فيلم “الحارة”.. السينما تسبق المجتمع!

أمير العمري

ستظل مشكلة الغالبية العظمى من مشاهدي الأفلام في مجتمعات التخلف العربية القائمة التي غرقت منذ قرون في الفكر الظلامي، أنها لا تستخدم العقل في التفكير، بل تتفاعل تفاعلا بدائيا إزاء أي نقد أو انتقاد يوجه لما تراه أو تعتنقه رغم أنها تسمح لنفسها دائما، بإهالة التراب على كل من يخالفها ويختلف معها. هذه التجمعات لا تملك سوى أن تنتفض وتتهيج وتُستثار كأنما مسها مس من الجن والهوس، كلما شاهدت عملا فنيا يتعارض مع ما هو مستقر في وعيها من أفكار رديئة تراكمت نتيجة قرون من العبودية والخضوع والجهل، لا تجد سوى سلاح العاطفة والتهييج العصبي، والتحريض، والشحن.

كلما ظهر فيلم “مختلف” عما هو سائد، تثور مجددا مشكلة مزدوجة ترتكز أساسا على فكرة متخلفة تعتقد أن الفن صورة كربونية من الواقع، أي أنك عندما تشاهد الممثل يقوم بدور قواد مثلا، فهو لابد أن يكون رجلا خارج عن الأدب، أو أنها كارثة كبرى، فكيف يكون لدينا، في “الحارة الشريفة” قواد يستخدم أيضا ألفاظا خادشة للحياء المزعوم؟

وإذا ظهرت ممثلة تقوم مثلا، بدور عاهرة، ينتفض دعاة الأخلاق، فالدعارة التي هي أقدم مهنة في التاريخ وتوجد في كل المجتمعات، لا يجب أن نعترف بوجودها في مجتمعاتنا والممثلة التي تقوم بالدور، ينظر إليها على أنها عاهرة، والفيلم نفسه فاسق ويدعو للفسق والفجور ويجب منعه. وقس على ذلك الكثير من الغوغائية في الحكم على الأفلام السينمائية. رأينا كيف أرغمت أصوات الغوغاء منتجي فيلم “أميرة” على وقف عرضه. ورأينا كيف ارتفعت أصوات الغوغاء ضد فيلم مميز بديع مثل “ريش”، ثم ضد فيلم “بنات عبد الرحمن” الأردني أيضا، ومن قبله الكثير!

كانت هناك دائما ردود فعل عنيفة ضد العمل الفني الذي يصور بجرأة ظواهر اجتماعية موجودة عمليا في المجتمع ويعرف الجميع أنها موجودة مثل الدعارة والسرقة والعنف والبلطجة والقوادة والفساد.. إلخ.

الجانب الثاني من هذه المشكلة المزدوجة، يتمثل في النظرة السطحية الأخلاقية التي تعتقد أن العمل الفني، يجب أن يكون عملا دعائيا، توجيهيا مثل خطب الجوامع، يروج للقيم “الإيجابية”، ويبتعد عن تصوير السلبيات، حتى لا يؤثر على “الروح المعنوية” للشعب، أو على استقامة المجتمع، وكأن فيلما يمكن أن يهدم المجتمع. ولكنها رؤية “فاشية”، مازالت بكل أسف تجد لها أنصارا كثيرين داخل مجتمعات التلقين والتخلف.

آخر هذه المعارك المتدنية التي تطالب بالمنع والشجب والمحاكمة بل وبسحب الجنسية أيضا، ما دار حول الفيلم الأردني البديع “الحارة” للمخرج الموهوب باسل غندور الذي تدور أحداثه في حارة أو حي شعبي في شرق عمان.

