أفكار سينمائية: مواضيع الأفلام
تعد الافكار والمواضيع التي تتناولها الافلام، نقطة الاهتمام الأولى لذائقة المشاهد، والتي تنتج قوة الجذب والتشويق لها، فهي التي تحرك الشخصيات وتبث فيها روح الأفعال الاحاسيس والحركات، وترسم اشكال المكان، وتحدد الزمان ومتغيراته.
وهي المصدر الذي تستمد منه كل فاعلية عناصر الفيلم، فضلا عن ما تحمله من مفاهيم ومضامين، ومعارف قد تثير جدلا ساخنا، في النص الفيلمي مع المعالجة الفكرية والجمالية له، أي بمعنى الشكل الذي تقدم به هذه الأفكار وهذه المواضيع التي غالبا ما تنتمي إلى مذهب أو اتجاه أو مدرسة معينة.
إن أغلب أفلام السينما العالمية، أعطت لنا أمثلة غنية في التنوع والتباين لمواضيع متعددة، ولاقت اعجاب الجمهور، وحققت نجاحات عالية في الصنعة وفي جذب شباك التذاكر، ومنذ كلاسيكيات السينما، فقد سجلت مواضيع وافكار بعض الافلام أكثر من علامة مضيئة في الذاكرة، وأخذت اهتماما كبير في مقاعد الدراسة والبحث والتحليل، ففي فيلم العراب تم تناول حياة وعلاقات أسرة من عصابات المافيا، مشبعة بالعنف والرغبات المتصارعة.
وهناك فيلم ذهب مع الريح ايضا تناول قصة صدور رواية تحمل اسم الفيلم، وحياة بطلتها سكارليت اوهارا كشخصية محورية، وسط مشاعر الحب في ظل ما خلفته الحرب الاهلية في الجنوب الأمريكي، وفيلم ساحر الاوز، الذي يدور عن حلم فتاة، وحرب النجوم في قصة علمية خيالية في المجرة، وفيلم سايكو بعنفه السايكولوجي، وسائق التاكسي الذي يكشف الجانب المنحرف في ليل مدينة نيويورك، ورحلة إلى الفضاء والخيال العلمي والبحث عن سر الكون.
ويتناول فيلم دكتور جيفاجو قصة حبه لفتاة ممرضة، في ظل أحداث الثورة البلشفية في روسيا، وقصة الحي الغربي الذي يعد من الافلام الاستعراضية، واماديوس ونبوغ موزارت الموسيقي، وهناك فيلم الفك المفترس الذي تدور قصته عن سمكة كبيرة مفترسة، وهي تهاجم من يقترب منها، ومرتفعات ووذرنج، الذي يتناول اشهر قصص الغرام، وفرانكشتاين الذي يتناول خطورة تجارب علمية دقيقة في الطب، بتحليل عينات من المخ في أجواء غامضة، لا تخلو من المغامرات والمجازفات، وسيدتي الجميلة، الذي اتخذ الشكل الغنائي في معالجة مواضيع أكثر حساسية في المجتمع البريطاني، ومغني الجاز، الذي يتناول قصة إرث حرفة الترتيل الكنسي، من قبل الابن الذي يطمح ان يكون مغنيا، وصياد الغزلان، الذي تناول قضية تأثير الحرب الفيتنامية على بعض الشباب الأمريكي، وغيرها من آلاف الأفلام.
واستمر الانتاج السينمائي العالمي عبر موجات واتجاهات ومذاهب، وأساليب، متنوعة في المضامين الفكرية وفي المعالجات الإخراجية المدعمة تقنيا وفنيا وإنتاجيا، ذهبت لمواضيع عدة، في اشتباك وتداخل العلاقات والحب والعواطف الجميلة، وحالات المكر والخيانة والمخادعة والتضحية، والشجاعة والفروسية، والايثار، والجريمة واللصوصية وما تحمل النفس البشرية من اهواء وميول، منها فاضلة أو شريرة أو متأرجحة، ومنها ما تسمو بالألفة أو تعاني من الاغتراب، وكذلك ما تعبر عنه من نزعات وانحرافات، ورغبات وبأنواع متعددة ومختلفة ايجابيا وسلبيا.
