أندريه تاركوفسكي… مُتحدثًا عن الرمزية
كثيرًا ما طرحت أسئلة تتعلق بأفلام تاركوفسكي ومنها “هل يستعمل الرموز؟” و”وماذا يعني هذا أو ذاك، وإلام يرمز؟” ويجيب تاركوفسكي عن هذه الأسئلة، التي كانت دائمًا باعثة على الضجر والسأم بالنسبة له، قائلاً: بإمكاننا التعبير عن مشاعرنا فيما يتعلق بالعالم من حولنا إمَّا بالطرق الشاعرية أو بالمعاني الوصفية. أنا أفضَّل أن أعبر عن نفسي بشكل مجازي. دعني أؤكد: بشكل مجازي، وليس رمزيًا.
الرمز مُحَمّل في حد ذاته بمعنى مُحدد بعينه، صيغة عقلانية معينة أو معادلة فكرية بذاتها، بينما الاستعارة هي صورة. صورة تمتلك نفس المميزات أو الملامح الفارقة التي يتمتع بها العالم الذي تمثله الصورة. والصورة – في مقابل الرمز – غير محددة المعنى. ليس بإمكان المرء أن يتحدث عن العالم اللامتناهي باستخدام أدوات مُحدَّدة ومحدودة. بإمكاننا أن نحلل المعادلة أو الصيغة التي يتألف منها الرمز، بينما المجاز كائن متضمن في ذاته، الرمز أُحادي الدلالة. إنه يتحلل بمجرد محاولة لمسه.
الصورة لا يمكن أن تصبح رمزًا. حينما تتحول الصورة إلى رمز، يُصبح الفكر فقيرًا أو مكبلاً، محاطًا بالجدران، إن صح التعبير، تصبح الصورة في هذه الحالة قابلة لفك شفرتها بالكامل، والصورة ليست كذلك. هذا إلى جانب أن الرمز ليس صورة. بالرغم من أن الصورة لا يمكن شرحها، إلا أنها تُعبِّر عن الحقيقة لأقصى درجة ممكنة، و تبقى معانيها مجهولة.
ذات مرة سألوني عن معنى الطائر فوق رأس الولد في فيلم “المرآة”. لكن في كل مرة حاولت أن أوضح فيها، كنت ألاحظ أن كل شيء يفقد معانيه، وأن الأمر يحتاج للوصول إلى معنى مختلف تمامًا عن المقصود في لحظة التوضيح، وكنت أجد المعنى يفر أو يحيد تمامًا عن مكانه الصحيح. يمكنني فقط أن أقول إن المعنى لن يجيء لرجل شرير، لكن هذا التوضيح ليس جيدًا بما فيه الكفاية.
الصور تجريد
الصورة الحقيقية هي تجريد، هي التي لا يمكن شرحها، إنها فقط تنقل حقيقة ويمكن لكل منا أن يدركها بقلبه أو وجدانه الخاص. لأجل هذا يكون من المستحيل تحليل العمل الفني باستعمال دلالات فكرية أو عقلية. لأن الحدس وليس العقل هو الذي يستوعب جمال العمل الفني.
أنا عدو الرموز. الرمز مفهوم ساذج أو ضيق جدًا بالنسبة لي، بمعنى أن كل تلك الرموز توجد فقط لكي تفك شفرتها. الصورة الفنية على صعيد آخر لا يمكن حل شفرتها، إنها معادل للعالم من حولنا. المطر في “سولاريس” ليس رمزًا، إنه مجرد مطر، بينما في لحظة معينة يكتسب أهمية وخصوصية أو دلالة معينة عند البطل. لكنه لا يرمز لشيء. هو مجرد تعبير. هذا المطر صورة فنية.
الرمز بالنسبة لي شيء معقد جدًا. أتلقى أسئلة دائمًا وبشكل ثابت، ما الذي قصدته بهذا أو ذاك في أحد أفلامي. إنه شيء لا يطاق! الفنان ليس من واجبه أن يكون عرضة للمحاسبة أو مسئولاً عن مقاصده. أنا لا أزرع أي تفكير عميق في أعمالي. أنا لا أدري ما الذي تعنيه رموزي. فقط أرغب في استثارة المشاعر لدى المشاهدين. الناس دائمًا ما تحاول البحث في وعن المعاني الدفينة في أفلامي. لكن أليس غريبًا أن تصنع فيلمًا بينما تجاهد لإخفاء أفكارك الخاصة؟ صوري لا تشير إلى أي شيء فيما وراءها… نحن لا نعرف أنفسنا جيدًا: وأحيانًا ما نُظهِر من القوى ما لا يمكن لأي مقياس عادي أن يمسك به.
