“أفكر في إنهاء الأمور”.. سينما التلاعب بالزمن

فيلم “أفكر في إنهاء الأمور” I’m thinking of ending things  هو أبرز إنتاجات نتفليكس لهذه السنة والذي بدأ عرضه منذ أيام، عبارة عن سينما سُريالية تخلط بين الواقع والمتخيل، رحلة (جايك ولوسي)، حبيبان في بداية علاقتهما يذهبان في زيارة عائلية خفيفة إلى مزرعة والدا جايك، من أجل التعرف على فتاته وحبيبته لوسي، ويصادف أن ثلوجا بدأت تتساقط بقوة فور انطلاقهما في رحلتها بالسيارة.

لوسي عالمة فيزياء ورسامة وشاعرة، وجايك فخور جدا بتواجدها معه، ويرى نفسه فيها. وما إن نعرف أن مخرج الفيلم هو شارلي كوفمان الذي كتب العديد من سيناريوهات الأفلام الغريبة والمستوحاة من الأحلام، والمثخنة بالتهيؤات والهلوسة والتخيل، أهمها eternal sunshine of the spotless mind والذي يبين مدى غرابة أسلوبه وابتعاده عن الطرح المباشر، نتأكد أن أمامنا فيلم أشبه بلعبة المتاهة، قطع تركيبية على المشاهد جمعها وتشكيل صورة واضحة منها في النهاية إذا وُفِق في ذلك. ومعروف عن المخرج بصمته القوية وشخصيته الفذة في الطرح، وحتى في الأفلام التي كتبها فقط ولم يقم بإخراجها، لم يتخلّى عن ذاتيته في الكتابة وفي الغالب تنسب له أكثر من مخرجيها.

الفيلم يمنحنا نفس الشعور بالسير في متاهة، لكنها محببة، كما لو أنها تخاليج النفس البشرية التي تطمح دائما للبس ثوب المثالية المزخرف. ثيمة الفيلم متعبة للعقل لكن بطريقة ما توقظ فيك حب المعرفة والاطلاع على المزيد، ومن البداية مع أولى المشاهد الافتتاحية يعدّك المخرج نفسيا بعوامل قوية جدا لجو الفيلم الكئيب، تساقط الثلوج، الشتاء، الضباب، ألوان التصوير المائلة للرمادي. ببساطة التصوير ملائم تماما لجو الفيلم العام.

 الفيلم مقتبس عن رواية بنفس الاسم لإيان ريد صدرت عام 2016، وهو من بطولة جيسي باكلي التي جسّدت دور الحبيبة لوسي، وجيسي بليمونز في دور جايك.                     

جعلنا المخرج نرافقهما في رحلتهما الباردة المليئة بالتردد، مركزّا على أفكار عميقة حول عبثية الزمن، الوحدة، قسوة الشيخوخة، غياب تقدير الذات، فقدان معنى الحياة، وأجبرنا أيضا على الإصغاء لحواراتهما عن كل شيء وفي نفس الوقت عن لا شيء، باحثين عن نهاية تزيح كل التشوش الذي أحدثه السرد، حديث عن المسرح الغنائي ثم عن الأفلام السينمائية، ثم عن الأغاني وموسيقاها الشرسة، التي لا تعتقك إلا منفيا، تجلدك بدون سياط باقتباس رائع أضفى جوا لطيفا ومرحا على الرحلة، من خلال أغنية lonely room  من المسرحية الغنائية أوكلاهوما، ثم تحدثا عن الفيزياء وعلم النفس.

هناك الكثير من الغرابة واللامنطق واللاأمان واللاطمأنينة داخل بيت الوالدين بعد وصولهما للمزرعة.

جايك ذهب بحبيبته إلى أشد الأماكن المظلمة من طفولته وحياته، ولد ذكي لكنه إنطوائي، لم يحظ بأصدقاء أو حبيبة طوال حياته، عقده وأمراضه النفسية تلازمه رغم أنه نأى بنفسه عنها.

لا شك أن المشاهد لن يأخذ رسالة واضحة جلية من الفيلم، ولن يتطابق رأيان اثنان في رؤية وتحليل الفيلم، لأن الدراما عنيفة، تجلد الذات الإنسانية المتخمة بالغطرسة والغرور، وتشرح كل تناقضاتها.

