الرفيق الذي ترك لنا معشوقته ورحل
في وقت الظهيرة أو بعده بقليل يدق الهاتف، أنظر لشاشته بعينين مغلقتين لأعرف المتصل وأتجاهل المكالمة حتى أصحو لاحقا، ولكن اسم المتصل يجعلني أرد فورا محاولا تقليل آثار النوم في صوتي للحد الأدنى، ليأتي صوته مشرقا “إنت لسه نايم يا أحمد؟”.. أكن معزّة خاصة لمن ينطقون اسمي بصورته الصحيحة ـ بنطق الهمزة ـ وقد كان أحدهم. هو يعلم بالطبع أنني نمت منذ ساعتين أو أقل، لكنه لم يستطع الانتظار حتى يحقق الهدف من المكالمة: التعبير عن سعادته بفوز فيلم “أرجو” بالأوسكار، والشماتة خفيفة الظل في صديقنا المخرج يوسف هشام الذي لم يعجبه الفيلم ورآه أقل من الفوز بالجوائز.
الموقف السابق يمكن تصوره في سياق منطقي إذا كنا نتحدث عن شخص في مثل سني وسن يوسف، يفترض بحكم السن والتجربة أنه لا يزال مولعا بالأفلام وجوائزها إلى هذه الدرجة، بل لا أبالغ عندما أقول أن حتى من يقتربون من الثلاثين مثلنا افتقد كثير منهم لهذا الشبق، خاصة إذا ما أصبحت مشاهدة الأفلام هي روتين عملك بدلا من أن تكون متنفسك، ناهيك بالطبع على التعامل بترفع مع الجوائز السينمائية وعلى رأسها الأوسكار، التي لا بد وأن يظهر الشخص تأففه من حساباتها التجارية والسياسة مرة واحدة على الأقل حتى يثبت أنه قد صار أكثر حكمة.
لكن الموقف ذاته سيحمل دلالات مختلفة تماما عندما يكون المتصل رجل في عمر وقيمة الدكتور رفيق الصبان، المثقف الموسوعي الذي شاهد آلاف الأفلام، وصاحب العمر المديد الذي تابع حفلات الأوسكار قبل أن نولد، وربما قبل أن يولد آباءنا أيضا. الرجل الذي يحمل من الخبرة ما يجعلنا نقبل بصدر رحب أن يتأفف من الأفلام أو يترفع عن متابعة الجوائز، أو أن يعلن مثلا في كل مناسبة أن السينما لم تعد كالماضي، وكلها أمور نبتلعها باستمرار ممن هم أقل منه في كل شيء، والذين يستخدمون هذه الحجج وغيرها لتبرير مالا يحتاج للتبرير: السأم.. الشعور بأنك قد رأيت كل شيء ممكن، وإنه لن يكون في الإمكان أفضل مما كان.
الأساتذة على النمط السابق ذكره نتفهم موقفهم، نحترم خبرتهم، نستفيد من علمهم، لكننا أبدا لا نقع في حبهم، فمن شروط الحب الديناميكية، مشاركة الشغف، والقدرة على الاختلاف بنفس طريقة الاتفاق: بانفتاح.
إنه رفيق الصبان، الرجل الذي ساهم قديما في توجيه دفة اهتمامنا للسينما، والذي كان ظهوره في برامج التلفزيون السينمائية قديما، نافذة يطل من خلالها أمثالي من أبناء الأقاليم على نوعية من السينما لم نكن قادرين على الوصول لها في مدننا. أنا ابن جيل نوادي الفيديو، الذي كانت قاعات السينما في مدينته تعرض الأفلام المصرية الأكثر إدرارا للأرباح، وربما نوّعت في برنامج العرض فجعلت الفيلم الثاني أجنبيا قديما، على شاكلة “رامبو” وأفلام جان كلود فان دام التي تلقى إعجابا من جمهور الشباك.
