يوميات مهرجان كان الـ76 (6): تحفة كوريسماكي

أمير العمري- كان

في تقديري الخاص يتربع على قمة الأفلام التي شاهدتها من أفلام المسابقة الرسمية في مهرجان كان الـ76 حتى الآن،- بعيدا عن مسألة ترشيحات الجوائز- ثلاثة أفلام هي حسب ترتيب المشاهدة، الفيلم التركي “الحشائش الجافة” The Dry Grass للمخرج الكبير نوري بيلجي جيلان، الذي سبق أن حصل على سعفة الذهب في كان مرتين من قبل ويمكن جدا أن يفعلها للمرة الثالثة، ثم الفيلم البريطاني- البولندي “منطقة الاهتمام” The Zone  of Interest، لريتشارد جلايزر الذي يصور الهولوكوست بمنظور مبتكر وجديد تماما، والفيلم الفنلندي “أوراق الشجر المتساقطة” The Fallen Leaves.

أعتبر الأفلام الثلاثة تحفا سينمائية لا شك في هذا بفضل الأسلوب الفني وبراعة العرض وكيف تستولي مثل هذه الأفلام على مشاعرك، تحتوي قلبك وتنير عقلك، وتدفعك للتفكير في معنى العيش في حياتنا المعاصرة، رغبتنا في التواصل مع غيرنا، وخوفنا من وحدتنا وعزلتنا، وما يكمن في خفايا النفس البشرية من أشياء لا قبل لنا بها.

لست من المتحمسين أبدا للفيلم التسجيلي الصيني الطويل “شباب” (3 ساعات و32 دقيقة) الذي يصوره نقاد فرنسا باعتباره اكتشافا حقيقيا في حين أنه يتصف بالتكرار والاطالة التي لا مبرر لها، ويعيبه ذلك التصور المهتز ومستوى الصورة الرديئة، على نحو يذكرنا بالأفلام المؤدلجة التي كانت تصنع في الستينيات وتريد أن تقنعنا بأن الرسالة هم من الشكل، في حين أن الشكل هو المضمون ذاته حسب ما علمنا إياه المعلم جون جوك جودار!

بعيدا عن الفيلم الصيني “شباب” الذي غادرته بعد ساعة واحدة من بدايته ولم أستطع أن أكمله لشعوري بان لا شيء سيتطور فيه، وأن مخرجه سيستمر في رصد معاناة عمال مصانع (تحت السلم) لصنع الملابس، بنفس الاسلوب العقيم الذي يجعل اللقطة التي يمكن الا تزيد عن ١٥ ثانية تستغرق على الشاشة نحو دقيقة كاملة، لذلك يستغرق الفيلم ٣ ساعات و٣٢ دقيقة، لكن لا باس فليغرم به من يشاء، فكل منا له ثقافته الخاصة ومفهومه للفيلم التسجيلي الحديث الذي لا أظن أنه ينطبق على هذا الفيلم!

، يمكنني القول بثقة إن فيلم “أوراق الشجر المتساقطة” تحفة حقيقية جديدة للمخرج الفنلندي المرموق أكي كوريسماكي. إنه يحدثنا فيه- دون أي أحاديث أو خطب كثيرة مثلما شاهدنا في أفلام أخرى، عن كل شيء، عن الوحدة الإنسانية والفراغ النفسي والعاطفي والحب عندما يأتي من دون ميعاد، والقدر الإنساني والعالم المفزع الذي نعيش فيه الآن مهددين بخطر أن تمتد الحرب اللعينة الجارية في أوكرانيا إلى حدودنا، أو بالأحرى، حدود فنلندا التي قد تدفع ثمن عضويتها في النادي الغربي الموالي للولايات المتحدة.

على شريط الصوت من البداية نستمع الى ما يتردد في نشرات الأخبار، عن تلك الحرب وكيف تتسع المعاناة الإنسانية يوما بعد يوم ويسقط الأبرياء، لكن موضوعنا الذي يرويه كورسماكي بأسلوبه التجريدي المعروف، بعيد عن السياسة فهو يجمع بين المفارقات الضاحكة والوضع الإنساني المرهق. لدينا شخصيات محدود للغاية، تلتقي وتفترق ثم تلتقي مجددا، فعالمها ضيق للغاية والرقعة الجغرافية محدودة، والفضاء في المدينة يكثف أجواء الوحدة وغياب التواصل بين البشر، كما أنه يعكس أيضا كيف أصبح الإنسان البسيط مجرد أداة بسيطة يستغله أصحاب العمل طبقا لشروط شديدة القسوة تنكر تماما أي حقوق للعامل، ثم تلفظه لأي سبب أو آخر.