إلا أن “الحارة”، ليس فيلماً واقعياً، أو يدعي الواقعية وتصوير الواقع “التسجيلي” في حارة أردنية، لكنه أولا وأساسا، عمل “خيالي” أو متخيل، وإن كان يستند ظاهريا، على الواقع، أو يوحي بالواقع مثل الغالبية العظمى من الأفلام السينمائية حتى أكثرها جنوحا نحو المتخيل، فمن دون “محاكاة الواقع” أو الإيحاء بأن ما نراه له بالفعل يمكن أن يكون له شبيه في الواقع، تفقد الأفلام قدرتها على الوصول إلى الجمهور وإقناعه.

هناك صورة خيالية مجسدة في عمل سينمائي، فني، أفضل ما فيه أو أهم عنصر من عناصره يتمثل في تلك الشخصيات الغريبة المتخيلة التي قد تجد لها شبيها في الواقع أو لا تجد، معظمها ينبع من الخيال الخاص للفنان الذي صاغها على الورق في سيناريو سينمائي ثم أخرجها.. فهناك شخصية البلطجي العنيف “عباس” (يقوم بالدور ببراعة كبيرة منذر رياحنة)، الذي يروع سكان “الحارة”، ولا يتورع عن القتل لأقل سبب، خصوصا ما يعتبره تحديا له، أو مساسا على أي نحو، بهيبته وسط أهل الحارة.

تساعد عباس امرأة رهيبة، غريبة على صورة المرأة الأردنية والعربية عموما، صورتها قد تكون مستمدة من الأدب الخيالي الغربي وربما أيضا من أفلام “الويسترن”، فهي تضرب وتركل وتطلق النار وتهشم الرؤوس، ترتدي ملابس غريبة، وحذاء ضخما، وتربط وسطها بحزام معدني، وهذه هي “هنادي” (التي تؤدي دورها بكل تقمص وبراعة ميساء عبد الهادي كعادتها في التماهي مع الشخصية التي تقوم بها).. وهنادي لها أيضا قصة يروها لنا الفيلم، كيف أنها تعرضت لمحاولة اعتداء جنسي في الماضي، فجاء رد فعلها عنيفا لكنها تعرضت جراء ذلك أيضا لعنف مضاد أفقدها عينا من عينيها تقريبا أو تسبب في تشويه وجهها وجعله مخيفا وهو ما ساهم في جعلها شخصية مرعبة يخشاها الرجال. وهي تقود عصابة من المجرمين من أتباع عباس، ينحصر عملهم الأساسي في جمع الاتاوات التي يفرضها عباس على جميع أصحاب المصالح والحوانيت والتجارة في المنطقة، مقابل “الحماية” أو بمعنى أصح، عدم التعرض لمصالحهم.

أما القصة الأساسية في سياق الفيلم فهي في الحقيقة قصة حب، بين شاب “علي” و”لانا”. وهما يتقابلان سرا في منزل لانا عندما تكون أمها “أسيل” في الخارج. ولكن سيتضح أن هناك من يصور هذه اللقاءات سرا من مكان ما، ثم يرسل شريط فيديو للقاء الحميمي بين علي ولانا إلى أسيل، ويطالبها بدفع مبلغ كبير من المال وإلا فضح الأمر وسط أهل الحارة. وأسيل لا يمكنها أن تقبل بالمخاطرة وإلا تعرض عملها في تصفيف الشعر للنساء وتجهيز العرائس، للكساد وانصرف عنها الناس. لذلك تلجأ إلى “عباس”، تطلب منه تخليصها من هذا الابتزاز ومحو نسخ الفيديو، وتهديد “علي” حتى يبتعد عن ابنتها التي تريد تزويجها من شاب من عائلة ميسورة. يبدي عباس نوعا من الشهامة ويرفض أن يأخذ منها مالا مقابل القيام بالمهمة ولكنه يطلب منها خدمة أخرى في المقابل، تتلخص في أن تتولى تجميل مجموعة العاهرات اللاتي يعملن لحسابه. وهو يقوم بالمهمة المطلوبة بكل عنف ودموية. فليس عنده وسيلة أخرى غير العنف.

