“الأيرلنديّ”.. لمْ يعدْ من داعٍ للصمت
شبح رجلٍ مرموق اجتماعيًّا، وقاتلٍ مأجور خطير في الخفاء يقبع على كرسيّ متحرِّك في إحدى مصحات الرعاية بالمُسنين. يقبع ليطالع حياته التي طالتْ لتشهد حقبًا وأحداثًا كثيرة قد لا تحتويها ذاكرته. يحسُّ بغربة ووحشة قاتلة حوَّلتْ هذا المجرم الخطير إلى رجل مُتهالك على كرسيِّه أقصى أمانيه أنْ يجد مَن يعطف عليه. وبعد حياة إجراميَّة أراد فيها التخفي والعيش في الظلام ها هو الآن يتمنَّى من الخارجين من غرفته أن يتركوا بصيص نور يتسرَّب من باب غرفته كي لا يشعر بالوحشة!
هذا هو “الأيرلنديّ” الذي عاش حياة الجريمة صامتًا كالحجر لا يفكر في أن ينبس بكلمة، وهذا هو “الأيرلنديّ” الذي رأى ألَّا نفعَ من الصمت فبدأ يروي لنا كل شيءٍ وبالتفصيل.
“الأيرلندي” The Irishmanهو فيلم المخرج الكبير “مارتن سكوريسزي” لعام 2019. الذي حاول حشد الكثير من الدعم له فترة من الزمن إلى أن جمع مائة وستين مليون دولار ليخرج بها الفيلم على ما يرضى. ولمْ يجد مَن يدفع كل التكاليف إلا شركة “Netflix“.
وإذا سألتَ لِمَ هذا الإنتاج الكبير -نسبيًّا- فستجد الإجابة عندما تشاهد فيلمًا مكونًا من ثلاث ساعات ونصف الساعة. حقق فيها “سكورسيزي” حلمًا له، واستعاد ذاكرة فيلمَيْه القديمين “الأصدقاء الطيببون”، “كازينو” (مَلهَى). وهذا ما قد يدعو البعض -ممن شاهدوا الفيلمين- أن يرى في “الأيرلنديّ” تكرارًا لهما. لكن التدقيق في المشاهدة يطلعنا على تغيرات وتطويرات كثيرة صنعها المخرج.
الفيلم من بطولة الممثلين الكبار: “روبرت دي نيرو”، “آل باتشينو”، “جو بيشي”، وغيرهم الكثير. وهو مأخوذ عن كتاب باسم “سمعتُ أنَّكَ تدهن البيوت” للكاتب تشارلز براندت، وكتبه للتمثيل “ستيفن زاليان”. وقد صنعت له شركة الإنتاج ترويجًا ضخمًا قبل الانتهاء منه، وكثَّفتْ الترويج بحملات إعلاميَّة قادها مخرج الفيلم وممثليه. صنعت ضجَّة ضخمة في كل العالم. ويبدو أن شركة الإنتاج تضغط على الوسط الفنيّ ضغطًا تمهيديًّا كي لا تترك لمنصات الجوائز -خاصةً الأوسكار- سبيلاً يسلكونه.
الفيلم من تصنيف تاريخ، جريمة، إثارة. يحكي قصصًا حقيقيًّة عن “فرانك شيران” (روبرت دي نيرو) السائق الذي يعول أسرة، ويرغب في تحسين أحواله الماديَّة. ورحلة هذا السائق البسيط ليكون أحد القيادات العماليَّة النقابيَّة، وأحد أذرع المافيا المساهمة في قتل الكثير من الرجال؛ كان أبرزهم “جيمي هوفا” (آل باتشينو) رئيس نقابة عمَّال سائقي الشاحنات، التي كانت في وقت من الأوقات أكبر كيانات “الولايات المتحدة الأمريكيَّة”. فعل “شيران” كل هذا بتوجيه من رجل عصابات المافيا “راسل بافلو” (جو بيشي) ذي الأصل الإيطاليّ. عن هذا الثلاثيّ تدور أحداث الفيلم.