هناك شخصيتان رئيسيتان، رجل وامرأة: “هولابا” و “آنسا”. الأول عامل باليومية ينتقل بين أعمال عدة شاقة مثل أعمال البناء، لكنه أدمن احتساء الخمر رغبة منه في نسيان حياة الوحدة التي يعيشها، يرتبط بصداقة وان لا تبدو مثل الصداقة، مع زميل له، يترددان معا على ملهي بسيط حيث يمكن أن يؤدي من يشاء، الأغنية التي يحبها. ولكن شريط الصوت في الفيلم يتضمن أيضا مجموعة من أغاني الروك والأغاني الفنلندية، التي يوزعها كوريسماكي بحيث تبدو كما لو كانت تعليقا على الحالة الانسانية التي يصورها في فيلمه.

يتعرف “هالوبا” على امرأة في منتصف العمر، جميلة وجذابة لكنها حزينة، فهي مثله وحيدة، تعمل في سوبرماركت من دون أي ضمانات اجتماعية، من ضمن وظيفتها التخلص في نهاية يوم العمل من الأطعمة التي انتهت صلاحيتها، لكن هناك موظف أمن يراقبها وهي تعطي شخصا فقيرا بعض تلك الأطعمة، كما تنتزع لنفسها شطيرة منتهية الصلاحية مما يتسبب البب في طردها من العمل. وهي تلتحق بعد ذلك بالعمل في حانة، حيث تقوم بغسل الكؤوس التي يتناول فيها الزبائن البيرة. لكنها أيضا من دو أي ضمانات فصاحب الحانة يخبرها من البداية أنه سيدفع لها أجرها نقدا كل أسبوع، ولها أن تقبل أن ترفض.  

الحياة في فيلم كورييسماكي قاسية، قاتمة، رتيبة، لا يلوح بها شيء مبهج، بل وتبدو الشخصيات كما لو كانت تعيش في عصر آخر، في الخمسينيات مثلا، فأثاث البيوت عتيق، وعلى الرغم من تردد أخبار الحرب الأوكرانية، إلا أن هذه الأخبار تأتينا عبر المذياع وليس التليفزيون فلا وجود لأجهزة التليفزيون ولا للهواتف المحمولة. وإن كانت “آنسا” تذهب للبحث عن عمل في أحد مقاهي الانترنت. والحوار في الفيلم محدود للغاية، ويضمر في طياته المفارقات المضحكة وبعض السخرية المقصودة.

ينجذب “هالوبا” إلى “آنسا” لكنه لا يعرف السبب. وتنجذب هي إليه وكأنها كانت تنتظر أن تلتقي برجل مثله جذاب لكنه غامض. يدعوها لتناول القهوة، ثم يطلب منها أن تأكل قطعة من الحلوى (لابد أنك تشعرين بالجوع لأنك لم تقبضي بعد أجرك الأسبوعي)، ثم يأخذها الى السينما حيث يشاهدان فيلما أمريكيا من أفلام الكائنات المتوحشة من الموتى الأحياء أو الزومبيز. وعندما يغادر رجلان السينما يعلق أحدهما على الفيلم بقوله: إنه يشبه فيلم “يوميات قس ريفي” لروبير بريسون، فيقول الثاني “إنه يذكرنا بفيلم جودار “احتفظ به لنفسك Bande à part.. وكلاهما طبعا لا علاقة لهما بالزومبيز!

كل لقطة في هذا الفيلم البديع في مكانها ولا توجد لقطة واحدة زائدة او في غير موضعها، والموسيقى والاغاني تقطع السياق لتكثيف المعنى، والمكان جزء من الحالة الانسانية التي يصورها الفيلم: البرودة والفضاء واوراق الشجر المتساقطة في الخريف.

في الفيلم تحية واضحة الى جودار من خلال الملصقات الكثيرة التي نشاهدها في خلفية بعض المشاهد لأفلامه الشهيرة مثل “بييرو المجنون”، و”الاحتقار”. وقد قصد كوريسماكي بالطبع أن يسخر من ذلك الانفصال التام بين جمهور السينما الأمريكية الشعبية وأفلام النخبة الفنية.

