“يوم أحد أبدي” هل نحن مرحب بنا في هذا العالم!
فينيسيا- رامي عبد الرازق
حين أراد بطلنا المراهق كيفين أن يكسر حصار التهميش الذي تفرضه حوله روما/المدينة/الأم دون سبب واضح، رغم انها من احضرته –مجازيا- إلى هذه الحياة، قرر أن يترك اثرا لا يمحي في ذاكرتها؛ أن يقتل البابا/الأب.
هكذا يمكن ان نقرأ المشهد الأخير من فيلم “يوم أحد أبدي” An Endless Sunday للمخرج الإيطالي الشاب آلان باروني Alain Parroni والحائز على جائزة اتحاد النقاد الدوليين الفيبريسي كأفضل عمل أول وجائزة لجنة التحكيم الخاصة ضمن فعاليات مسابقة آفاق بالدورة ال80 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (30/8 – 9/9).
على ضوء المشهد الاخير لأطلاق الرصاص على البابا من فوق أحد الجسور المسوّرة بقضبان تجعل الواقف عليها اقرب للواقف داخل قفص – ضمن حالة الحصار والتهميش المفروضة على المراهقين الثلاث ابطال الفيلم- على ضوء هذا المشهد يمكن ان نتأمل الكثير من التفاصيل التي تناثرت هنا وهناك في سياق يبدو تشظيا غير مرتب بدقة لكنه خلاق ومؤثر بقدر ما هو صادم وفوضوي.
هل هو يوم القيامة؟
اختيار يوم الاحد في عنوان الفيلم لا يمكن فصل دلالاته عن كامل السياق او عن المشهد الاخير، الأحد هو يوم مقدس لدى المسحيين في بلد يحتوي على قلب المذهب الكاثوليكي بالنابض بالحب والسلام (الفاتيكان)
وهو اليوم الذي يخرج فيه البابا عقب القداس لتحية شعب الكنيسة البطرسية الذي يأتي بعضهم من أخر الدنيا من أجل أن يتبرك برؤية الحبر الأعظم.
وهو يوم الإجازة الرسمية في الدولة، واليوم الذي قام فيه يسوع حسب المعتقد المسيحي بمختلف مذاهبه.
هذا عنوان يذكرنا بعناوين افلام صاحب الأبدية ويوم(انجيلوبولوس)- حيث الفيلم كله يبدو وكأنه يدور في يوم واحد طويل بلا نهاية محددة او منتظرة. وكأن أعمار المراهقين الثلاث تحولت إلى يوم عطلة رسمية مقدس، لكنه لا ينتهي ليبدأ أسبوع العمل، وتبدأ معه حياتهم المتوقفة عند حدود العبث والضياع وفقدان الهوية والأمل.
الحياة التي تشبه طفل متعثر الولادة – كما الجنين الذي تحمله الفتاة في المشهد الأخير وتتعذب وهي تحاول أن تحضره إلى الحياة لكنها محتجزة في إشارة مرور بلا مساعدة، وهو ما سنعود إليه لاحقا.
يوم الاحد هو نفس اليوم الذي يقرر فيه المراهقون الثلاث – الولدين والبنت – أن يحتفلوا بعيد ميلاد أحدهم عبر اختراق طرقات المدينة بسرعة خارقة كأنهم يريدون أن يبثوا الروح في شرايينها/شوارعها الميتة من وجهة نظرهم.
هكذا نراهم في البداية كأنهم انبثقوا من الفراغ، لا نعلم عنهم أي معلومات تخص خلفياتهم الأسرية ولا نرى لهم آباء ولا امهات باستثناء جدة المراهقة الصغيرة التي تستضيفهم في منزلها من اجل أن تتأكد الفتاة إذا كانت حامل أم لا من صديقها – أو صديقيها كما سنشك فيما بعد!