نستطيع أن نقسم الفيلم بسهولة إلى ثلاثة فصول فيلميَّة، أو قلْ ثلاثة أفلام تتفاوت طولاً وقصرًا:
الفصل الأول: نتعرَّف على “الأيرلنديّ” السائق البائس الطموح. وهو شخصيَّة معقدة عميقة؛ شخصيَّة عاطفيَّة لكنَّ إرادته والتزامه بأرض الواقع يهزم عاطفيَّته، قد يتفاعل معك لكنَّه لن يمانع في قتلك. قد يخدم أرباب عمله بجد واجتهاد، لكن لا يتورع عن سرقتهم لتحسين دخله. قد يعشق ابنته عشقًا لكنه لا يفعل شيئًا حيال شعورها بأخطاء أبيها، وتمزُّق علاقتهما على مدار الأعوام ولو بالقليل من العطف والاجتذاب. هذا هو “الأيرلنديّ” الذي قابل مصادفةً على طريق سفره رجلاً أصلح له عطلاً أصاب الشاحنة. ولمْ يكنْ يعرف أنَّها المصادفة التي تغيَّر كل شيء حتى إنك لا تعرف نفسك من بعدها. كان هذا الرجل هو “بافلو” رجل العصابات والمافيا الذي سيقابله مصادفةً مرةً أخرى. وشيئًا فشيئًا سيرى نزعة الطموح لدى “الأيرلنديّ” فيدخله في أعمال المافيا معاونًا. وقد قُدمت شخصيَّة “بافلو” في بعض التشابه مع ملامح “العرَّاب الأب” من الفيلم الأشهر “الأب الروحي”. وبرز في هذا الفصل “روبرت دي نيرو”، و”جو بيشي”. ونراهما باستخدام تقنيات (CGI) بنسخ مصغَّرة شكلاً.
الفصل الثاني -أو الفيلم الثاني-: وفيه نسمع صوتًا يسأل “الأيرلنديّ”: سمعتُ أنَّك تدهن البيوت (يقصد أنّه يرش حوائطها بدماء الضحايا). كان هذا صوت نجم الفيلم الأشد تألقًا “آل باتشينو” في دور الرجل الشهير “جيمي هوفا” رئيس النقابة. وهو شخصيَّة قويَّة لبقة متحدثة حماسيَّة قادرة على اجتذاب الإعجاب، مرح إلى أقصى الحدود حتى في أكثر اللحظات جديَّةً، يقرر القرار بمنتهى الحسم ثم يعود فيه بعد قليل. يطلب “هوفا” من “الأيرلنديّ” أن يكون مساعده عامةً، وفي عمليات التخلص من المُناوئين له. وتبدأ حقبة من التعاون الذي يكلل بصداقة، وبصفة رسميَّة في النقابة لـ”الأيرلنديّ”. ونطالع الكثير من الأحداث السياسيَّة الحقيقيَّة ودور “هوفا” وغيره في تغيير مسار الدولة كلها، وندخل دهاليز السياسة لنفهم ما أراد صانعو الفيلم أن يقولوه من عملهم. وتمضي الأحداث إلى أن يُؤمَرَ “الأيرلنديّ” بقتل صديقه “هوفا”. ويقع في مأزق نفسيّ وأخلاقيّ كبير. فهل سيُقدم على هذا أم لا؟
الفصل الثالث: وفيه نرى الأيام الأخيرة لـ”الأيرلنديّ”، وما حدث فيها. ونتيجة كل أعماله على صعدَيْ عمله مع المافيا، وأسرته. وفيه عاد “دي نيرو” للعزف منفردًا.
لا شكّ أن أفضل فصول الفيلم هو الثاني لاجتماع كل الممثلين في أشكالهم وهيئتهم الحقيقيَّة- كما في الواقع الآن دون تقنيات-، ولتلك الحيويَّة الهائلة التي ضخَّها “آل باتشينو” في دماء الفيلم. وبالقطع لأنَّه الفصل الذي بدأت الأحداث فيه تسير سيرًا سريعًا خلاف الفصليْن الأول والثالث.