ما، من وجهة نظري، الذي يدور حوله فيلم “المرآة”؟ إنه فيلم أوتوبيوجرافي. الأمور التي تحدث فيه هي أمور حقيقية حدثت لأناس قريبين مني: هذه حقيقة كل أحداث الفيلم. لكن لماذا يشكو الناس من أنهم لا يستطيعون فهمه؟ إن الحقائق بسيطة جدًا، وفي مقدور أي شخص أن يستوعبها مادامت متشابهة مع تجربته الخاصة. لكن ها نحن ثانية نحظى بشيء فريد على السينما: كلما زاد بعد المسافة بين المتلقي ومحتوى الفيلم، كلما زاد القرب الذي يكون بينهما، فالذي يبحث عنه الناس في السينما هو استمرارية أو مستقبل حياتهم، وليس تكرار مشاهدتها. ليست هناك أوقات مسلية في الفيلم. في الحقيقة أنا بشكل مطلق ضد التسلية أو الترفيه في السينما: الترفيه مُهين للمؤلف مثلما هو مُهين للجمهور.
غرض “المرآة”، أو ما يوحي به هو نفسه الذي في محاضرة أخلاقية: أنظر، تعلَّم، اتخذ القدوة من الحياة التي تراها على الشاشة كمثال. هناك الكثير جدًا من الأفلام الآن، وكلها مختلفة جدًا، تلك التي في القريب العاجل سوف يكون من المستحيل توزيعها على دور السينما. تلك سوف تكون بداية حقبة جديدة في تطور الفيلم، الذي يعتبر رغم ذلك الشكل الفني الأكثر حداثة أو الأقل عمرًا، فعمره سبعون عامًا فقط أو ما يزيد قليلاً. سوف تصبح الأفلام شيئًا يُحمل في اليد كالكاسيتات، الناس سوف يتداولونها ويأخذونها إلى المنازل، وكل متفرج سوف يجد نفسه وجهًا لوجه مع الفيلم الذي يحبه بالتحديد. وماذا عن السينما، التي تخاطب الجماهير؟ ربما تتسأل أنت، الجماهير كأعداد كبيرة ليست معيار الجودة. ونفس الشيء يمكن قوله عن عدد هؤلاء القائمين على صناعة السينما. العبرة ليست بالأعداد، وفريق عمل صغير يعمل معًا قد يكون أفضل من جماعة كبيرة.
مغزى المرآة
ما هو موضوع “المرآة”، فكرته، مغزى حبكته الأخلاقي، التطور في أحداثه؟ هذا السؤال يضع في اعتباره بوضوح أن كل هذه الأشياء أساسية في أي عمل فني. في الواقع، مفهوم العناصر التي “يجب أن تكون متوافرة” لا يتفق مع الفن. العمل الفني، أيًا كان نوع الفن، ينشأ فقط طبقًا لمبادئه وحده، ويستند إلى خصوصية باطنياته، وديناميكية مساراته وقوالبه. في الحقيقة بإمكاني الرد كأي ديماجوجي: في “المرآة” هناك موضوع وحل للعقدة، وكل الأشياء الأخرى التي أدرجت في السؤال.
ليس ثمة رمزية في “المرآة”، الصور نفسها تبدو مثل الرموز، لكنها بخلاف الرموز المتعارف عليها، فهي لا تفك شفرتها. الصور مثل كتلة من الحياة، وحتى المؤلف ربما لا يكون قادرًا على استنباط ما تعنيه، ناهيك عن الجمهور بالطبع. عندما قال بوشكين “حزني المُتقد كالجمر”، لم يكن يقدم رمزًا بل صورة. منذ زمن بعيد يعود إلى العصور الوسطى كان الكتاب اليابانيون ينتقصون من قدر الرموز في الفن. وقد قيل بحق إن الإقلال من الرموز يكون أفضل دائمًا. فالرموز القليلة أحسن. الرمزية علامة انحطاط.
