التقدم إلى العمق: قيس الزبيدي يكتب عن عطيات الأبنودي
ظهر الفيلم التسجيلي/ الوثائقي بمصر في العشرينات، وانصرف منذ بداية إنتاجه ـ إلى الأفلام السياحية والآثارية والدعائية التي استمرت أنواعها، حتى عند أهم روادها الكبار أمثال سعد نديم، وصلاح التهامي، وعبد القادر التلمساني، ومن بين مئات الأفلام التسجيلية، حتى فترة السبعينات، قلّما نجد فيلماً تسجيلياً يتناول القضايا المُلحة التي يعانيها الناس في المجتمع المصري.
تميزت السينمائية التسجيلية عطيات الأبنودي بمنهجها التسجيلي، كأداة تعبير فني وفكري في تحليل واقع المجتمع المصري، منذ فيلمها الأول “حصاد الطين” عام1971 وتابعت مشوارها الطويل في صنع أفلامها التسجيلية الواقعية المهمة، مثل فيلم “أغنية توحة العظيمة” عام 1972 “التقدم إلى العمق” عام 1979 “بحار العطش” عام 1980 “الأحلام الممكنة” عام 1983 “إيقاع الحياة” عام 1990 “أيام الديمقراطية” عام 1999 “صنع في مصر” عام 2006 وغيرها. واستمرت في تكريس تقاليد الفيلم التسجيلي الواقعية، انطلاقاً من وعيها الاجتماعي وملاصقتها الشديدة للواقع المصري.
كانت عطيات تعلن ـ بصوت واضحـ كيف أن نقاد السينما المصريين لا يتحدثون إلا عن السينما الروائية فقط، كأن ليس هناك في الدنيا كلها سينما تسجيلية! وبينت في شهادة لها منذ عام 2001 كيف تعرضت لتشويه سمعتها والتشكيك في انتمائها للوطن، منذ إخراج فيلمها الأول الذي جرت محاولة لمنعه، لأنه يصور واقع وبؤس العمال في ورشة لصناعة الطوب، وكيف أن الرقابة اعترضت على مشهد في فيلمها الثاني “الساندويتش”، لأنه يُظهر «المكان فقيراً ويظهر حتى الكلاب هزيلة!
وقيل عنها إنها تمرغ كاميرا أفلامها بالطين، لكي تحصل على جوائز دولية. وحينما أخرجت فيلمها الثالث “الأحلام الممكنة”، نُشرت مقالة بعنوان عريض: “مخرجة مصرية تسيء إلى سمعة الوطن”، وقد طالب وزير الداخلية بسحب جواز سفرها، لأنها لا تستحق أن تكون مصرية. وبعد منازعات طويلة طالب رئيس الرقابة بحذف كلمة “بوش”، من مقابلة الفلاحة المصرية، التي تحكي في الفيلم عن حياتها وعن هموم الوطن والعدوان الإسرائيلي، إذ تقول: “نروح نشتكي لمين، نروح للريس (بوش) ولا لمين؟”، واضطرت المخرجة إلى أن تحذف بالموسى تسعة “كادرات” من صوت الفلاحة، ليختفي “بوش” من على لسانها. كما تعرض فيلمها “اللي باع واللي اشترى” أيضا للمضايقات، وهو الفيلم الوحيد الذي أنتجه لها المركز القومي للسينما عام 1992 أي بعد تخرجها في معهد السينما بـ20 سنة! والفيلم يحكي عن كارثة الأرض الزراعية، التي استصلح الفلاحون المصريون مساحة أراضيها، التي امتدت على 60 كم من الإسماعيلية إلى السويس، والتي حولتها البرجوازية المصرية، بعدئذ، إلى فيلات فاخرة لقضاء أوقات الراحة والاستجمام ومكان لعقد الصفقات.
في آخر المطاف، اعترض الأمن على وجود عطيات بالمعهد العالي للسينما، مديرة لشؤون الطلبة، فاضطرت إلى تقديم استقالتها التي وافقت الإدارة علي قبولها فوراً، رغم أن المعهد كان بأمس الحاجة إلى خبرتها الطويلة.
ليس بوسع النقاد، اليوم، سوى أن يجزموا بأن عطيات رائدة حقيقية للفيلم التسجيلي العربي، وأن يتوجوها أميرة لمملكته الواقعية، الأميرة الأكثر شهرةً وتأثيراً في مصر والعالم الثالث، ماذا تقول الأميرة عن أبناء أولئك العابرين بُناة الأهرام، الذين وصفت أحلامهم المُمكِنة بالكاميرا: “عملوها ولاد الإيه! انتفضوا في 25 يناير.. هم من نزلوا إلى الشارع، وعمّدوا بدمائهم انتفاضة الشعب”.