تبدو الجدة التي تعيش في ضاحية بعيدة نسبيا عن المدينة كأنها ما تبقى من أسرهم الغائبة عن قصد، تحمل تراث الجدات الدافئات اللائي لا يملكن سوى محبة مطلقة لأحفادهن، وعصير خبرات شعبية وإنسانية تبخر من ذاكرة المدينة بحجة الحداثة ومرور الوقت.
مع فجر يوم الأحد الذي لا ينتهي ينفجر إطار السيارة التي تصرخ من سقفها المفتوح حناجر المراهقين الثلاثة كأنهم يريدون إيقاظ سكان المدينة، هذا الانفجار هو إرهاصة واضحة لما سوف يصيبهم فيما بعد من عثرات وهزائم، وكأن القدر والمدينة والحياة نفسها متآمرة عليهم.
أطفال المدينة
تجدر هنا الإشارة إلى سيطرة تيمة البلوغ (Coming of age) على غالبية أفلام مسابقة آفاق بموسترا 80 سواء الأعمال الاولى او غيرها، وهو ما يفتح طاقة تأمل ذهبية للاستغراق والتورط في السؤال الأهم الذي طرحته مجموعة التجارب السينمائية القادمة من اركان الكوكب (هل يشعر أبناء الزمن الحالي أنهم مرحب بهم في هذا العالم؟)
يطرح يوم أحد أبدي هذا السؤال بمنتهى الوضوح، والقسوة في قصف وعي المتلقي بعلامة استفهام ليس من السهل الاجابة عليها.
حين تشعر البنت أنها حامل تصارح حبيبها الصغير الذي يقرر ان يبدا في ممارسة أي عمل من اجل الاستعداد لتكوين أسرة محكوم عليها بالهشاشة من قبل أن تشكل. يعمل فيما يشبه المزرعة، يخرج بمجموعة من الغنم كل يوم لكى ترعى في سهول الضواحي، هذه المزرعة الغريبة يملكها رجل (مافيوزي) غريب الأطوار، يبدو كأنه زعيم عصابة لسرقة السيارات وتفكيكها تحت ستار مزرعة الحيوانات البدائية التي يديرها والذي يعثر عليه مقتولا في النهاية -داخل لقطة سريعة- في بير السلم بمنزل الجدة المقابل للمزرعة الغريبة.
أين تبدأ الأزمة تحديدا؟ ونعني بها الأزمة الدرامية التي تشكل كتلة الحبكة وتدحرجها باتجاه الذروة!
في الحقيقة لا يوجد أزمة درامية بالمفهوم التقليدي! الفيلم كله عبارة عن ازمة وجودية واجتماعية وإنسانية ضخمة تلقي بظلالها على الشخصيات الثلاث. صحيح اننا يمكن ان نعتبر ان الشكوك التي يبثها الفتى الثالث في قلب صديقه تعتبر بداية للازمة والانشقاق بينهم – حين لطمه بسؤال حاد قائلا ومن ادارك أن الذي في رحم حبيبتك هو ابنك انت؟
لكن هذا السؤال الذي يخلق مشكلة بين الاطراف الثلاث الغضة لا يمكن اعتباره أزمة بقدر ما هو جزء من عملية الطرح المجازية لفكرة أطفال المدينة الأيتام.
أن كلا الولدان هما وجهان لعملة واحدة، كأنهم كائن واحد برأسين، الأول يريد أن يكون اسرة لأنه يفتقد هذا الشعور الجامع الدافئ ولهذا يفرح بحمل رحم حبيبته الصغير لجنين من صلبه ويسعى للعمل وتامين المال، والثاني هو متمرد شبق لكل ما هو عبثي وفوضوي وطفولي، فهو لا يترك جدارا ولا سطحا ولا قائما ولا نائما إلا وعبث به ولوثه بالكتابة او السب او الرسم، كأنه يريد أن يترك أثره على بشرة المدينة – تماما مثل صديقه في المشهد الأخير حين قرر ان يغتال البابا-.
