اغتراب بالتزار مدخل لقراءة سينما روبير بريسون

هنا يظهر اعتداده بقيمة المبدع الذي يرى أنه يتجه بعيدا تماما عن المخرج \ المنفذ، عبر “النزوع إلى ما هو حسي وطبيعي”.

روبير بريسون

وما هو طبيعي عند بريسون هو كل ماهو غير متكلف، بسيط، موجز، غير مصطنع.من هنا يتجه بريسون إلى كل ماهو حسي,،طبيعي، وعفوي تماما.
بناءا على ذلك يحب بريسون أن يطلق على الممثل (موديل – Model  )

والموديل عنده هو أداة، منفذ للداخل، مرآة لما حوله وليس مرآة لنفسه.
والفارق بين الممثل المسرحي والسينمائي في نظر بريسون عن الموديل يتلخص في قوله
“الموديل حركة من الخارج نحو الداخل، والممثل حركة من الداخل نحو الخارج”.

هنا يظهر سخط بريسون على مفهوم “الممثل المحترف” الذي يهتم في البدء بإظهار نفسه وهنا يرى أن ذلك النوع من الأداء الذي يمليه ويفرضه الممثل المحترف هو نوع من “التجني” على العمل الفني أولا، ثم على الشخصية، وهنا يوجه بريسون لومه إلى المخرج.

كما يرى أن الموديل هو نتاج للبيئة، وهي التي تحركه بشكل يطلق عليه “أوتوماتيك” وهنا عودة من جديد لكل ما هو طبيعي وتلقائي وهو جوهر الفارق بين السينماتوغراف والمسرح، فالسينماتوغراف قائمة على علاقات تبادلية بين الصور والأصوات. أما المسرح فهو قائم على تقليد الحركات وتبدل النبرات الصوتية، ويرى بريسون أن ذلك لا يحلل أو يفسر – وهذا هو دور السينماتوغراف- أما كل ما هو مسرحي فهو يعيد التأليف, ويكرر نفسه.


“السينماتوغراف كتابة بالصور في حركتها، وبالأصوات “

كل ذلك يفسر طبيعة الأداء في سينما روبير بريسون واعتماده على الهواة في أن يكونوا أبطالا لأفلامه. كما يفضح بريسون أسلوبيته مع الممثلين فيقول “أجعل الممثل يكرر النص أكثر من خمسين مرة, لا لشيء إلا ليمتنع عن التفكير فيما يقول، فتبدو الكلمات حين قولها وكأنها تطير في الهواء, متماهية تماما مع ما حولها من طبيعة”.

وهنا يتجلى كنقطة نور مضيئة فيلمه “بالصدفة يابالتزار” AU hazard Balthazar
أحد أهم أفلامه والذي صدر عام 1966 ، وفي هذا الفيلم يؤكد على  إيمانه بأن الممثل المحترف ليس مهما إطلاقا في العمل الفني الحقيقي.

فبطل فيلم بريسون الذي يتتبعه من البداية وحتى النهاية هو الحمار بالتزار.

ويرصد بريسون في فيلمه علاقة من الصغر بين الفتاة ماري والحمار بالتزار ويبدأ بتتبع رحلة كل منهما بينما يتلاقيان ويفترقان كثيرا على مدار الحكاية.

والفيلم اقتباس غير صريح من رواية “الأبله” لدوستويفسكي، ويظهر في مجمل أعمال بريسون ولعه بالأدب في المطلق وشغفه الخاص بأدب دوستويفسكي. فقد حاكي بريسون في سينماه الكثير من الأعمال الأدبية العالمية كما نجد في أفلام مثل “موشيت mouchette” و”يوميات قس في الأرياف  Diary of a country priest  اقتباسا من أعمال روائية بنفس الاسم للروائي الفرنسي جورج برنانوس.

