الجوع والموت بين “لعبة الحبار” و”بماذا تشترى النقود؟”
رياض حَمَّادي- اليمن
هل الإنسان حر في اختياراته أم أنه مدفوع للاختيار بضغط من حاجته؟ هل اختياره موجه من قبل النخبة كما كتب صحفي أمريكي: “النخبة تعطينا وهم حرية الاختيار لكنها تتحكم في كل الخيارات. إنها تُخيرنا بين خمسمائة قناة تلفزيونية لكنها جميعاً تُعيد الكلام نفسه، تُخيرنا بين مئات المرشحين السياسيين لكن اختيارنا لا يؤثر في شيء؛ لأن كلا الطرفين (الجمهوري والديمقراطي) جرى شراؤهما وتمويلهما من الأشخاص أنفسهم..”
وإلى أي مدى يمكن أن يذهب المرء في التضحية بحياته وحياة الآخرين من أجل المال؟ وما القاسم المشترك بين الأثرياء والفقراء؟
هذه أهم الأسئلة التي يطرحها المسلسل الكوري “لعبة الحبار Squid Game” 2021. التي تدور أحداثه حول الجوع والمال. فكرة سبق طرحها في تمثيلية مصرية عنوانها “بماذا تُشترى النقود؟” 1983، للسيناريست أحمد عوض، مع اختلافات طفيفة في المعالجة.
لعبة الجوع- المال مقابل الصيام
تدور أحداث التمثيلية المصرية في بنسيون يقطنه مجموعة من الفقراء، ما عدا ثري واحد هو المليونير عزيز الدويني (عبد المنعم إبراهيم). يؤسس السيناريو لفكرة اللعبة بتقديم نبذة عن المستوى الاقتصادي لكل شخصية، والأسباب التي دفعت بكل شخص إلى اللجوء للعيش في البنسيون: فهناك من طُرد من البيت نتيجة خلافات عائلية، كما في حالة الزوجين سامح وناني، وهناك من تهدم بيته، كما في حالة الزوجين سلامة وكريمة؛ ولاستبعاد أن تكون هذه حالة فردية يشير الحوار إلى كثرة سقوط المباني. وهناك من يسكن البنسيون مؤقتًا في انتظار الحصول على المال للعلاج، كما في حالة الطفل حسن ووالده، وهناك المدير الجشع هلال (وحيد سيف). وكلهم تقريبًا من طبقة فقيرة ما عدا عزيز الدويني الذي ينزل في البنسيون لهدف آخر سيوضحه في حواره مع الساعي نجاح.
البنسيون هنا صورة مصغرة عن المجتمع المصري في ثمانينيات القرن العشرين، بطبقتيه الفقيرة والثرية وغياب الطبقة الوسطى، حيث يتحكم الواحد في المئة ببقية المجتمع. يتفقد عزيز حالة الجميع وحاجتهم إلى المال ويعدهم بأنه سيحقق لهم كل أحلامهم: سيشتري شقة للزوجين وسيرمم البنسيون لمالكته، وسيعالج مرض أبو حسن، وحده هلال يحب المال للمال نفسه، أما نجاح فقانع بوضعه.
يقترح عليهم عزيز لعبة الصيام، بالامتناع عن الأكل والشرب لمدة ستة أيام، المال مقابل الصيام، بحسب قدرة كل فرد على الصيام: صيام ستة أيام بعشرة آلاف جنيه، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام، صيام خمسة أيام بستة آلاف جنيه، 4 أيام بـ 4 آلاف جنيه، 3 أيام بألفي جنيه، يومين بألف جنيه، يوم واحد لا يأخذ شيئًا. وشربة الماء بخمسمئة جنيه وقطعة اللحم بألف جنيه، على أن يُخصم المبلغ من رصيدهم الآجل.
بعد تفكير يوافق الجميع على الاشتراك في اللعبة، باختيارهم وإرادتهم الحرة كما هو ظاهر، وحده نجاح يرفض الاشتراك في اللعبة ويغادر البنسيون بعد أن نزع حنفيات الماء وأغلق البنسيون ووضع على بابه لافتة “كامل العدد”.