عناصر غامضة في أفلامي؟ أرى الناس بطريقة أو بأخرى يعتقدون أن كل شيء على الشاشة يجب أن يكون مفهومًا تمامًا أو في الحال. أعتقد أن أحداث حياتنا اليومية أكثر غموضًا من تلك التي نراها على الشاشة. لو حاولنا استدعاء كافة الأحداث، خطوة بخطوة، التي وقعت خلال يوم واحد فقط من حياتنا وشاهدناها على الشاشة، ستكون النتيجة أكثر غموضًا مائة مرة من فيلمي “ستالكر”.
الجماهير أصبحت تميل إلى الدراما البسيطة، التي تصل إلى حد التشويه والإسفاف. حينما توجد على الشاشة لحظة واقعية، لحظة تُجسِّد الحقيقة، تتبعها على الفور أصوات تدمغها بأنها “تشويش”. اعتقد الكثيرون أن فيلم “ستالكر” قصة خيال علمي. لكن هذا الفيلم ليس خياليًا، ثمة واقعية في الفيلم. حاول أن تتقبل مضمونه كتسجيل ليوم في حياة ثلاثة أشخاص، حاول أن تراه على هذا المستوى وستجد أنه ليس هناك شيء معقد، أو غامض، أو حتى رمزي فيه.
البحث عن المعنى
أنا أُبدِع حكايات. أنا أخلق عالمي الخاص، ذلك العالم الذي لا يُحيل إلى شيء غير عادي. إنه مجرد تواجد، ليس له أي معنى آخر. أعتقد أن الرمز والحكاية يسرقان الفنان. المبدع يُوَّلِد الصور التي تقوم بالتعبير وتكشف عن الحياة في حقيقتها وما هي عليه بالفعل. هذه الصور ليست “خرافات أيسوب”. هذا الأسلوب في العمل سيبدو بدائيًا ليس فقط بالنسبة للفن المعاصر لكن لأي فن عبر العصور. تتوفر الصورة الفنية على معان لا نهائية تمامًا مثل الحياة التي تحمل معان لا نهائية. والصورة عندما تتحول إلى رمز تصبح غير قابلة للتحليل.
عندما أبدع صوري لا أستخدم أي نوع من الرمزية. أريد أن أبدع صورًا، لا رموزًا. لهذا أنا لا أؤمن بتفسيرات المعاني المقترحة لصوري. أنا غير مهتم بالقضايا السياسية أو الاجتماعية الضيقة. أريد أن أبدع صورًا تمس أرواح المشاهدين بدرجة ما. لذلك فإنني في أفلامي أتحدث بالضبط عن هذه القصص وليس غيرها. ليس هناك فارق بالنسبة لي في كيفية تلقي الجمهور العام وتفسيره لأفلامي. أصنع أفلامًا بالطريقة التي تخلق في المشاهدين حالة روحية معينة. وتكون النتيجة أن المشاهدين لن يستطيعوا بعد مشاهدة الفيلم أن يظلوا كما هم دون تغيير.
لكن ما يفكر فيه المشاهدون بالنسبة لأسلوبي في تنفيذ الفيلم ليس مهمًا بالنسبة لي. المشاهدون يبحثون عن المعاني كما لو أنهم أمام نوع من الأحاجي. أعرف أنه لا يوجد عمل فني يكون معناه واضحًا للدرجة التي يحتاجها البعض. وهؤلاء عندما يستمعون إلى الموسيقا أو يقرؤون رواية أو يشاهدون مسرحية فإنهم يصادفون كثيرًا أجزاء لا يستطيعون فهمها أو استيعابها. إنها حالة طبيعية في التعامل مع العمل الفني. لكنهم عندما يذهبون إلى السينما – فإنهم يُطالبون بالوضوح الكامل، بالفهم التام. أنا ضد التمييز بين فن وآخر. الوضوح ليس هو الأكثر أهمية. العالم الذي يبدعه الفنان معقد تمامًا كالعالم المحيط به.
المصدر:
فقرات من اختيار المترجم عن كتاب “أندريه تاركوفسكي: حوارات”، الصادر في سلسلة حوارات مع المخرجين، تحرير: جون جيانفيتو.
Andrei Tarkovsky: Interviews (Conversations with Filmmakers Series), Editor: John Gianvito