“أسرار عائلية”.. سينما الحجرات المغلقة
انطلق موسم 2014 السينمائى المصرى بفيلم هزيل بعنوان “حصلّنا الرعب” من تأليف وإخرج طارق عبد المعطى، وهو فيلم يمكن أن تكتب عنه سطرا واحدا باعتباره محاولة بائسة لاستنساخ كوميديا الرعب، ثم تلاه مباشرة فيلمان يتناولان المسكوت عنه فى السينما المصرية، مما فتح أبواب النقاش والجدل حول العملين من ناحية الشكل والمضمون معا، إذا كنت قد حدثتكم من قبل عن الفيلم الأول “لامؤاخذة” تأليف وإخراج عمرو سلامة، الذى يتعرض لفكرة التمييز عموما والتمييزالدينى ضد تلميذ مسيحى بشكل خاص، فإن الدور قد جاء فى هذا المقال على الفيلم الثانى “أسرار عائلية”، وهو أول فيلم موضوعه بالكامل المثلية الجنسية الذكورية فى تاريخ السينما المصرية.
دأبت أفلام مصرية كثيرة سابقة على تقديم شخصية ما اصطلح على تسميته بالشاذ جنسيا، ولكن فى إطار موضوعات أخرى، وبدرجات متفاوتة من التلميح والتصريح، يكفى أن نتذكر مثلا شخصية المعلم كرشة فى فيلم “زقاق المدق”، يمكن ألا يفهم المشاهد مثليته التى كانت سببا لخلافاته ومشاكله مع زوجته سليطة اللسان، ولكن التناول أصبح أكثر وضوحا فى أفلام مثل حمام الملاطيلى ( لعب الدور يوسف شعبان)، وصولا الى فيلم “عمارة يعقوبيان” وشخصية الصحفى حاتم رشيد التى كانت بداية انطلاق خالد الصاوى الى مرحلة النجومية.
ولكن “أسرار عائلية”، الذى واجه مشكلات رقابية كثيرة قبل التصريح بعرضه، يجعل من بطله الشاب مروان هو محور الحكاية كلها، ثم يتطرق الى المثلية الجنسية فى المجتمع المصرى، مركزا على الجوانب النفسية والإجتماعية بصورة غير مسبوقة، وبصورة تجعل من العمل أقرب من يكون الى دراسة الحالة بكل أبعادها، ولعل مما لفت الإنتباه الى الفيلم حتى قبل عرضه، ليس فقط موضوعه الجرئ (بمعايير السينما المصرية طبعا)، ولكن لأنه أيضا أول فيلم من إخراج هانى فوزى، صاحب السيناريوهات الجيدة والهامة التى صنعت أفلاما لامعة أبرزها “بحب السيما” للمخرج أسامة فوزى، و”الريس عمر حرب” للمخرج خالد يوسف، و”أرض الأحلام” للمخرج داوود عبد السيد، وهو آخر أفلام فاتن حمامة حتى ساعة تاريخه، والسيناريو الوحيد الذى أخرجه داوود عبد السيد دون أن يكتبه.
نقاط القوة والضعف
اللافت أن هانى فوزى قرر أن يقدم نفسه كمخرج بعمل ليس من كتابته، مما يعنى بوضوح تحمسه لسيناريو “أسرار عائلية” الذى كتبه محمد عبد القادر فى أول أعماله، الحكاية إذن ليست مجرد موضوع جرئ، وإنما تفصيلات حكاية تقول التترات أنها مأخوذة عن قصة حقيقية، وهو أمر لا يشكل ميزة إيجابية أو سلبية، لأن الأمر يرتبط أولا بأخيرا بمدى الإقناع الدرامى، وليس بالإحالة الى حكايات حدثت أو لم تحدث.