وعندما لجئنا لأشرطة الفيديو، كنا نترقب الموعد الشهري الذي يطرح فيه كل موزع مجموعته الجديدة من الأفلام، والتي تكون دائما على النحو التالي: فيلمان أمريكيان تجاريان كبيران سمعنا عنهما من قبل في الصحف عندما عرضا بقاعات القاهرة، وباقي المجموعة أفلام أمريكية أيضا متوسطة المستوى والإنتاج والطموح، من النوعية التي صارت لاحقا تعرض في ساعات الظهيرة في قنوات الأفلام التي ربما لو أتيحت لنا صغارا لما وجدنا هذا النور الذي يضيئ الطريق.
النور هو البرامج التلفزيونية السينمائية، وقت أن كان التلفزيون المصري يلعب فعلا دورا تثقيفيا وتنويريا. وكانت برامج مثل “أوسكار” و”نادي السينما” و”حدث بالفعل” و”بانوراما فرنسية”، نوافذ تأتي لنا بعالم لم يكن من السهل بلوغه بمعايير العصر، عالم تُصنع فيه أفلام لا يتناثر فيها الرصاص ولا يقيم نجاح أحدها بعدد الأشلاء البشرية التي يقوم البطل بتمزيقها، عالم أكثر رقيا وتهذيبا واحتراما للمشاعر، عالم يمكن وصفه بالفعل بأنه فن حقيقي يستحق أن تنبهر به ونرغب في الالتحاق بركبه.
رفيق الصبان كان أحد أبرز وجوه هذه المرحلة، وكان حضوره لمناقشة فيلم يمثل حدثا، بداية من لكنته المصر- سورية الجذابة، ومصطلحاته السلسة البعيدة عن التقعر، وصولا للأهم وهو شغفه الحقيقي بما يقوله ويقدمه. رفيق لم يكن يقوم بعمل اعتيادي تفرضه عليه مهنته، ولا كان يأتي لتسجيل برنامج وتقاضي مكافأة، بل كان يعشق ما يقوم به. الأمر يصعب الإمساك به أو رصد الأسباب التي جعلتني أمتلك هذا الشعور ـ والتي سأمتلكها لاحقا عندما أتعامل معه بشكل شخصي ـ ولكن من مقعد المشاهد الذي لم يتخط مراحل الطفولة والمراهقة، كان أمامي رجل يستمتع بمشاهدة الفيلم وتحليله والحديث عنه، وتكتمل متعته عندما ينقل معلومة أو توضيح أو خبرة جديدة للغير. وهل للأستاذية تعريف آخر غير هذا؟
ناقد شعبي
رفيق الصبان لعب أيضا ـ ربما دون أن ينتبه ـ دورا محوريا في تحويل النقد السينمائي إلى فن شعبي، ولا عجب أنه ناقد السينما الوحيد تقريبا الذي يعرفه كل البسطاء. للمرحلة التلفزيونية السابق ذكرها بالطبع فضل كبير في تلك الشعبية، ولكن علينا أن نتذكر أن رفيق لم يكن هو الضيف الوحيد لهذه البرامج، فغيره من كبار النقاد كانوا من المشاركين الدائمين أيضا، والمرحلة ذاتها اتسمت بالتعامل مع الأمر بجدية، فلا يمكن أن نصف أحد أبطالها بأنه قد بذل مجهودا أكثر أو أقل من الآخرين، ولكن السبب في رأيي كان هذه القدرة الغريبة التي امتاز بها رفيق على الاقتراب بحب من كل عمل فني يقوم بتناوله.
هذه القدرة ستشكل لاحقا نقطة خلاف بيننا وبينه، فغالبية أبناء جيلي ـ خاصة من يزعمون أنهم يملكون بعض الخبرة السينمائية ـ يميلون للتعامل بشكل عملي قاس مع الأعمال الفنية، لا سيما لو كنا في موضع تقييم كلجان المشاهدة أو كتابة النقد. لا أقول بأن هذا أمر خاطئ لأن فكرة التقييم عموما تفترض اتخاذ موقف أكثر ذهنية من الفن، ولكنه ظل طوال عمره على النقيض من كل هذا، ظل قادرا على البحث عن مواطن الجمال والإنسانية في كل عمل أيا كان مستواه، واستخدامها إن وجدت في غفران أي أخطاء يقع فيها صناع العمل، بصورة جعلت الخلاف يظهر كثيرا بيننا، لكنه ظل أيضا قادرا على التعامل مع الخلاف بنفس الصورة: بالبحث عن معناه الإيجابي، دون أي أستاذية مدعاة أو سلطة هي أقل حقوقه بحكم الخبرة والمنصب، ولكنه كان قادرا دوما على منح الجميع مساحتهم من الحرية.. من الاختلاف مع رأيه بالكامل بل ومهاجمته ـ الرأي ـ بعنف، معتبرا هذه المواقف اختلافات فنية من النوع الذي يحب أن يخوضه ويقضي وقته فيه، فلا يندم لحظة على وقت مضى في الخلاف حول فيلم.