وتوصلت التقنيات الحديثة في كتابة النصوص السينمائية الى معالجة المواضيع بفعل تقنيات السرد، التي تذهب بالفكر بعيدا، عبر منافذ الخيال والتصورات التي تجعل للافكار مجرى مرئيا ناطقا بالمعنى والدلالة والتأويل، وحاملا للعلامات السيميائية ودلالاتها، وايحاءاتها، ولربما تذهب بعيدا في التنبؤات والتكهنات والتصورات المستقبلية لما سيحدث غدا وبعد غد، في هذا العالم ومتغيراته التي تحصل بوتائر متسارعة.
ومن منظار محلي، نرى بعض الافلام لدينا، لم تكن تحظى بفرص عروض عربية أو دولية، ذلك لأنها تعاني من بعض المشكلات المهمة، فهي مثلا، بعضها لا يحمل تلك الأفكار الفلسفية العميقة، واحيانا تفتقر مواضيعها إلى البهجة أو التسلية والمتعة والتربية والمعرفة والابتكار آت والاشياء الخارقة، بل تخلو من الخيال العالي فيها، لربما انها من البداية قد صممت لجمهور محلي صرف، فهي تقتصر على البساطة والسذاجة والتسطيح، واحيانا تذهب بعضها إلى خلق مفارقة المواقف المتوقعة الركيكة، مع ما تتميز به هذه المحلية من المراوحة في أسلوب كتابة القصة الفيلمية واشباعها بالحوارات الإخبارية كأسلوب تعبيري غير مقبول.
إذ نرى في بنية النص الفيلمي ما يكشف عن عدم التفريق بين الذاتي والموضوعي، او بين الشائع والمحدود، بمعنى “اختيار موضوع يتناول سلوكا فرديا وتعميمه على أنه سلوكا عاما ويشكل ظاهرة” وهذا ما يؤشر خللا في المعالجة الدرامية للفيلم .
على سبيل المثال، يفضل أن يعالج الفيلم احيانا في بناءه النصي، القصص التي تدور على حبكة رئيسية، في إطار واسع ويحتمل تفرع الخيوط السردية الثانوية بنسيج يستمد قوة بناءه من الحبكة المحكمة، ومن المنظور المتوازن في المعالجة الجمالية والفلسفية العالية لفكرة الفيلم، وبأطر وأشكال وتكوينات وحركات واداءات تبث الحركة والجمال والتشويق.
ولن يحتمل الفيلم أفكارا بديهية وساذجة، او شائعة التداول، او مستهلكة، او مواضيع تخلق شرخا فكريا، او اجتماعيا، او أخلاقيا، او تاريخيا، او علميا، في المجتمع، اوما يدفع إلى التشظي، او الانكسار والانحراف والتراجع. فالفيلم يرفع من قيمة الفكر الانساني، والشحنات العاطفية النبيلة، ويرتقي بالجمهور إلى سمو المتعة والتلذذ، بأحداث القصة، بتهذيب عال، ويدفع بالملتقي إلى رقي الذائقة والاحساس، ورفعة الشعور بحيثيات كل ما يحيط بالانسان من معطيات ومتغيرات، مألوفة أو غير مألوفة.
فهناك من يرسم قصة حب في ظل اجواء الحرب أو في ظروف أخرى، وهناك من يحرك قضية فكرية أو سياسية أو تأريخية أو أي ميدان اخر، وهناك من يصنع قصته بمعالجة كوميدية ساخرة او سوداء، اواضحاك لأغراض التسلية والترفيه والابتعاد عن اجواء البؤس والقهر والموت والمآسي .
وهناك من يشتغل بقصته على جذب الجمهور من خلال وسامة الممثلين وسحر الشخصيات، وهناك أيضا من يجعل من” المكان” قيمة مهمة، ومحورا ساحرا في القصة، بوصفه شخصية رئيسية محركة للأحداث.