من خلال شخصية نجاح ندرك أن المشكلة ليست في الفقر وإنما في القناعة. لكن القناعة سلاح ذو حدين: تبقيك على وضعك، ولأنها نقيض للطموح تمنعك من تحقيق ما تصبوا إليه. وكان بإمكان المليونير أن يحقق أحلام الجميع دون أن يحط من كرامة المحتاجين، لكنه لا يرى فيما يفعله إهانة أو إذلالًا، بل فرصة وعمل شريف وامتحان لقدرتهم على التحمل. في الحوار التالي تكمن رسالة التمثيلية:
نجاح: “متديهم فلوس من غير متجوعهم.”
عزيز: “أنا جُعت كتير.. مش هيحسوا بقيمة الفلوس اللي حيخدوها.. لازم يتعبوا.. أنا مبدهمش إحسان ولا بزكي عليهم.. تقدر تعتبرهم بيشتغلوا”.
نجاح: “بيشتغلوا جعانين!”
عزيز: “الجوع حافز للنجاح، بيشتروا الفلوس بالجوع. الفلوس اللي هيخدوها دي تَأكَد إنهم هيصرفوها بمنتهى الحرص، وهيفكروا مية مرة قبل ما تتصرِف.. الفلوس دي هتغير من طريقة تفكيرهم وآرائهم ومعتقداتهم.. إنما لو خدوها بسهولة هيصرفوها بسهولة.”
استثمار أم استغلال؟
لم ينزل عزيز من برجه العاجي ليشمت في الناس أو ليتلاعب بهم، أو للتسلية والتخلص من الملل- كما هو الوضع في المسلسل الكوري- وإنما ليستثير قدراتهم الكامنة التي لا يدركونها وتحتاج إلى حافز خارجي. نزول المليونير عزيز الدويني في البنسيون هو تذكير للفقراء بقيمة ما لديهم وبإمكانية أن يصبحوا أثرياء مثله إن توفر لديهم الطموح؛ فهو نفسه فقير سابق وعانى الكثير فيما مضى. عزيز ليس قاسيًا بدليل عطفه على الطفل طوال اللعبة.
تنتهي اللعبة بفوز أغلب من اشترك فيها ما عدا صاحبة البنسيون التي ذهب صومها سدى؛ لأنها سرقت الطعام فعاقبها عزيز بأن حرمها مما تبقى لها من مال ربحته، وخسر هلال مع أنه صام ستة أيام، خسر بالموت في آخر لحظة دون أن يتمكن من لمس الطعام بين يدي نجاح والمال بين يدي عزيز، في دلالة إلى الحال الذي يقود إليه الطمع والجشع. في مشهد سابق تتسلل صاحبة البنسيون مدام زهرية إلى الطاولة التي عليها المال والطعام لكنها لا تفكر سوى في إشباع جوعها، في دلالة على أهمية الطعام وإلى أن شراء المال بالجوع له حد لا يستطيع الإنسان تخطيه.
بينما لرأس المال في المسلسل الكوري دور مختلف قائم على الاستغلال. يتفقد المليارديرات حاجة الناس ويعرفون عنهم كل صغيرة وكبيرة. لعبة لها طرفين: الفقراء بحاجة للمال لسداد ديونهم والأثرياء بحاجة إلى التخلص من الملل. الملل هو القاسم المشترك في حياة الجميع: فقراء وأثرياء، فما أن يحقق المرء شيئًا يمله بعد حين فيصبوا إلى غيره مدفوعًا بالفضول والطموح والحاجة، أما في حالة الأثرياء- الذين ابتكروا “لعبة الحبار”- فالملل وحده دافعهم الوحيد لابتكار لعبة الموت. ومشاهدة الأثرياء لمجريات اللعبة وللدماء التي تسيل وهم يحتسون الشراب لا تكفي لتحقيق المتعة، كما في حالة مبتكر اللعبة الثري “أوه إلنام” الذي نكتشف أنه ليس فقيرًا كحال بقية اللاعبين. وفي هذه الخدعة تكمن دلالة تساوي الفقراء والأثرياء في الشكل والمصير وفي القاسم المشترك الذي عبر عنه لبطل القصة وهو في لحظاته الأخيرة قبل الموت نتيجة ورم في الدماغ.
المنافسة في التمثيلية المصرية شريفة وبعيدة عن العنف، أما في المسلسل الكوري فالمال يُشترى بالموت والخداع. الخسارة في اللعبة تعني الموت والفوز فيها تعني النجاة وتحقيق حلم الثراء، اللعبة المصرية تدعوا للحياة والكورية تدعوا للموت، في اللعبة المصرية يمكن للجميع أن يفوزوا أما في اللعبة الكورية فالفوز من نصيب لاعب واحد فقط، بما يعني أن الحياة لا تتسع سوى لمقعد واحد هو الفائز، لكن ثمة رهان أخير يخسر فيه الثري ويربح فيه بطل القصة وفي فوزه هذا أمل لانتصار الخير.
