“200 جنيه”.. أول كبوة لمخرجه محمد أمين
عندما تم الإعلان عن فيلم “إحكي يا شهرزاد” عام 2009 كان التساؤل الأهم لدى متابعي السينما عن كيفية التعاون بين الكاتب الراحل الكبير وحيد حامد والمخرج يسري نصرالله خاصة وأن هناك اختلافا كاملا في تناول وتنفيذ الرؤى السينمائية فيما بينهما، فالأول يميل إلى المباشرة على الشاشة، عكس نصر الله الذي يميل إلى الرمزية خاصة وان فيلمه السابق “جنينة الأسماك” كان يندرج تحت هذه النوعية، وأصبح التساؤل هو من الذي سيطغى أسلوبه على “إحكي يا شهرزاد”؟
وبعد عرض الفيلم وجدنا إننا امام فنانين لهما ثقل وكلاهما احترم الآخر، ففي مشاهد ظهرت المباشرة عند وحيد حامد، وفي مشاهد أخرى طغت رمزية نصر الله، نفس السؤال عاد اليوم قبل مشاهدة فيلم ” 200 جنيه” لكن الفارق بينه وبين “إحكي يا شهرزاد” أن الفيلم الجديد مؤلفه أحمد عبدالله ومخرجه محمد أمين، ينتميان لنفس المدرسة “المباشرة” لكن مع الاختلاف في طريقة طرح وعرض الأفكار.
يميل أحمد عبدالله إلى المباشرة الصريحة الفجة أحيانا على غرار “اللمبي”، “لخمة راس” و”قصة في الحي الشرقي” أو الوعظية في أحيانا أخرى مثل “كباريه”، “الفرح” و”ساعة ونص”، عكس أمين الذي يجنح كثيرا إلى الفانتازيا التي يغلب عليها الجانب السياسي مثل “فيلم ثقافي” و”ليلة سقوط بغداد” و”فبراير الأسود”. والاختلاف الثاني في تأسيس الشخصيات، فـأحمد عبدالله يعتمد على الشخصيات الكثيرة المتنوعة ذات الحبكات المختصرة القصيرة عكس أمين الذي يعطي للتأسيس والبناء حقه في كتابة تاريخ سابق للشخصية ليرتكز عليه، فكان التساؤل من الذي سيطغى أسلوبه على الفيلم؟ مباشرة عبد الله الصريحة، أم أن أمين سيجنح بالفيلم إلى الفانتازي؟
بعد مشاهدة الفيلم نرى أن منهج محمد أمين غاب، وأن الفيلم يعس أسلوب أحمد عبدالله بشكل كامل، فهو أقرب إلى تجارب عبدالله التي حققت نجاحا جماهيرا بداية من “كباريه” ومن بعده الأفلام التي خرجت من كنفه مستغلين نجاحه مثل “الفرح”، “ساعة ونص” ثم “الليلة الكبيرة” تلك الأفلام التي تشترك في انها تجمع عددا كبير امن الأبطال في أدوار صغيرة من حيث المساحة ومن حيث التأثير الدرامي، فالقصص عبارة عن حكايات منفصلة بلا تأسيس كافي، وبالتالي تصبح الحكايات عبارة عن ومضات خافتة لا تقدم وجبة دسمة للمشاهد كما يجمعهما مكان واحد او حدث سواء كان الكباريه أو الفرح أو القطار.
نفس الحال في فيلم “200 جنيه”، فما يربط الأبطال هي العملة الورقية بقيمة 200 جنيها التي حصلت عليها في بداية الأحداث الحاجة عزيزة “إسعاد يونس” ضمن معاشها من البريد وقامت بوضع ختمها الشخصي عليها عن طريق الخطأ مما جعل الورقة المالية مميزة وبدأت الورقة في دورتها وانتقالها من بطل إلى بطل بمرور الأحداث، وهي نفس الفكرة التي قدمتها السينما المصرية من قبل عام 1946 من خلال فيلم “الخمسة جنيه” من تأليف السيد بدير وإخراج حسن حلمي.
والملفت أن صناع الفيلم الجديد لم يشيروا لهذا الأمر وأن الفيلم مأخوذ من الفيلم القديم في أمر شديد الريبة والغرابة، فاستبدال الأمر من خمسة جنيه إلى 200 جنيه لا يعطي الحق لاعتبار الفكرة جديدة أو أصلية فالفارق فقط في القيمة الشرائية للخمسة جنيه في الأربعينيات وال 200 جنيه حاليا، مع أن الفكرة الأصلية يمكنها أن تصنع دراما شديدة التمييز خاصة بعد اختيار المخرج محمد أمين لأنه كان سيضفي الجانب الفانتازي على السيناريو على غرار تجربة بدير وحلمي في خمسة جنيه التي كانت الورقة المالية تقوم بدور الراوي أحيانا عن طريق صوت الراحلة وداد حمدي.