وهناك من يشتغل على الجسد والإثارة لعواطف ساخنة دون حدود، وهناك من يوحي لرمز ما أو لغز ما، ويترك ادراكه للملتقي، وهناك من يحاكي الإنسان بكل ما يحمل من اهواء وهموم سواء تدفعه للرفعة أو للتدني.
وهناك من يرسم لقصة فيلمه عالما افتراضيا، تجوب به الافكار والاعتقادات إلى ما هو ابعد عن التصور، والتوغل في عالم الفيلم واشتراطاته، وكثيرا من المواضيع والأفكار. واذا ما فكرت الجهات المنتجة للأفلام “حكومية كانت أم شركات انتاج خاصة”، فإن لديها، المتسع المهم من الروايات والقصص الادبية الرفيعة المستوى محليا وعربيا وعالميا وما تحتفظ به من أروع القصص والحكايات الدرامية النادرة فضلا عن، المتوفر اليومي السامي من القصص الشفاهية، والمواضيع التي تحمل المشكلات المهمة في حياة المجتمع، والتي جرت وتجري يوميا، سواء تم تدوينها أم لم تدون بعد، في منشورات مطبوعة.
ورغم هذه السعة المتاحة من المواضيع والأفكار التي يقال، انها متوفرة في الطرقات، الا ان الأساس الآخر الذي لابد من توفره، هو المعالجة الدرامية، مع الاسلوب السردي الأمثل على وفق بناء سيناريو محكم يعمل على الابتكار الحركي، صوتيا وصوريا، مع اتقان صنع الاجواء المرئية في محيط وعمق الفيلم، بما يبعث عن التنوع والتداخل بين الواقع وعالم الفيلم، ومساحة التخييلات، والانتقالات الزمنية والمكانية، لحركة الافكار والأفعال والأحداث.
علينا أن نحقق أعلى مستويات الاختيار لمواضيع الافلام، فقصص الحب نهر جار لا ينضب، وما أجمل وأروع من القصص التي تتناول مشاعر الإنسان واحاسيسه، وتطلعاته، وهمومه، ومعاناته، وكل الخصومات التي يتصارع معها في حياته، وهناك مواضيع المجد التاريخي، والمواضيع الروحية، والرموز بأنواعها والاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، والفلسفية، والعلمية والسيكولوجية، ومواضيع الحروب ومآسيها.
وهناك أيضا مواضيع المقدسات والمحظورات أو المسكوت عنها بما يقرب فضول المشاهدة او بما يثير الامتعاض، واما قصص الرموز والسير الذاتية للشخصيات وهي تسجل انموذجا فذا في الاحسان والمروءة والتضحية والبسالة والبطولة والشهادة دفاعا عن اوطانها ومجتمعاتها، وهي تسجل رقما مهما في السمات، والخصال، اما الوقائع والأحداث التي جرت ولا زالت تجري في بلدنا، فإنها تشكل سيلا من المآثر والقصص التي تستحق ان تخلد، وان تظهر للجمهور سينمائيا بتجسيد يعظم من قيمتها ومدى تأثيرها في حياة الشعب.
وهناك افلام سجلت تعاطفا واستجابة فائقة لدى الجمهور لاشتغالها المتقن، في الافكار التي تحملها والمواضيع التي تدور فيها ، مع الاسلوب الإخراجي المميز وثقافة المخرج المرئية في الترجمة التعبيرية للفيلم ،سمعيا وبصريا لوقائع القصة، وان الأفكار والمواضيع التي تصلح للسينما، لن تقتصر على الواقع والحوادث، في ميادين الحياة ، فحسب، بل تعدت إلى عالم الخيال، والاشباح، والارواح، والأحلام، والكوابيس والعالم الافتراضي، ومساحة لا حدود لها من التخييلات والتصورات والهواجس، والتنبؤات، والخيال العلمي، والتطورات العلمية والفضاء والحدس، والتخاطر وعوالم أخرى، وبتداول تعبيري، قد يجسدها بشكل ملفت، هو اقرب الى الفانتازيا.