وفيلمه الأخير “المال – L’ Argent   ” مأخوذ عن قصة لتولستوي.
أما دوستويفسكي فقد نقل بريسون عنه أربعة أعمال للسينما في اقتباسات صريحة كما نرى في “أربعة ليال لحالم
Four nights of a dreamer    وهو عن رواية الليالي البيضاء
و”امرأة لطيفة
A gentle Woman    عن قصة مخلوق لطيف واقتباسات غير مباشرة كما نرى في Pickpocket –  – النشال ” المأخوذ عن “الجريمة والعقاب ” و”AU hazard Balthazar  – بالصدفة يابالتزار ” المأخوذ عن الأبله”.

 إن تلك الاقتباسات التي شملت أربعة أعمال أدبية تؤكد إعجاب بريسون بأدب دوستويفسكي، كما يستعين بريسون برأي مارسيل بروست عن دوستويفسكي والذي يقول “إن فيدور دوستويفسكي مذهل في تشعبه وصرامته، باطني محض، بما لديه من تيارات وتيارات معاكسة, شبيهة بتلك التي يحملها البحر”. والتي بالضبط يراها بريسون تليق بفيلم.

ويعد قول بريسون:
“ليس الخلق بالإضافة بل بالحذف” هو مدخل للكيفية التي اختارها لمحاكاة رواية دوستويفسكي. ففي رواية تزيد عن ألف صفحة يرصد دوستويفسكي فيها رحلة بطله “الأمير ميشكين” يهمش بريسون تماما شخصية البطل لصالح ماري وبالتزار.


وماري وبالتزار كان لهما وجود في الرواية بالفعل، لكنه كان وجودا عابرا تماما وغير محسوس. فماري فتاة ريفية يحكي الأمير ميشكين عن ذكرى إعجابه بها في  ما لا يزيد عن نصف صفحة في الرواية, وبالتزار هو حمار يتذكره عنه ميشكين في سطرين أو ثلاثة أسطر، فيحكي عن شعوره بالتواصل الروحي بين ذلك الحمار حينما كان يمشي وحيدا في السوق ذات مرة وشعر بوحدة شديدة, حينها سمع نهيق حمار من بعيد, في تلك اللحظة أحس بأن هنالك من يشاركه وحدته ويشعر بمأساته.
إذن فبريسون في حكايته التي يختارها يتناسى تماما شخص ميشكين مع الاحتفاظ بجوهر الشخصية،  السذاجة المفرطة في عالم خالي من العطف، وهو الذي يحتفظ به بريسون في كل من ماري وبالتزار، وتحديدا بالتزار.

وهنا تتجلى أهمية الحذف. أو “الاقتصاد – Minimalism” كما يحب أن يسميه بريسون.

واقتصاد بريسون لا يقتصر على مجرد اقتصاد وحذر في الاقتباس فقط، بل يمتد ليشمل كل عناصر سينماه. اقتصاد في الحوار والحدث والمشاعر الظاهرة على الشاشة يقابله بعد عن التكلف في إظهار الأشياء، تطرف يتجه حتى إلى السخط على “التكوينات السينمائية” التي يعتبرها بريسون فقر لدى المبدع ونوع من الاستسهال.
هنا نتذكر تقنية “جبل الجليد” عند هيمنجواي القائمة على الحذف. أي حذف كل ما هو غير مهم. ويعد هيمنجواي كل ما يعلمه القارئ أو المتلقي بشكل مسبق هو “غير مهم” في السرد, فتجاهله أو عدم ذكره لن يضيف شيئا هاما إن لم يكن لضرورة ما.

ويعد ذلك مدخلا لطريقة السرد المقتصد التي يختارها بريسون، والتي تمتد لتشمل اقتصاد في الموسيقى حتى , والتي يقول عنها بريسون “كم من الأفلام ترتقها الموسيقى, يغرقون الفيلم بالموسيقى, يحجبون رؤية أن لا شيء في هذه الصورة”.

ويرى بريسون أن الاستخدام المفرط للموسيقى يشوَش المتلقي، يوجهه إلى شعور ما هو بالتأكيد غير حقيقي لأنه مبني على صلة غير حقيقية – مستوحاه من عالم خارجي – دخيل وطفيلي في أوقات كثيرة لا ينتمي إلى البيئة التي تنطلق منها الشخصيات والأحداث – عوضا عن ذلك يسخدم بريسون الموسيقى الكامنة في أصوات البيئة التي يصورها، وهي ضرورية عنده للحفاظ على الإيقاع.

