“أحلام هند وكاميليا”: عن حِيَل المستضعفين في الأرض
اتنين تلاتة غلابة.. ولا هما كتير؟
هي وهي وهو.. ولا هما احنا ؟
وحلمهم شر.. ولا حلمهم دا خير؟
حلمهم ملكه.. لكن بيجرحنا
القلب بالقلب حس .. والكلمة طلعت بهمس
ملهمش من دي الحياة.. غير هي أحلام وبس
هكذا تتلخَّص رائعة محمد خان “أحلام هند وكاميليا” بكلمات وألحان عمَّار الشريعي، وصوت هدى عمَّار أثناء لقطات البداية، بعد أن أعطى محمد خان مُلخصَّا سريعًا لحياة أبطاله الثلاثة:
– هند(عايدة رياض) التي تعمل كخادمة في البيوت وفي مشهدها الأول في الملاهي تصعد بالطفل ابن أصحاب المنزل الذي تعمل به سلالم طويلة لينزل على الزحلوقة وتنظر هند للطفل وتقول (يا بختك يا سي ميمي).
– كاميليا (نجلاء فتحي) أيضًا تعمل خادمة وتعيش مع أخيها وزوجته وأولاده وهي التي تعول الأسرة متحملة مضايقات أخيها.
– عيد( أحمد زكي) الذي يبدو في المشهد الأول عاطلًا عن العمل لكن لا يتورَّع عن ممارسة السرقة أو بعض أنواع الاحتيال للكسب.
إذن وَضَعنا (خان) أمام ثلاثة مستضعفين.. أحدهم وهو (عيد) لا يبدو عليه هذا فيظهر أنه واسع الحيلة، يستطيع تأدية أعمالًا كثيرة ولديه ثقة في الغد أفضل بلازمته الشهيرة (مسيرها تروق وتحلى).
أما هند وكاميليا فهما غير راضيتين عن حياتِهما، كل منهما مضطرة لإعالة نفسها وعدة أفراد معها، ولأن هند أرملة وكاميليا مُطلَّقة فليس أمامهما أي خيارات أخرى.. وهنا تبدأ القصة.
هيلين كيلر الأديبة الأمريكية كانت تقول “أفضِّل أن أسير مع صديق في الظلام على أن أسير وحدي في النور”.
هكذا تنشأ الصداقة بين هند وكاميليا، أو قُل هكذا تنشأ الصداقات دائمًا بين المستضعفين، بحكم الشراكة في الظروف غير المحتملة، ففي الظروف الصعبة تكوين الصداقات ليس رفاهية.. الصداقة حيلة من حيَل المستضعفين، مثل الصداقة التي تنشأ بين المعتقلين في السجون، أو الجنود في الجيش، وهي على كلٍ صداقة غريبة الشكل، فهند وكاميليا ليس لهما مكانًا يتقابلان به، تنشأ صداقتهما في الأتوبيس، وتتوطّد على سلالم المنزل التي تعمل به هند، حديثهما دائمًا لا يكتمل فإما وصول إحداهما للمحطة أو نداء صاحبة المنزل على الأخرى، ورغم هذا يبدو عليهما أنهما صديقتان من زمن بعيد أو كأنهما عاشتا سويًا منذ الطفولة، تجد كل واحدة في الأخرى مرآة لها، كلاهما يريد الخلاص، كلاهما يريد أن يحكي لآخر كوامنه مع الفارق أن (كاميليا) أكثر قوة وحِدة عن (هند) التي تتسِّم بسذاجة أهل القرى تلك التي ستوقعها في خطأ كبير فيما بعد.
خان يقدِّم وجبة شهيَّة جدًا من الكادرات التي توازي النص المكتوب فيما يعبر عنه، باستثناء الكادرات القريبة حيث تبدو البطلتان طوال الفيلم أصغر حجمًا من الأماكن، حتى عندما تذهبان مع عيد إلى المأذون لعقد قرانه على هند، تصورهم الكاميرا من مستوى أعلى فتظهران وكأنهما طفلتان خائفتان من صعود السلّم تستنَّدان على بعضهما، وهما ملتصقتان ببعضهما البعض في معظم مشاهد الفيلم، كأن الحياة سجن صغير يعيشانه بكل ما فيه من أفراح بسيطة وساذجة ومآسٍ عظيمة.