والعالم الغرائبي والعجائبي وبخيالات لا حدود لها، وقد تتداخل مع الواقع بقدر مشوب بالغموض والمجهول والالتباس، وقد تأخذ منحى دراميا متوثبا بمسارات سردية منتجة للمعنى والدلالة ومشبعة بالدهشة والإثارة والمفاجأة والاستفهام والتأمل وكل ما يحرك المنظومة الذهنية والعاطفية، نحو مجرى الاحداث، والتي تقود إلى النهاية المحتومة، ذلك ما تجسد في العديد من الافلام، فقد ظهرت نماذج افلام، عدت من الأعمال الرائعة بمواضيعها المثيرة، وإخراجها الاحترافي، كفيلم القلب الشجاع، والمريض الإنكليزي، والساعات، وسفرة دافنشي، والام المسيح، وحصان الحرب، وانقاذ الجندي رايان، والختم السابع، وروما حبيبتي، والمرأة الحديدية والغريزة الأساسية ومهمة مستحيلة والحديقة الجوراسية والجاذبية وسلسلة هاري بوتر، وأفاتار والنافذة الخلفية، والعائد، والفنان، وكلاود اطلس؛ واوغاد مشينون، وتايتانيك، والقارئ، والرجل الحديدي، وفصيلة، وكوكب القردة، وسوبرمان وغيرها من مئات الافلام.
ويمكن القول أن المعالجة الفيلمية، هي ليست جلسة محاكمة للواقع والنفوس والسلوكيات بمرسوم موقع، وإنما هي رحلة سياحة ذهنية، عاطفية، فلسفية، شعورية، تبحث عن معالجة الفكر مرئيا، والتأمل بعمق التصور والتذوق بالمتعة والتسلية، وهي قراءة جمالية فنية لحيثيات صياغة الفعل والحدث احساسا بالزمن وتعبيرا بهيئة المكان ،عبر أداء شخصياته بشكل تعبيري فاعل، على وفق ايقاع محكم ودقيق ومتناغم مع الصورة والحركة والجو العام، وبترفع عن كل ما هو متدن أو وضيع، وهي قراءة لوجهة نظر الكاتب أو المخرج وبما يرغب من اتجاه، “واقعي، انطباعي، تعبيري، تجريبي، سيريالي، وغيرها من الاتجاهات”. ونحن في عصرنا الراهن، بحاجة إلى مواضيع وافكار، أكثر قربا إلى الذات الإنسانية الطامحة نحو الرقي والتحضر، وكذلك التعبير عن هوية المجتمع، وقضايا الشعوب، ومصائر الاوطان، لا نرغب بمواضيع تسيء لسمعة وطن، أو شعب، او طائفة، أو تحط من قدر الإنسان ،لا نريد موضوعا لفيلم يتخذ من سلوك فردي منحرف ثيمة ومحورا مهما، ويعمم كصبغة لمجتمع ما، بقصدية تحقر من قدر هذا المجتمع.
وهذا لا يعني اننا نصمت إزاء الكشف، والتشخيص، والنقد، والادانة لبعض السلبيات الجاحدة ، وإنما، علينا اتخاذ الموضوعية في انتساب الأفعال والسلوكيات إلى اصحابها، وتعريتها وبيان مستوى البديل الأمثل من الأفعال والممارسات في الحياة الإنسانية ، ونريد أيضا مواضيع اكثر قربا من الجمال والحياة، واكثر ملامسة للمشاعر والأحاسيس الراقية، نريدها دعوة للمحبة والسلام والحرية والتسامح، لا نرغب ان تكرس المواضيع والأفكار بأفلام للتعصب والكراهية والعنصرية، وتحريك الصراعات الدينية والسياسية، ولا نريدها ان تدعوا إلى الانحلال والابتذال والسذاجة والشذوذ والعنف والغلو في الجرم وانتهاك الحرمات، نريدها افلاما أكثر التصاقا بذائقة الجمهور، فكريا وجماليا.
- كاتب من العراق