“يوم وليلة” تشريح للنفس البشرية في أضرحة القاهرة العتيقة
وضع الفيلم المصري الجديد “يوم وليلة” للمخرج أيمن مكرم مبررا منطقيا وتشريحا مجتمعيا لعدد من النماذج الفاسدة التي اتخذت من الرشاوي منهاجا لإنجاز عملها الذي تتقاضى عنه أجرا، تلك الرشاوي التي تطلب دون حياء أو مراعاة لقانون على مرأى ومسمع من الجميع.
لم يخجل النص الذي كتبه يحيى فكري من طرح مأساة يعيشها المواطن البسيط بل جعله يتعاطف مع المرتشي ولسان حاله يقول كلنا هذا الرجل، حتى أمين الشرطة البطل الرئيسي للأحداث والذي اعتدنا أن نراه نموذجا للفساد منحه العمل صك النجاة ليكون مواطنا صالحا يحارب الفاسدين من خلال طفلة “سايندروم”.
تجول المخرج أيمن مكرم بكاميرته بين عدد من الشخصيات التي تنتمي لطبقات كادحة تحمل على عاتقها مسؤوليات لا مناص منها، بين أمين الشرطة الذي يعول والدته، وابنة شقيقته المتوفاة وشقيقة صغرى، والممرضة التي ترعى ابنيها في وجود أب غير مسؤول تركهم يعيشون مع شقيقه وعائلته، والموظفة المسيحية التي ترعى والدتها المريضة وشقيقها الأصغر في وقت تخلى عنهم الشقيق الأكبر، ومهندس أحد المواقع الذي تعرض لسرقة سيارته وتحمله زوجته مسئولية الحياة في بلد غير آمنة وتعرضت لصدمة كبرى جعلتها تقرر تركها، وعدد من الخطوط الدرامية المتشعبة في يوم احتفالي كبير يواكب مولد أم هاشم.
الأحداث تدور في منطقة شعبية بمنازلها القديمة وداخل قسم الشرطة وأحد المستشفيات والهيئات الحكومية.
وهي تبدأ وتنتهي مع احتفالات مولد السيدة زينب في وسط القاهرة، ولعل أبرز مقومات تميز العمل خروجه عن توقعات المشاهدين، فقد نجح في أن يرسم شخصية “منصور الدهبي” التي جسدها خالد النبوي على أنه يستغل حنكته في اصطياد فرائسه، وهو يقوم على استغلالها بالطريقة المثلى ويبيض بها وجه الشرطة، كما نجح في أن يمنحنا مبررا لضياع الأطفال في ذروة المولد ويخرج منها في سلاسة.
وقد منح حنان مطاوع القدرة على جعل مشهد مرافقتها لوالدتها في سيارة الإسعاف من أفضل مشاهد الفيلم، وكذلك مشهد محاولة اغتصاب الممرضة والتي جسدتها درة مع مغتصبها الذي أطلق عليه “مستر سين” (قام بالدور أحمد الفيشاوي)، مع خاتمة رومانسية لخال يصفف شعر ابنة شقيقته مريضة السايندروم منتصرا على الفساد وحاصلا على السلفة التي يسدد بها مصاريف مدرستها.
قدم الفيلم نماذج للرجال الذين تنصلوا من مسؤولياتهم وألقوها على المرأة، وهي الصورة التي أصبحت منتشرة بين شريحة كبيرة من المجتمع، فها هو الشقيق الأكبر الذي يعاني قهرا بسبب مسيحيته وسلبيته مما أدى إلى أن يعيش لنفسه فقط، يكتنز راتبه عازفا عن الزواج، والآخر يترك زوجته الممرضة وولديه، في منزل عائلته الذي يسكنه شقيقه وأسرته.. وهناك أيضا الشاب الضائع الذي يتقاعس عن اعالة والدته بدعوى أنه لا يعمل.
أبرز الفيلم نماذج أخرى لرجال كادحين ليحقق توازنا يضفي على العمل الواقعية ونلمسه كلحم ودم، من تلك النماذج ذلك الشاب الذي رفض دفع رشوة لإنجاز أوراق رسمية مع صعوبة حصوله على إجازة من عمله، دافعا ثمنا باهظا مثابل ذلك.
الفيلم يعد تشريحا للنفس البشرية التي تصيب أحيانا وتخطئ غالبا، ولا تجد تعارضا في ذلك مع الدين، في ظل ممارسة شكلية بعيدة عن جوهر الدين، فتلك اللحية لم تمنع صاحبها من ازدراء زميله وشقيقته الذين يخالفهما في الديانة، ومنح نفسه صك التجاوز والاستعلاء عليهما بل وتحريم الشرب في كأس تناولتها شفاه أي منهما، وتلك المحجبة التي استباحت للرشوة لتأدية وظيفتها بل وقامت أيضا بسرقة العقاقير من المستشفى لبيعها، إلا أن الجميع يؤدون طقوسا دينية في مولد السيدة زينب: السارق والشرطي والمتسول.
يبقى هذه العمل وثيقة سينمائية للعوامل التي ساهمت في انتشار الفساد وتدني المستوى المعيشي والقيمي للمواطن المصري، لكن الصورة ليست قاتمة كما يتصورها البعض بدليل تقديم الفيلم بعض النماذج المضيئة، لكن الهدف تعرية المجتمع فربما يأتي بعد ذلك التطهير.