ينقسم بناء الفيلم إلى عدة أجزاء يظهر عنوان كل جزء على الشاشة، يركز على حدث معين أو شخصية معينة، وفي سياق إحدى القصص سنشاهد في تتابع سريع، حكاية ” أسيل”- والدة لانا- نفسها التي تزوجت في شبابها من حبيبها “توتو” لكنها نفرت منه بعد أن وجدته مدمنا على الخمر، فانفصلت عنه وإن ظلت تلجأ إليه بين وقت وآخر، لمساعدتها في قضاء بعض الأمور، كما سنرى عندما يتدخل “توتو” في الأحداث المثيرة التالية كثيرا. وسنشاهد أيضا كيف يتعرض “علي” للضرب المبرح على يدي عباس وعصابته ثم يعود فيضع خطة للانتقام منه بسرقة ما في خزانته من مال، ثم يقطع لسانه بسكين ويفر بدعوى أنه ذاهب الى تركيا مع لانا، وهو ما لا يتم بل سينتهي “علي” إلى مصير سيء، يؤدي إلى مزيد من التداعيات.

يتفرع الفيلم وتتشعب أحداثه كثيرا، وليس من الضروري هنا أن نكشف عن تفاصل الحبكة التي تلتوي كثيرا، وتحمل الكثير من المفاجآت المثيرة، التي تعتبر أساسية في هذا النوع من الأفلام، أي فيلم الحبكة المثيرة، و”الأكشن” والجريمة والابتزاز. ولعل المغالاة في التشعبات والالتواءات في الفيلم، قد أضرت بسياق السرد خصوصا في الجزء الأخير منه، وأصبحت مربكة بعض الشيء، خصوصا مع غياب المبررات الدرامية عن بعض التطورات والتفاصيل الصغيرة التي نتجت عنها تداعيات أخرى كثيرا. وهي مشكلة سيناريو في الأساس. ومع ذلك يمكن اغتفار بعض الترهل في الإيقاع، مع بعض الاستطرادات والمبالغات، طالما أن الفيلم نجح في أن يبقينا على نفس الدرجة من التشويق والتوتر، مع براعة كبيرة في تصوير الشخصيات وتجسيدها، ومن خلال تقنية متقدمة كثيرا.

من الواضح أن باسل غندور أراد أن يجعل فيلمه عملا ملحميا أقرب إلى رواية طويلة، متشعبة، متعددة الشخصيات والأحداث، وهو يستخدم “الراوي” الذي يأتينا صوته بين آونة وأخرى، عبر شريط الصوت، يروي ويربط بين الأحداث ويوضح خلفية بعض الشخصيات، وهذا الراوي هو في الحقيقة، آخر شخصية نتوقعها في الفيلم، لكنه الوحيد الذي يعرف ويلم بالكثير يحكم أنه كان يراقب الجميع، ويصور الجميع، ويبتز الجميع!

معظم شخصيات الفيلم شخصيات “جروتسكية”، قبيحة منفرة، غريبة الوجوه والأشكال، تسير كأنها جثث متحركة، تعيش في القبور كما في شخصية “توتو” مثلا، أو الشاب الذي سيتضح في النهاية أنه وراء شرائط الابتزاز، أو عباس نفسه الذي نجح الماكياج واختيار الملابس الملائمة تماما له، في جعله شخصية ذات سمات رمزية أيضا للديكتاتور الذي يقمع ويتسلط بالعنف، وكذلك شخصية “هنادي” التي تبدو كشبح قادم من عالم آخر بملامحها الأسطورية!

ومن الطبيعي أن يكون الحي أو “الحارة” التي تعيش فيها شخصيات الفيلم وتجري فيها أحداثه العنيفة، صورة مصغرة متخيلة، لمجتمع الفقر والتدني والظلم والقهر والعنف. وهي صورة موجودة في الواقع من دون حاجة إلى أن نقيس الفيلم حرفياً، على الواقع.  وإن أردت تلخيص الفكرة أو اختصارها في عبارة قصيرة، فربما تكون الفكرة هي كيف يؤدي قمع الحب، إلى تداعيات كثيرة عنيفة لم يكن لأحد أن يتنبأ بها، وكيف تنبت الجريمة من رحم المعاناة. ومن الطبيعي أيضا أن يستخدم البلطجي عبارات السباب الخشنة التي ربما لا تكون معتادة في مسلسلات التليفزيون التي ينزعج لها البعض فهي جزء أساسي من الشخصية نفسها.

