع فيلم “الهلفوت” في حشد كل عناصر خلطة الفيلم التجاري بداية من القصة التى تتخذ من الحرمان الجنسي (ميكانزم) تنطلق منه الأحداث التى تتطور وفق حبكة غير مقنعة مرورا بمشاهد الإيحاء الجنسي المكررة ثم النهاية الدموية المهداه لجمهور الدرجة الثالثة.
اجتهد النجم المكتسح حينهاعادل إمام فى تقديم شخصية كاركاتورية من حيث المظهر والمشية وطريقة الكلام وليقدم نفسه بشكل مختلف عن الأفلام السبعة الأخرى التى قدمها عام 1984 والتى كان أهمها “الحريف” إخراج محمد خان و”حتى لا يطير الدخان” إخراج أحمد يحيى.
لاقت شخصية “عرفه مشاوير” نجاحاً واسعاً لدى جمهور السينما بشكلها وأدائها الكرتوني وإن كان هذا الأداء يستقيم بأى حال من الأحوال مع تطور الشخصية التى رسمها السيناريو وانحرافها نحو النقيض بعد أن هبطت عليه الشجاعة والجرأة دون مبرر مقنع وكيف أصبح الهلفوت فجأة (شجيع السيما ) وفق رؤية كاتب السيناريو.
سخر سمير سيف كل قدراته كمخرج يشق طريقة وسط منافسة قوية وأجواء مزدحمة في صنع فيلم منافس تجاريا فى خضم الانتاج الذى وصل عام 1984 لـ 63 فلما . واجتهدت الممثلة الصاعدة (حينها) إلهام شاهين في تقديم أوراق اعتمادها كممثلة إغراء تروق أنوثتها لعدسات الكاميرا. ولم يقدم سعيد صالح أداء أكثر مما قدم أو سيقدمه في أفلام لاحقة.
الهلافيت والضباع
الحرافيش الهلافيت الغلابه كلها كلمات جاءت من جوف معاناة المجتمع المصري عبر التاريخ، وكلها تشير للناس البسطاء مسلوبي الإرادة ولا حول لهم ولا قوة وكلمة هلفوت في اللغة المصرية القديمة تعني الشخص الضعيف الخانع، يكمل وحيد حامد ما بدأه أدب نجيب محفوظ في وصف الصراع الأزلي بين الحرافيش ومن يسرقون قوت يومهم متجبرين بقوتهم وبطشهم في عصر الفتوات وبما أن لكل عصر فتواته وضباعه فقد أجاد وحيد حامد رسم شخصية عسران الضبع التى لعبها (صلاح قابيل) بشكل مقبول، فعسران الضبع القاتل الذي يخيف بلد بكاملها بقوته وإجرامه ما هو إلا كدبة كبير تتحطم بمجرد أن ينكسر حاجز الخوف ويسقط كورقة شجر يابسة.
كشف الهلفوت ضعف عسران الضبع وقوته المزيفة فأصبح لا يخافه بل أجهز عليه بمجرد أن خرج الخوف من قلبه، تلك الرسالة التى أراد وحيد حامد أن يمررها من خلال فليلمه. الطاغي المتجبرلا يستمد طاقة استمراره من قوة قبضته أو غلظة هراوته بل من مدى بقاء الخوف في قلوب من يستبد بهم .
يضع وحيد حامد جملا حوارية مباشرة على لسان الهلفوت مثلا حين يكتشف ضعف عسران الجسدى وهو يساعده في تغيير ملابسه يقول الهلفوت ساخراً (راجل مخوخ من جوه راعب بلد بحالها) وهنا إشارة سياسية واضحة وتعرية للقوة، بل أن مقتل عسران الضبع على يد عرفه الهلفوت دعوة متوارية للتمرد وكسر حاجز الخوف والثورة على الظلم، وإن كان السيناريو وجد تخريجه دراميه للبطل باكتشاف جهات التحقيق أن الضبع مات جراء الخوف من عجلات القطار.
عسران الضبع القاتل الظالم دائم الشعور بالرعب والخوف جراء جرائمة لدرجة أنه يفزع من قطة تقفز على سور بيته ودائما يقفل باب بيته بمتاريس ضحمة، هذا الجبان الذي يحيط نفسه بهالة من إدعاء القوة كانت نهايته على يد أضعف مخلوقات الله (الهلفوت). لم يكتفى وحيد حامد أن تكون نهاية عسران الضبع هي نهاية القصة التى أراد أن يمرر بها رسائله، بل أراد أن يطيل الحبل الدرامي للهلفوت لكي ينال من بقية العصابة وزعيمها رجل الأعمال الثري الذي دعم الشر وأغدق عليه وموله حتى تستقيم مصالحه، قتل الهلفوت الجميع في مشهد دموى تطهيري تكرر في فيلم “البرئ” 1986(النهاية المحذوفة) ومن قبله فيلم “الغول”. تلك النهايات التى لم ترضى عليها الرقابة يوما ما.
عرفة مشاوير (الهلفوت) هو أحد البسطاء المعدمين كعشرات الملايين الذين يملأون الأزقة والقرى والنجوع المحاطة بالفقر والجهل والمرض والخوف.. الجوع الجنسي الذى زرعه وحيد حامد في احتياجات بطل فلمه ما هو إلا رمزية عن حرمان البسطاء من الحياة والأمل في واقع جاف وحياة مريرة . رحل وحيد حامد تاركا إرثا فنيا كبيرا كي نستمتع و نشاهد وندقق حتى في أعماله ذات الصبغة التجارية.