تقوم “لعبة الحبار” على الحرية والإرادة الحرة، يندفع الجميع للاشتراك في اللعبة وحين يدركون عواقبها المميتة ينسحب أغلبهم بتصويت ديمقراطي، وحين يعودون إلى وضعهم السابق يكتشفون أن واقعهم الجحيمي لا يقل سوءًا عن المقامرة بحياتهم، لا فرصة يوفرها الواقع لتحقيق أحلامهم بينما توفر لهم اللعبة فرصة للفوز بالمال ولذلك يعود أغلب من انسحبوا، وفي عدم عودة البعض رسالة إلى أن القرار بيدك. في التمثيلية المصرية تقول كريمة (رجاء الجداوي) لتحفيز زوجها على الاشتراك في اللعبة: “احنا طول عمرنا صايمين ببلاش.”- فلماذا لا نصوم مقابل المال!
ثمة إغراء وإغواء كامن في المليارات التي سيجنيها الفائز في “لعبة الحبار” لكن الخيار في النهاية متروك للناس، والخاتمة التي يؤول إليها بطل القصة- الفائز في اللعبة- تعزز هذه الرسالة؛ فبعد أن يودَع مبلغ الجائزة في حسابه يعود لحياته السابقة المعدمة ويقرر ألا يصرف شيئًا وفي الأخير يتخلى عن المال.
لعبة الحياة والموت
يخلص مسلسل “لعبة الحبار” إلى أن الملل هو القاسم المشترك بين الأثرياء والفقراء، وبأن الدافع من وراء هذه اللعبة هو التخلص من هذا الملل، بما في ذلك الفقير الذي ما إن فاز في لعبة الموت وحصل على المليارات يعود لحياته السابقة وقد أدرك أن قيمة الحياة ليست في المال، وأن ما يحتاجه هو تنظيم حياته والتخلي عن الشراب والقمار وهذا درس تعلمه بعد مشاركته في لعبة الموت.
المسلسل إذن يحذر من عواقب هذه اللعبة بلغة غير مباشرة حينا وبشكل مباشر حين يمنع البطل شخصًا من الاشتراك فيها. كان من الممكن أن تنتهي القصة بصعود البطل إلى الطائرة لزيارة ابنته لكنه يتراجع عن قراره متوعدًا القائمين على اللعبة بالانتقام. هذه النهاية المفتوحة تفتح الباب لموسم ثانٍ من المسلسل وأتوقع أن تدور أحداثه عن كيفية الانتقام بعد أن استنفدت اللعبة فكرتها.
التشويق في “لعبة الحبار” قائم على معرفة مصير البطل، كحال كل أفلام النجاة، لكن المسلسل استنفد فكرته مع نهاية الحلقة الثانية وأصبح كل شيء متوقعًا إلى درجة يمكن القفز لمشاهدة الحلقة التاسعة والأخيرة من الموسم الأول، وهذا يعني أن فكرة المسلسل تصلح لفيلم لا تتجاوز مدته ساعتان، وهذه نقطة لصالح التمثيلية المصرية “بماذا تُشترى النقود” (مدتها ساعة و18 دقيقة، بينما مدة كل حلقة من لعبة الحبار ساعة تقريبًا.)
فكرة الجوع والنجاة والبقاء للأقوى عبر المنافسة قُدمت كذلك في أعمال سابقة منها فيلم “ألعاب الجوع The Hunger Games” الذي عرض جزؤه الأول عام 2012، وتدور أحداثه حول مسابقة تلفزيونية لمراهقين يتم اختيارهم عشوائيًا من اثني عشر مقاطعة من مقاطعات “بانيم” المتخيلة، وذلك للقتال حتى الموت لينجو في الأخير متسابق واحد. وكذلك في الفيلم الإسباني “المنصة The Platform” الذي عرض في 2019، وتدور أحداثه في سجن مؤلف من مبنى عمودي بزنزانة واحدة في كل طابق، وشخصان في كل زنزانة، ومنصة طعام واحدة تهبط من أعلى زنزانة، ودقيقتان فقط في اليوم للتغذية ما يجعل الجميع يسرع في الأكل ويهدر ما سيئول لغيره.