جاءت تجربة “أسرار عائلية” كما شاهدناها مزيجا بين عناصر القوة والضعف تماما مثل شخصية بطل الفيلم مروان، الذى يبدو ممزقا بين ميوله الجنسية ، وصورته أمام نفسه، وأمام مجتمعه، فى خانة القوة ستجد هذا التشريح النفسى والإجتماعى غير المسبوق لشخصية المثلى الذى ينحاز الفيلم بوضوح الى اعتباره مريضا نفسيا يستأهل العلاج، هناك تفصيلات كاملة عن الصراع الذى يعانيه، بل إننا نكاد نتوقع أن ينتحر بطل الفيلم فى أى لحظة، ولكن خانة الضعف أيضا بها مشكلتان واضحتان للغاية، الأولى فى الفقر النسبى فى ابتكار معادل بصرى يوازن تلك الحوارات المتواصلة فى غرف مغلقة، تقريبا نحن محاصرون طوال الوقت فى حجرات مقفولة، والكاميرا لا تفعل فى معظم المشاهد سوى “تصوير” أشخاص يتكلمون بالمعنى الفوتوغرافى، حوار وراء حوار، وباستثناء بعض لقطات الفوتومونتاج السريعة والعابرة، فإن الفيلم له طابع السهرات التليفزيونية، لايمكن الإحتجاج بأن الموضوع يتطلب ذلك، لأن أفلاما كثيرة تعتمد على الحوار، ولكنها تترك مساحات واسعة للصورة ومكوناتها، بدلا من خنقها فى جحيم من الكلام.
المشكلة الثانية الواضحة هى عدم التكثيف اللازم حتى لايتكرر المعنى بصورة غير ضرورية، فى تقديرى أنه كان يجب التدخل لحذف بعض المشاهد حتى لا يترهل الإيقاع، وحتى لاتدور المعانى حول نفسها، ولكى ننطلق بشكل أسرع الى لحظة الحل، وقد كان ذلك ممكنا تماما لأن صوت البطل الراوى يتدخل فى كثير من المشاهد، وبدلا من أن يختزل ويكثف، فقد فوجئنا فى مناطق كثيرة أنه يكرر نفس التعبير أو الإحساس الذى ذكره من قبل.
إذا شئت أن تستخدم الدقة، فإن “أسرار عائلية” لا يتعرض لكل ألوان المثلية الجنسية الذكورية، ولكنه يختار حالة تعانى صراعا بسبب اكتشافها تلك الميول تجاه نفس الجنس، أى أنه لا يتعرض مثلا لمن لا يعانون أصلا من هذا الصراع، رغم ظهور أحدهم فى الفيلم، وهو مازن أقرب أصدقاء بطلنا مروان، الفيلم أيضا يحصر نموذجه فى طبقة تتمتع برفاهية مادية، بل إن لديها رفاهية أكبر وهو أن تعرف أم الشاب (سلوى محمد على) بميول ابنها المثلية، فتأخذه ببساطة الى الطبيب النفسى، الحقيقة أن الفيلم بأكمله محوره الأطباء النفسيون، وهو بالقطع أمر استثنائى لا يتمتع به المرضى بالإكتئاب فى مصر، فما بالك بالمرضى بحالة تعادل العار ويطلق عليها اسم الشذوذ الجنسى؟!
حالة خاصة
لا يمتلك كثير من المثليين هذا الصراع بل والوعى والمقاومة الى تميز مروان (محمد مهران فى أول أدواره)، هو أولا يتعذب بميوله نحو الذكور، ويحاول أن يلجأ الى الصلاة لتنقذه من هذا التفكير دون جدوى، وهو ثانيا يعترف سريعا لأخته التى يحبها بهذه الميول، فتبلغ بدورها والدته التى تصطحبه الى طبيب نفسى، وهو ثالثا يتقبل تناول أدوية مضادة للإكتئاب ومثبطات الشهوة رغم تأثيرها على دراسته، وهو رابعا لا يشتهى أجساد الذكور إلا كمرحلة أخيرة، إذ يبدو من الواضح أنه يبحث عن الحب والتعاطف تعويضا عن والده المسافر الى أمريكا، وتعويضا عن أمه الأنانية قوية الشخصية، وحادة الطباع، وكانها أب مزيف، ولايبق له سوى أخته التى تحاول أن تكون أما بديلة.
هى إذن حالة خاصة وواعية، كما أن تفاصيل الحياة العائلية أيضا خاصة ومختلفة، نحن تقريبا أمام أسرة منهارة لاتمتلك سوى المظهر المتماسك، هناك دراسة تفصيلية جيدة لكل شخصية: الأب الغائب ثم العائد (طارق سيلمان) بخلافاته المتكررة مع أم متعالية ومتصابية، والشقيق سامح (أحمد عبد الوهاب) الذى سنعرف فيما بعد أنه سبب مأساة شقيقه، عندما اعتدى عليه جنسيا فى غياب الأب والأم فى مرحلة الطفولة، ثم الأخت التى تفرغت تقريبا للنشاط العلمى والأكاديمى، والتى تحمل نقمة على فكرة الأسرة والإنجاب عموما، بسبب هذه العائلة المتفسخة، مما يجعلها ترفض الزواج ممن تحب.