في الموقف السابق جانب آخر لا يقل ثراء في شخصية د. رفيق، وهو قدرته الفريدة على السعادة، على الانتصار للجانب المشرق من الحياة، على الانتصار للجمال والفن والإنسانية واختيارها لتكون العناصر المكونة لحياته اليومية مهما كانت ضغوط الواقع التي تسيطر على كل من حوله. وعندما كنت أدخل إلى بيته المفتوح دائما للجميع، ووسط كل الأحداث السياسية المشتعلة التي توتر أعصابنا، فأسمع الموسيقى الكلاسيكية التي لم تتوقف لحظة في منزله، وأشاهد نقاشاته الطريفة مع زوجته ورفيقة عمره المحبة مدام ليلى، ويبدأ حديثنا فلا أجده يشغل نفسه إلا بالبحث عن الجديد من الأفلام والروايات وعروض الأوبرا والمعارض التشكيلية، كنت أجد صورة للشخص الذي أتمنى أن أكون مثله ولا أقدر: الشخص المحب للحياة والمتسامح معها، والقادر على أن يكون سعيدا برغم أنف كل شيء.
عشق التفاصيل
هذا العشق لتفاصيل الحياة هو ما جعله قادرا على المتابعة والانبهار والاستمتاع حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وميزه بذاكرة موسوعية وقدرة مخيفة على تذكر أدق تفاصيل الأفلام التي شاهدها قبل عشرات الأعوام. ولعل أكبر دهشة نلتها كانت بعد صدور كتابه الأخير “السينما كما رأيتها”، والذي يحمل تأريخا دقيقا بالأعوام والعناوين والأفلام للسينما التي تابعها طوال حياته الممتدة، عندما عرفت منه أنه قد كتب الكتاب بالكامل من الذاكرة، دون الاستعانة بأي مرجع أو مطبوعة، وبالطبع دون الاستعانة بشبكة الانترنت التي لم يشغل باله كثيرا أو يضيع وقته في الالتحاق بركبها.
لأكون صادقا ربما لا يكون للكتاب فائدة كبيرة لاحقا، فالتاريخ صار متاحا على قارعة الطريق الالكتروني لمن يريد الاغتراف منه، والوصول للمعلومات عبر الإنترنت أسهل وأسرع من التنقيب عنها داخل كتاب. ولكن الفكرة المبهرة كانت وجود من عشق تفاصيل الفن فكان قادرا على استرجاعها بعد عقود بهذا اليسر. ربما لأنه لم يشغل باله عندما شاهد الأفلام بالمستقبل، لم ينخرط في التفكير بأيها سيعيش وأيها سينسى، ولم يمنح مساحة لأي شيء سوى دخول عالم الفيلم والاستمتاع به حتى النخاع. هذا رجل عاش الأفلام ولم يراها، هذا رجل عاش الحياة ولم يراها.
واليوم وبعد تجاوز صدمة الرحيل، أعيد النظر فأجد أنه عندما يغيب عنا رجل كرفيق الصبان، فليس من المنطقي أن نرثيه ونحزن عليه، فقد عاش حياته حقا واستمتع بكل لحظة فيها وترك فيها من الآثار ما سيظل موجودا للأبد، وأن الرثاء والحزن الحقيقيين يجب أن نوجههما لأنفسنا، تارة لأننا خسرنا وجود رجلا مثله بيننا، وتارة لأننا لن نتمكن أبدا من أن نعيش الحياة كما عاشها.