الفيلم مليء بالرموز والاستعارات الفلسفية، بدءًا من المونولوج الداخلي وأحاديث كل من جايك وجيمي مع نفسيهما في بداية الرحلة داخل السيارة التي تشي بمدى هشاشة العلاقات البشرية القائمة كلها على المخاطرة والرهان. باب القبو المخدوش الذي يظهر محكم الإغلاق تنتبه له (جيمي)، نعم لوسي أصبحت جيمي، في أحد المشاهد بعد قليل من دخولهما منزل الوالدين بالمزرعة، عليه شريط لاصق ثم يأتي بعدها تفسير جايك أن لديه هواجس وذكريات سيئة مع القبو، وهذه إشارة للماضي المدفون في إحدى زوايا الذاكرة وكل البشر لديهم قبو صغير في ذاكرتهم يخافون وُلوجه وفتح بابه، ويرتعبون من فكرة وجود شخص يذكرهم بقبوهم المظلم، كما نرى مشاهد الأب والأم (والدا جايك) تتغير في كل مرة وتتغير معها ملامحهما وأعمارهما، وهذه حجة أخرى تشرح فكرة أن جايك يعاني من ماضيه ولا يجد لحظة مناسبة أو مرحلة جيدة ليُدخل فيها لوسي لبيته، مع علاقته المضطربة مع والديه فيظل يتنقل في ذاكرته بين أزمنة مختلفة باحثا عن الأنسب لها.

وبعد قطع شوط كبير من الفيلم وربط مشاهد من البداية مع أخرى قرابة النهاية، تتجلى فكرة أن كل ما يحدث في الفيلم هو في الحقيقة ذاكرة العجوز عامل النظافة في المدرسة الذي ظهر في البداية واختفى حتى عاد في آخر المشاهد. وكأن القصة قصته رواها الفيلم، ودخل بنا المخرج داخل عقله ونبش في كل ذكرياته وكثير من العلامات تثبت وجهة النظر هذه كعلامة حرف R على قميص العجوز، النعلين الذي قدمهما للوسي، القصيدة التي ألقتها لوسي على مسامع جايك وأخبرها أنها تشبهه، رغم أن القصيدة كانت تحاكي المرض والوحدة والنسيان، والكثير من الأشياء التي لا تنطبق على جايك الشاب، وهنا نتيقن أن جايك هو نفسه العجوز عامل النظافة.

مشاهد الحوارات الطويلة في السيارة جاءت فلسفية وعميقة وذكية، صورت لنا مدى تعب وإرهاق الناس وهم يحاولون الولوج لأفكار بعض، شد وجذب.. شد وجذب مع لمسة خفيفة من الكوميديا خففت من وطأة الغرابة.

الألوان المختارة في الأزياء أو الديكور جاءت باهتة وشاحبة وكئيبة مع إضاءة خفيفة معظم الوقت، وبعض المشاهد الداخلية بكاميرا متحركة يدويا تتقدم وتتأخر توحي باضطراب الشخصيات التي كانت معظمها مريضة والبقية تعاني من أثر المريض على محيطه.

الإطارات مختارة بعناية وتحرك الشخصيات داخلها متقن ويشدّ المشاهد.

التوليف التركيبي والمونتاج ونوعية القطع خاصة في مشاهد الانتظار حين ينزل جايك من السيارة وتبقى جيمي تترقب في خوف وهلع مجيئه، الانتقال في اللقطات بين سيارة جايك التي تقبع فيها جيمي متوترة وواجهة المدرسة المقابلة التي تغطيها شاحنة مركونة تخفي المتوجه للداخل عن النظر لغاية وصوله، هذا المشهد الأكثر إيصالا لإحساس الخوف للمشاهد والرغبة في أن يكون كل هذا كابوسا بل الفيلم نفسه مجرد أضغاث أحلام أو هلوسة.

الفيلم تجربة غريبة للمشاهدة، ثلاثة أرباعه تطرح الأسئلة بإلحاح وتجيب عن أنصافها، والربع الأخير جاء مبعثرا وفيه الكثير من التكثيف والحشو العشوائي المرهق.

قفلة النهاية بالرقص التعبيري أكدت على أن الفنون الستة الأخرى، كلها تخدم السينما، تلهمها وتمدها بمادة خام لصناعة مادة بصرية مميزة وطاغية الجمال، وأهم ما برز في آخر مشهدين، الرقص التعبيري ثم المسرح الغنائي اللذان يؤكدان لنا ذلك، مسرحة الأفلام أو أفلمة المسرح فكرة مثيرة لعشاق دمج الفنون.

إيقاع الفيلم بطيء نوعا ما، مساحة التصوير وعدد الشخصيات الرئيسية لا يتجاوز الأربعة، وهذا يخبرنا أن ميزانية الفيلم وتكلفته بسيطة ومتواضعة لكن رغم هذا الفيلم ليس فقير فنيا أو من ناحية الأفكار التي يطرحها، فقد كان جلّ تركيزه على الحوار ودقة رسالته، ورغم طغيان تقنية التلاعب بالزمن وتكثيف الألغاز والتعتيم، إلا أن الفيلم كتابة وإخراجا وتقنيا (تصوير ومونتاج) كان موفقا.

كاتبة من الجزائر

Visited 102 times, 1 visit(s) today