يتدرج بناء السيناريو من اكتشاف الميول الى توصيفها كمرض يستأهل العلاج، مع تلخيص أسباب ميول مروان المثلية فى حادث الإعتداء عليه من شقيقه فى الطفولة، وفى البحث عن بديل الأب الغائب من نفس الجنس، بالإضافة الى تدليل الأم لطفلها مروان، حيث انتظرت أن تلد بنتا تعويضا عن معاناتها مع ابنها المنحرف سامح، فلما جاء ذكرا، عاملته كأنثى من حيث الملابس والهيئة، فكبر أبعد ما يكون عن الخشونة والرجولة المفترضة.
لن تكتمل كل هذه التفاصيل إلا مع اكتشاف مروان بالصدفة لطبيب (عماد الراهب) يقنعه بأن مثليته لها علاج وتأهيل نفسى طويل، تأخر ظهور هذا الطبيب، لأن الفيلم استغرق كثيرا فى تكرار معاناة مروان، الذى يذهب الى عشاقه تحت اسم نور، فيعيش حياتين، لا يستطيع أن يتوقف عن مصادقة الذكور، ولايستطيع أن يتخلص من الشعور بالذنب، لا يجد الحل فى العقاقير، ولا يجده عند رجل الدين، الذى يرى أن المثليين هم الإمتداد المعاصر لقوم لوط، وأنهم من علامات الساعة.
طالت للغاية مرحلة معاناة مروان بسبب هذا الصراع، ولكن انحياز الفيلم ظل واضحا تماما، هو ضد المرض المثلى ،ولكنه ليس ضد المرضى به، ويرى أن علاج هؤلاء الضحايا ممكن، تقبل الذات كما هى أول الخطوات، ثم يأتى بعد ذلك مواجهة الماضى واكتشافه مهما كانت فيه من انتهاكات مخزية، كما يعطى العلاج للأسرة (الأب والأم تحديدا) دورا أساسيا فى إعادة تأهيل الشاب المثلى، وكلها أمور قد لا تتوفر سوى لحالة شاب ثرى وعلى مستوى وعى واضح، ورغم ذلك فقد كان مشهد المواجهة بين الأب والأبن بحضور الأم، واكتشاف الأب لمثلية ابنه ، ولانتهاك ابنه الأكبر لابنه الأصغر، أمرا شديد المبالغة والمباشرة والإفتعال، كما بدا تحول الأب الى رعاية ابنه بسهولة غريبا وبلا مقدمات مقنعة.
فى كل الأحوال، لايمكن تجاهل أن “أسرار عائلية” بكل مشاكله هو أول بداية حقيقية للتعامل النفسى والإجتماعى والعلمى مع هذا الملف الشائك والمسكوت عنه، يذكر للمخرج هانى فوزى أنه قدم فى أول أفلامه وجها جديدا مميزا وواعدا هو محمد مهران، الذى نجح الى حد كبير فى التعبير عن شخصية مركبة فى مراحل متعددة، استخدم بوعى تعبيرات وجهه وحركة جسده ويده وطريقة النطق المتعثرة فى مرحلة الصراع، ثم تناسقت الحركة مع بداية العلاج، ومواجهة الماضى المخزى، لدينا أيضا أدوار جيدة لسلوى محمد على وطارق سليمان وعماد الراهب والوجه الجديد أحمد عبد الوهاب فى دور سامح، الذى لا يقل صعوبة عن دور مروان, الملاحظة الواضحة هى أن الصورة لم تعبر عن الحالة الإكتئابية لمروان فى معظم مشاهد المنزل، البيت يكاد يكون سجنا فى رأى مروان، بينما ظلت الإضاءة فى واد آخر، ربما اعتمادا على موسيقى راجح داوود المعبرة عن مزيج من الشجن والحزن، مع جمل مرحة قليلة فى .مشاهد مروان مع مدرسه الخصوصى