إدمان هالوبا الخمر لا يتسبب فقط في طرده من العمل أكثر من مرة، بل في رفض “آنسا” الارتباط به قائلة له إن والدها وشقيقها ماتا بسبب ادمان الخمر وماتت أمها كمدا عليهما. لكن شعوره بالصلف يجعله يرفض التخلي عن الخمر وينصرف من منزلها الصغير الذي تقول إنهما ورثته عن جدتها. لكن الحب ينتصر ويهزم الخمر وينتصر.

شخصيات بسيطة تتوق للحب، لا تتعجل في التعبير عن مشاعرها شأن سكان تلك البلدان الشمالية الباردة، هناك فقط نظرات، وكلمات تقول عكس ما ترمي، ولكن حنين مكتوم ورغبة مشتعلة في النفوس، ظمأ إلى التساند والتوحد مع الآخر، وسط عالم يشعر فيه الانسان بالتهديد باستمرار وبعدم الأمان، فالعمل غير مضمون، وما يأتي منه يكاد لا يكفي لسد حاجته الأساسية، والسينما مهرب الى الخيال الوحشي المعادل للعالم الواقعي، والطريق الى الحب صعب، لكنه ممكن.

كل شيء في هذا الفيلم منسوج ببراعة من خلال مشاهد هادئة لا صخب فيها ولا حوارات طويلة، مع كاميرا ثابتة باستمرار، وكادرات متوسطة، تجرد الصورة وتنفي عنها المشاعر الجياشة أو الانفعال المباشر، والحوار يتناقض كثيرا مع الصورة، والفيلم في النهاية يقول كل شيء عن الحياة والدنيا والإنسان والعالم، في بساطة الشعر وسحر السينما، وفيما لا يتجاوز 85 دقيقة.

لم تكن مسيرة كوريسماكي في عالم السينما سهلة، بل شاقة، معقدة، ويرجع هذا في جزئيًّا إلى كونه كان يشق طريقه في بلد يكاد يكون بلا صناعة سينمائية حقيقية، وقد قيل إن كوريسماكي احتل بأفلامه منذ أن بدأ الإخراج في الثمانينيات نصف حجم الإنتاج السينمائي الفنلندي. وقبل أن يبدأ الإخراج انتقل كوريسماكي بين مهن عدة، من غسل الصحون، إلى توصيل الرسائل، إلى كتابة الانطباعات السريعة عن الأفلام لصحيفة محلية في هلسنكي. ثم استعان به شقيقه ليشاركه الإخراج فتعلم الكثير من أصول الحرفة. وفي 1983 قرر أن يعدّ ويخرج فيلمًا عن رواية ديستويفسكي «الجريمة والعقاب»، ولكن بتركيز على أزمة البطل-القاتل النفسية، أي في إطار الفيلم الذي لا يتضمن أحداثًا كبيرة معقدة، مع مسحة من التأمل الساخر ستميز أفلامه في ما بعد.

أخرج كوريسماكي بعد ذلك ثلاثيته «ظلال في الفردوس» (1986)، و«أريل» (1988)، و«فتاة مصنع الثقاب» (1990)، وتعتبر الثلاثية نوعًا من الانتقام من مجتمع مدينة هلسنكي، ورثاء للطبقة العاملة في اغترابها وأزمتها.

أما الفيلم الذي نقل كوريسماكي إلى الساحة العالمية فهو فيلم «رعاة بقر ليننجراد يذهبون إلى أمريكا»-1989، وفيه يصور من خلال كوميديا تعتمد على المواقف، وعلى الصمت أكثر من الكلام، كيف يقرر أفراد فرقة موسيقية روسية السفر إلى أمريكا لتجربة حظهم هناك حيث يلتقون أحد الممولين من أبناء جلدتهم الذي يرسلهم إلى المكسيك، وهناك يفشلون فشلًا ذريعًا فيعودون للغناء في البارات للمهمشين في بلدات جنوب أمريكا، بغنائهم الذي لا يفهمه أحد، ولكنهم مع ذلك يرقصون على نغماته.

كوريسماكي صاحب نظرة خاصة للعالم، وصاحب أسلوب خاص، وهو نموذج بديع لفنان السينما أو للمخرج المؤلف الذي يعبر عن رؤيته من فيلم وآخر، وكأنه يصنع فيلما واحدا ممتدا.

 

Visited 6 times, 1 visit(s) today