يركِّز الفيلم على معنيين أساسيين:
الأول هو المعنى العام السياسيّ الذي يريك -في رحلة طويلة- دهاليز السياسة والسياسيين والمسئولين عن حياة المواطنين، وآمال الناس البسطاء. هذه الرحلة التي يخوضها معك أبطال الفيلم لا تجعلك مطمئنًا أبدًا لأيّ مسئول حكوميّ؛ مهما أظهر من حَدَبٍ على المواطنين، ورفق بهم، وشفقة على محتاجيهم، ومهما أظهر من ملامح الملائكيَّة. فأنت لا تعرف من المشهد إلا ما يجعلك تصدقه. لكنْ إنْ علمت خبايا الأمور ستجد كم نحن مغفَّلون لصالح الآخرين، وستعرف كمْ تدفع الشعوب ضريبةً لحفنة من البشر يديرون الدول لا يعملون إلا لصالحهم. والأعجب أن هذا يتم وهو يقنعونك أنهم ما قاموا من أسرَّتهم إلا لصالحك وحدك. والفيلم يريك تصفيق الجماهير الحادّ للمسئولين الذي لا يحصلون منه إلا التهاب أكفِّهم.
المعنى الثاني هو معنى إنسانيّ بامتياز له الكثير من الأبعاد والعلاقات الدراميَّة بين الأب وابنته، الصديق وصديقه، الإنسان وأطماعه. لكنَّ أهمَّ ما فيه هو الإنسان في طور الهِرَم والشيخوخة؛ حينما يعلم بأنَّه لمْ يعدْ من داعٍ لشيء، وأنَّه ما كان من داعٍ لشيء، وأنّ كل ما حرَّكه في شبابه ليفعل ويفعل ويفعل في الحقيقة لا قيمة له. وأنَّ ضحكة صافية من قلب ابنتك تساوي كل دولارات العالم. كل هذا نراه في مشاهد الشيخوخة مع شخصية “الأيرلنديّ” وغيره من الشخصيات.
والعمل الأشد تميُّزًا في الفليم هو للمخرج “سكورسيزي” لا لشيء إلا لأن الفيلم كل ما فيه ببصمة منه. كما أنه يمتاز بالتشابه العامّ مع فيلميه -السابق ذكرهما- في تناول العصابات وعالمها، ودوران الفيلم حول ثلاثة من الشخصيات كل منهم يأخذ زمام الفيلم فترة أو فصلاً؛ وكأنها آلة مركبَّة من تروس بعضها فوق بعض، غير التشابه في الإخراج بطبيعة الحال، والتعدد في مستويات السرد، وفكرة وجود الراوي، وأخيرًا التشابه في النهاية المُؤكِّدة على أن زمن عصابات المافيا انتهى (وهذا قيل نصًّا في الفيلمين، وفي هذا الفيلم أيضًا). وغيرها من التشابهات.
وأرى أن هذا الفيلم أشدُّ تميزًا في:
1- مستويات السرد وتعددها مع غير اضطراب. وبالعموم من الممكن أن يرى المشاهد ترحال الفيلم ما بين أواخر الخمسينيات، والسبعينيات، والتسعينيات، وعام 2003م -وهو عام موت “الأيرلنديّ”.
2- الأداء التمثيليّ المتميِّز من الجميع؛ خاصةً نجوم العمل الثلاث. عندما استطاعوا تقديم أداء جيد ومقتدر في مراحل عديدة من أعمار الشخصيات، وأحوالهم بين الصحة والمرض.
3- المكياج ودوره الرائع الذي دعم الرؤية البصريَّة دعمًا لا يضاهى.
4- استخدام توزيعات موسيقيَّة لمقطوعات إيطاليَّة معروفة لخدمة جو عصابات المافيا الإيطاليَّة. غير الأغنية المستخدمة في لحظات البداية ولحظات النهاية.
5- الكوميديا التي استطاع المخرج تبطين العمل بها.
هذا فيلم “الأيرلنديّ” الذي ستشاهده وستستمتع حتى مع طوله البالغ. لأنَّك سترى مغامرة صنَّاع فيلم حقيقيَّة، وستشاهد كم يصنع الاجتهاد والموهبة من تألق.