وفي فيلم بالتزار لا يستخدم بريسون الموسيقى إلا في حدود ضيقة جدا ولغرض، وباقتصاد تام، ففي المرة الأولى تظهر الموسيقى حينما يلعب الأطفال ببراءة ومن بعيد يراقبهم بالتزار، والثانية كانت استرجاع لتلك اللحظة.

الموسيقى هنا لم تكن مجردة، جمالية لذاتها, بل مُطوعة لاسترجاع لحظة ما شديدة الخصوصية في الحكاية.

يؤكد بريسون على ذلك بقوله
” لا داعي لموسيقى مرافقة، مساندة أو داعمة، لا داعي لموسيقى البتة, أصوات البيئة هي الموسيقى “.

ويبدو بالتزار من الظهور الأول له وحتى نهاية الفيلم انعكاسا قويا للهيئة التي يبدو عليها جميع أبطال بريسون.. فهو دوما ما يؤكد على ذلك النوع من “التهميش المتعمد” لأبطاله، كما نرى مثلا في افتتاحية النشال البطل “ميشيل” يقف وسط جموع كبيرة من الجماهير فيبدو حينها ك “حشرة” . أو موشيت بينما تظهر منبوذة من بقية الصغار ولا تستطيع اللعب.
كذلك القس في فيلم يوميات قس في الأرياف وهو يظهر من وراء الزجاج، يراقب.
شخصيات بريسون دوما تراقب من وراء الزجاج، موشيت تفعل ذلك , ونراه أيضا في بطل فيلم أربعة ليال لحالم وفي فيلم المال.

لا يُظهر ذلك سوى نبذ مستمر لأبطال بريسون، هم دوما على الهامش، مغتربون عن ما حولهم, وعن أنفسهم. وذلك الاغتراب متجلي تماما في بالتزار، فيصر بالتزار في كل مرة على الرجوع لماري والوجود بقربها، فيبدو كملاك حارس, رغم تكرار ماري لإهانته, وهو بالمثل ما يحدث مع ميشكين في رواية الأبله من قبل الفتاة التي يحبها “ناستاسيا” التي لا تكف عن إيلامه.

وفي الفيلم يظهر حب ماري للحياة والبدء في التماهي مع ماديتها بالتوازي مع بعدها عن بالتزار, فيبدو بالتزار دوما على الجانب الآخر من مادية الحياة, وهي رؤية تتفق مع جوهر الأمير ميشكين, المتسامح والمفرط في تسامحه حتى السذاجه فيبدو ميشكين كمسيح جديد.

وفي مشهد يتناص مع خيانة يهوذا, وقبلته المشهورة للمسيح التي كانت بمثابة إشارة للجنود بالانقضاض عليه، تفعل ماري المثل, تلبس بالتزار تاج الورود. تقبله، وحينما ترى الشباب الطائش يقترب تجري مبتعدة, وتراقب من بعيد بينما يتعرض بالتزار للضرب المبرح.
المشهد هو بداية الفراق بين مري وبالتزار وهو يشير لقسوة الخيانة والترك اللذان تعرض لهما المسيح من قبل يهوذا.

الملفت في طرح بريسون هو المقاربة بين ماري ويهوذا.. فيهوذا يظهر ندمه بعد تسليم المسيح للجنود، وهو لا يكره المسيح بل يحبه, إنما تخلى عن المسيح طمعا في نزوة مؤقتة في الحياة, وهو بالمثل ما نجده عند ماري في إعجابها بالفتى قائد المجموعة الشريرة التي تتعدى على بالتزار.

ذلك الفتى يبدو أيضا هو المعادل ل “روجوين” في رواية دوستويفسكي وهو الشاب الذي يكره الأمير ميشكين لقربه من ناستاسيا ويحسده، ويصل الأمر للتعدي على ميشكين من قبله.