السؤال الحاد الذي مزق خاصرة الحبيب ليس سوى إشارة إلى أن الفتاة ربما تكون حامل من كلا الولدين، لانهما كما اشرنا كائن واحد، بل إنها حين تقرر التمرد على حبيبها بشكل غير مباشر تخرج مع الصديق ويقرران أن يكسرا جمود التهميش الذي يعيشانه بان يتركا اثرهم في خلفية صور السواح الذي تكتظ بهم شرايين المدينة ونوافيرها وميادينها الشهيرة، فنرى في تتابع لاهث كيف انهم يتخيرون خلفيات صور السواح ويقفان ليقبلا بعضهم في عنف وشهوانية وشبق لترك الأثر.
إنهم أطفال المدينة الذين يرون في أنفسهم احق الناس بالعيش بها والاستمتاع بكل ما تقدمه للغرباء والعابرين في مقابل حرمانهم منه، وبالتالي يقرران بلا ثرثرة ان يتركا أثرهما بأسهل واسرع طريقة يعرفانها؛ القُبل.
قلم ومدية وجنين
بجانب شفاههم التي تلتقي في قبلات لا تعد ولا تحصى في الشوارع وعلى الشاطئ وفي السيارة، فإن لأطفال المدينة ادواتهم الاخرى من أجل ترك الأثر؛ وهما القلم الذي يقومون باستخدامه لرسم والإمضاء على الجدران والمدية التي يحملها الصديق والتي تجرح مسام السيارات والحوائط والاسوار، كأنه ثمة تعمد لان تنزف المدينة كما ينزفون هم ارواحهم الضائعة ولكن لان جلدها سميك فهي لا تشعر بأي من تلك الندوب الباهتة.
ومع نهاية الشهور التعسة وفي يوم أحد أيضا – ربما هو نفسه يوم الاحد الذي بدأ فيه الفيلم ولم ينتهي- يأتي مخاض البنت الصغيرة بينما يكون حبيبها قد ذهب لترك الأثر الاكبر وهو قراره العشوائي باغتيال البابا.
ونتيجة لحالة الفوضى التي تعم المدينة يتم اغلاق الشوارع امام حركة المرور وبالتالي يتعطل الصديق ومعه الحامل الصديقة في طريقهم للمستشفى، ساعتها يهبط من السيارة وترتد إليه طفولته المفتقدة والمفقودة فيصرخ مستنجدا بركاب السيارات المتوقفة (ارجوكم اريد المساعدة! ساعدوني) ولما لا يستجيب له احد يقرر ان يعترف ولأول مرة بالحقيقة المرة التي كانوا يحاولون دائما أن ينكرونها (عمري 16 سنة فقط واحتاج إلى المساعدة)
هذه الجملة هي استغاثة جيل بأكمله، بل استغاثة طبقة كاملة من المراهقين حول العالم في هذه اللحظة الزمنية مضنية الألم.
أما الجنين المتعثر في الولادة فهو أداة اخرى من ادوات ترك الاثر، وهو أيضا جزء من استمرارية السؤال الذي سبق وأن أشرنا إليه – سؤال الترحيب الغامض-. إن احتفاظ الحبيبان الصغيران بالجنين القادم داخل رحم البنت الجديد هو ايضا جزء من رغبتهم في أن يتركوا اثرا على وجه المدينة أو في ذاكرته، إنه جزء من محاولتهم الاجابة على سؤال: هل نحن ومن بعدنا مرحب بنا في هذه الحياة وذلك العالم؟
ولأن علامة الاستفهام مفتوحة، فإن اللقطة الأخيرة ليست سوى نظرة علوية من عين الإله، حيث المدينة المصابة بعسر مروري خارق، وفوضى غامضة بعد محاولة اغتيال الأب/رمز الدين المتعالي الملوح دون أثر يذكر على نفسهم، هكذا تبقى اللقطة تصعد وتصعد كأنه التخلي السماوي او الوجودي وكأن ما يحدث في الأسفل لا يخص احدا! رغم أنه في الحقيقة، يخص الجميع.