وإذا تمت المقارنة بين الفيلمين نجد أن الفرق شاسع وبالطبع يصب في مصلحة الفيلم القديم الذي نجح صناعه باقتدار في تشريح المجتمع المصري خلال فترة بداية الأربعينيات في سرد محكم منطقي حتى في مسألة انتقال العملة، عكس الفيلم الجديد، فالربط في الحبكة فقط هو العملة الورقية أما الشخوص فهم يظهرون وكأنهم في قصص قصيرة منفصلة في سرد تغلب عليه توليفة أحمد عبدالله الدائمة ذات النزعة الوعظية والبعد الأخلاقي وإنزال العقاب في النهاية على كل مذنب مثلما الحال في أفلامه السابقة على غرار تفجير الكباريه في نهاية فيلم “كباريه”.
ففي فيلم 200 جنيه تحل اللعنة وينزل العقاب على كل الأشرار. صحيح أن الفكرة نفسها كانت يمكن أن تصبح أداة لتقديم تشريح للتغييرات المجتمعية الحالية والتناقضات التي تحملها الشخصية المصرية وهو الامر الذي يجيد عبد الله كشفه وتعريته لكن على مستوى التنفيذ لديه توليفة وعظية أخلاقية انتقامية تفسد الأبعاد الدرامية غالبا.
حتى على مستوى القصص المنفصلة التي قدمها الفيلم لم تقدم أي جديد فهي مجموعة من الحبكات التي ظهرت في أفلام سابقة منها أفلام سابقة لعبد الله وأمين ولم يكن حتى يوجد تجديد على مستوى إعادة الطرح، فكلها نماذج شوهدت من قبل مثل المرأة العجوز التي لا تستطيع العيش بمعاشها وتتعرض للسرقة من ابنها، الرجل صاحب منطق صرف المال الحرام على الموبقات، الزوجة اللعوب، الراقصة الملتزمة الناقمة على مهنتها، المدرس الذي يجني المال من الدروس الخصوصية ولا يعيش حياته ويهمل عائلته، البائعة المتجولة “اللبيسة” سابقا التي غدرت بها الأيام وأصبحت ترعى زوجها القعيد، صاحب المال البخيل.
القصة الوحيدة التي حملت بعض التجديد هي التي قدمها هاني رمزي عندما اتفق مع صاحبة المتجر للكذب على ابنته.. فهي القصة الوحيدة التي نفذت دراميا بشكل جيد دون ضجيج او وعظ أو انتقام وحملت معاني إنسانية نبيلة، وأيضا قصة رجل الأعمال الذي يلجأ لبيع مقتنياته القديمة حتى تستمر أسرته في نفس المستوى المادي والاجتماعي وتوجهت هذه القصة بالحوار الداخلي الذي دار بين محسن “خالد الصاوي” والخادمة سعاد “نيرمين زعزع” حول رؤية كلا منهما للآخر.
رغم كثرة النجوم الذين ظهروا وكأنهم ضيوف شرف إلا أن أداء معظمهم كان في منتهى السوء وخصوصا أحمد السقا وإسعاد يونس وليلى علوي وأحمد رزق وطارق عبد العزيز وأحمد السعدني، على النقيض الأداء كان مميز جدا من أحمد آدم الذي اعتبره الأفضل في الفيلم وبالطبع لم يسلم في النهاية من الانتقام الوعظي من المؤلف، وأيضا أداء هاني رمزي الهادئ بعيدا عن الكوميديا ومن بعدهما يأتي أداء جيد من خالد الصاوي وأيضا مي سليم، الرباعي كانوا في أفضل حالاتهم لكنه في المجمل لم يكن كافيا لإنقاذ الفيلم في المجمل.
لم يكن الناتج النهائي لأحمد عبد الله مفاجئا فهو في النهاية له اسلوبه الخاص الذي ينال إعجاب قاعدة جماهيرية ليست بالقليلة حتى ان كان على مستوى الدراما يحتوي على الكثير من التحفظات..
لكن المفاجأة الحقيقة الغير سعيدة تكمن في المخرج محمد أمين فمن خلال أعماله السابقة أظهرت أنه صاحب مشروع سينمائي واسلوب خاص في الطرح والسرد مثل “فيلم ثقافي”، “ليلة سقوط بغداد” و”فبراير الأسود”، مزيج بين المباشرة والرمزية تحتوي على خط فانتازي شديد التميز، كوميديا سياسية اجتماعية ساخرة، ونفس الأمر مع الأفلام التي قام بتأليفها فقط مثل “جاءنا البيان التالي” و”أفريكانو”، حتى تجربته التراجيدية الوحيدة “بنتين من مصر” حملت ثقل درامي غير عادي جعلته من أهم المخرجين خلال الأعوام الأخيرة لكن يبدو ان لكل جواد كبوة وفيلم “200 جنيه” كبوة محمد أمين الأولى.