هناك دون شك، نجاح كبير من جانب فريق الإنتاج في تهيئة المناخ العام للفيلم، أجواء الحارة، سواء في المشاهد الخارجية، أو المشاهد التي تدور في الداخل، بأجوائها الكابوسية، مع استخدام الاضاءة الشاحبة، وإضفاء بعض الظلمة والضبابية على الصورة خصوصا في المشاهد الليلية وما أكثرها في الفيلم، مع استخدام الألوان القاتمة عموما.

ويستخدم المخرج أيضا المطر لإضفاء نوع من الإثارة والغموض على بعض المشاهد، كما يميل السيناريو للانتقال بين الشخصيات بحيث يخصص لكل منها مساحة زمنية مناسبة، مثل شخصية الجد مثلا، جد الشاب علي، الذي يعتقد شأن الكثيرين من سكان الحارة، أن “علي” يعمل في شركة أجنبية وأنه أيضا أكمل تعليمه بينما سنعرف فيما بعد أنه كان يخترع هذه القصص والحكايات التي تزين صورته في عيون عائلته والآخرين، بينما هو في الحقيقة مجرد صعلوك بائس هزمته ظروف الفقر والقهر في الحارة. والفيلم يريد من خلال الكشف عن القصص الحقيقية تعرية الصورة الزائفة التي يرددها أهل القرية ويتناقلونها.

مشاهد العنف في الفيلم ليست أكثر قسوة مما نشاهده ويشاهده نفس الذين استنكروا وشجبوا واحتجوا وأدانوا، أفلاما أخرى كثيرة، أجنبية بل ومصرية أيضا، فقد تكون هناك صلة ما، غير مباشرة بالطبع، بين فيلم مثل “الحارة”، والفيلم المصري “ابراهيم الأبيض” لمروان حامد، الذي يدور في أجواء شعبية مماثلة مليئة بالعنف ويروي أيضا قصة حب، ولكن في سياق مختلف.

أما المشاهد التي اعتبرت (خارجة) وعارية وحميمية، فلم أرى فيها ما يخدش الحياء، بل هي مصاغة في سياق رقيق خجول، بعيدة كل البعد عن العري والتصاق الأجساد، وهو ما تميل إليه عادة الأفلام العربية، لكي تتفادى إثارة مشاعر البعض. وحتى عندما (يفترض) أن تكشف “لانا” في أحد المشاهد عن صدرها وجسدها فإننا لا نرى سوى كتفيها فقط عاريين، بينما لا يظهر باقي جسدها.

لكن هذا الجدل العقيم الدائر يكشف للأسف عن غياب فهم لدور السينما وطبيعة الفيلم كعمل فني تخيلي، وستظل هناك دائما تلك العوامل الكامنة، التي تسبب الكثير من الضجيج المزعج: لصناع السينما وللمشاهدين وللمجتمع ككل!

أود أن أختتم هذا المقال بالقول إنه من واقع ملاحظاتي الكثيرة عبر سنوات طويلة، لاحظت تكرار الاحتجاج على الأفلام التي تتناقض، أو لا تتفق مع ما هو مستقر في أذهان كثير من العامة عن طبيعة الفيلم ودور السينما ورسالة الفن عموما، التي يرون أنها يجب أن تتلخص في صياغة رسالة أخلاقية، أو تتضمن مجموعة من الحِكم والمواعظ الساذجة المباشرة، وهو ما يؤكد أن صانعي السينما، أكثر تقدما من الجمهور العام، ولا شك أن السبب يعود إلى غياب الثقافة، وهيمنة الدجل!

Visited 12 times, 1 visit(s) today