الأمر لا يتغيَّر بعدما تضع هند طفلتها من عيد، وتطلب من كاميليا أن تُسمِّيها لتطمئنها بعدها أن (أحلام) صارت ابنتيهما، معًا فأحلام هند هي أحلام كاميليا، أحلامهما البسيطة في أن تعيشا بحرية أكثر، ألا تخدمان في بيوت الآخرين، أحلام هند أن تسافر للإسكندرية، الحلم الذي يتحقق في المشهد الأخير حيث تفقدان هناك كل أموالهما، وتظنان للحظة أنهما فقدا أحلام أيضًا، فتجريان بكل قوة بحثًا عنها حتى تجداها على الشاطئ فتنسيان أمر المال الذي سُرق، وترقصان بسعادة في رسالة واضحة أنهما تعودا على فقدان كل شئ لكن لا تستطيعان العيش بغير أحلام.
للمستضعفين قوة عظيمة يكتسبونها فقط وهم ملاصقون لبعضهم، كل منهم في ذاته ضعيف وتائه، ولكنهم معًا قوة عظيمة، وهذا ربما تعويض من الله لهم، هند وكاميليا اللتان لا تملكان من أمرهما شيئًا، استطاعتا حفظ ماء وجهيهما في الحياة، استطاعت كاميليا الهرب من تسلط أخيها ومن الخدمة في البيوت لفترة من الزمن، واستطاعت هند الزواج من رجل تحبه وأن تنجب أحلام التي صارت أيضًا كاميليا أمًا لها بعد أن حرمها الله من نعمة الانجاب، بالطبع لم تكن الحياة تسير هكذا لو لم يتقابلا هند وكاميليا، لو لم تنضج أحلامها معًا كانت ستبقى كل منهما وحيدة تائهة في زحام القاهرة حتى تبتلعها تمامًا ولم تكن أيًا منهما تجد (أحلامها) أبدًا.
قدَّمت السينما المصرية أفلامًا كثيرة تعبِّر عن المرأة، كان معظمها يعبِّر عنها بشكل ذكوري، فهو يطالب بحقوقها بشكل مباشر، يضعها في خانة الكائن الضعيف الذي يجب الأخذ بيده ودعمه للحصول على حقه، كان هذا حاضرًا بقوة في ستينات وسبعينات القرن الماضي كموجة جديدة قادتها بعض روايات إحسان عبد القدوس، وأفلام حسن الإمام وصلاح أبو سيف وغيرهما، لكن محمد خان يتعامل هنا مع المرأة بطريقة مغايرة، فهو لا يصرخ من أجل المرأة، ولا يجعلها تصرخ من أجل نفسها، هو يضع الحدث أمامك بكل حيادية حتى تصرخ أنت كمشاهد من أجلِها، وتقدِّر أن حتى هذه المرأة الضعيفة لها حيَلها، وربما تكون أقوى بكثير من رجل متخبِّط وعشوائي مثل (عيد)، يثير تعاطفك نحوها لكن لا يثير شفقتك، فأنت كمشاهد مع معظم مشاهد الفيلم لن تقول (يا حرام) وانما ستقول (جدعان..كمِّلوا).
إيقاع العمل منضبط، السيناريو والحوار في غاية العذوبة والملاءمة، وكالعادة خان مُبهر في تقديم الأوساط الشعبية البسيطة، وخصوصًا مع بطلاته من النساء، أداء أبطال العمل كان في غاية القوة،أحمد زكي رغم بساطة الدور كان مُدهشًا ، حضور نجلاء فتحي عظيم ويسرق الكاميرا، وربما هذا واحد من أهم الأدوار التي قدَّمتها عايدة رياض في مسيرتها الفنية.