يقول بريسون :
” كم من الامور يمكنك التعبير عنها باليد بالرأس بالكتفين اذا كم من كلام مربك عديم الجدوى يختفي”. ويظهر ذلك حينما استقرت ماري وراء باب نصف مفتوح تراقب بالتزار من بعيد ويبدو عليها الندم الكبير لخذلانه.

التعبير حتى عن الندم والحزن مقتصد تماما عند بريسون, ولذلك سرعان ما توصد ماري الباب.

وفي ذلك المشهد ومشهد قبله في بداية الفيلم يظهر تجنب بريسون الواضح لرؤية الضرب “المبرح”
ويبدو ذلك مفهوما من خلال تعبير سابق لبريسون “إن امكن للصوت ان يحل محل الصورة فاعمل على الغاءها. الأذن تذهب أبعد نحو الداخل والعين لا تذهب أبعد من الخارج “

لذلك لا نرى بالتزار في بداية الفيلم يضرب، فقط نستمع لصوت الضرب، في المنتصف نرى بالتزار يضرب قليلا بينما نستمع للباقي. وفي النهاية نرى بالتزار يضرب بشكل عنيف في الظلام بينما نستمع لألمه. وهو الأسلوب الذي يتبعه بريسون في سينماه دوما وفي كل مرة, فنرى في بالتزار فيما بعد ماري وهو عارية بينما تبكي في زاوية ضيقة من الغرفة, لا نرى صوت ماري, فقط نسمع صوت بكاءها, في موشيت أيضا لا تبكي الطفلة بحرقة, فقط يسقط منها دمعتان, وهنا يظهر التجنب المتعمد لبريسون في إظهار المشاعر على الشاشة, فالإفراط في الحسية كما يرى بريسون هو إلغاء لتلك الحسية، التي يريدها بريسون عفوية تماما وبشرية, ليست مصطنعة.

يتجلى ذلك التجنب أيضا في مشهد قرب نهاية الفيلم، حينما يزور “جاك” المحب لماري بيتها ويسأل عنها الأم , تجيبه الأم, لقد رحلت ماري, كل ما يفعله جاك هو إيماءة برأسه إلى الأسفل كتعبير عن خيبته, وهنا يظهر أيضا اتباع بريسون لتعليماته الصارمة: “الصورة المنتظرة بفارغ الصبر كليشيه, لا تبدو صحيحة وان كانت كذلك”.

لذلك لا نرى ماري بينما ترحل، ولا نرى مشهد لتوديع ماري لجاك، فمشاهد الوداع تبدو هوليوودية – منتظرة تماما في نظر بريسون – لذلك فماري ترحل فحسب،  وجاك لا يتكلم كثيرا, يكتفي بريسون بصوت الباب الذي يغلق. وهذا هو جوهر الاقتصاد.

كما يؤكد بريسون أيضا على أن السينماتوغراف هو فن توليف الصور بعضها على بعض، فالصورة المجردة لا تكتسب معنا بذاتها, إنما ينبع المعنى من الحاقها بصورة أخرى، وهنا تختلف السينماتوغراف عن الفن التشكيلي.

نرى ذلك في المشهد الأخير حينما يجد بالتزار نفسه وحيدا ضائعا، يبدو بالتزار أقرب للتيه, لكن يعزز بريسون تلك الصورة حينما يأتي قطيع من الأغنام ويحيط بالتزار, ويموت بالتزار محاطا بذلك القطيع.

هنا تعزيز وتأكيد لمعنى الاغتراب، وهو المعبر بشدة عن الشعور المشترك لدى جميع أبطال بريسون.

يعود بريسون ليؤكد: “إذا عبرت الصورة المنظور لها بمعزل عن ما حولها، إذا عبرت بدقة أو انطوت على شيء ما فإنها لن تكتسب قيمة جديدة عند التقاءها بصور أخرى/ فليس للصور الأخرى حينها أي سلطة عليها”.













Visited 22 times, 1 visit(s) today