تجسيد رمزي للواقع
من غير الممكن الجزم بأن المسلسل الكوري هو نسخة مقلدة عن التمثيلية المصرية، لكن ثمة تشابهات تدعو للدهشة منها العدد (6)؛ ستة أيام صوم في التمثيلية المصرية وستة ألعاب في المسلسل الكوري!
تبدو مثل هذه القصص غير واقعية، وهي فعلًا كذلك إذا ما نظرنا إلى القصة حرفيًا، لكنها قائمة على واقع أو هي تجسيد رمزي للواقع. فخارطة الجوع تتسع كل عام، وما يحدث أثناء المجاعات يفوق ما تصوره القصص الدرامية من بشاعة. الفائض من القمح في أمريكا يرمى في البحر، والطعام المهدر عالمياً يكفي كل جياع العالم، وأميركا وأوروبا “تنتجان ثلاثة أضعاف حاجتهما من الطعام إلا أن ثلثه يهدر خلال عمليات التحضير بين المزرعة والطبق، والثلث الباقي يحول لإطعام المواشي المنتجة للحوم.. ويقدر أن ما بين 20% إلى40% من الفواكه في أوروبا وأميركا تُرفض حتى قبل دخولها المتاجر؛ كونها لا تتطابق من حيث الحجم واللون والمظهر مع شروطها الخاصة بإغراء الزبائن.”!
هذا الوضع يوظف فنيًا بإغراء الحالمين بالثراء. و”حلم الثراء الجميل” هي ثيمة رئيسية في أعمال السيناريست المصري أحمد عوض عالجها في العديد من أعماله، منها مسلسل يحمل العنوان نفسه “حلم الثراء الجميل” 1994، في قصة هذا المسلسل ينتظر الورثة وفاة الثري عزمي ليحصلوا على نصيبهم في الميراث، يجتمع عزمي بهم ويخبرهم بأنه سوف يقسم أمواله عليهم إن وجدوا له ابنته، وبعد وفاته يفتحون الخزنة ويجدونها فارغة.
كان أحمد عوض قد عالج هذه الفكرة في مسلسل “الورثة المحترمون” 1980، التي تدور أحداثه حول أفراد عائلة واحدة، يموت الثري فيها تاركًا لهم إرثا غامضا يتنازعون عليه ويكتشفون أسرارا خطيرة، وبسبب الأطماع المادية والمصالح الشخصية تشتعل الصراعات بين الإخوة والأصدقاء.
وفي مسلسله “رحلة المليون” 1984، ينزح سُنبل (محمد صبحي) إلى القاهرة بحثا عن عمل، وهناك يعيش رفقة خاله البستاني الذي يعمل في فيلا لطيف بيه (جميل راتب)، الذي يستغل سذاجة سنبل وطيبته ويستولي على كليته، ويبدأ حلم الثراء ورحلة البحث عن المليون.
وما يدعو للدهشة- عند المقارنة بالنهاية الموعودة للمسلسل الكوري- أن الانتقام هو المحور الذي تدور حوله قصة الجزء الثاني “سنبل بعد المليون” 1987، فبعد أن يتمكن سنبل من جمع مليون جنيه في الجزء الأول يبدأ في استثمار أمواله والانتقام من لطيف!
نوافذ:
تبدو القصص التلفزيونية غير واقعية، لكنها قائمة على واقع أو هي تجسيد رمزي للواقع؛ فخارطة الجوع تتسع كل عام، وما يحدث أثناء المجاعات يفوق ما تصوره القصص الدرامية من بشاعة.
المنافسة في التمثيلية المصرية شريفة وبعيدة عن العنف، أما في المسلسل الكوري فالمال يُشترى بالموت والخداع.
اللعبة المصرية تدعوا للحياة والكورية تدعوا للموت، في اللعبة المصرية يمكن للجميع أن يفوزوا أما في اللعبة الكورية فالفوز من نصيب لاعب واحد فقط، بما يعني أن الحياة لا تتسع سوى لمقعد واحد هو الفائز.
ثمة إغراء وإغواء كامن في المليارات التي سيجنيها الفائز في “لعبة الحبار” لكن الخيار في النهاية متروك للناس، والخاتمة التي يؤول إليها الفائز تعزز هذه الرسالة.