يوميات مهرجان فينيسيا (9) فضح “النظام الجديد”
أمير العمري
الظلم والتفرقة الطبقية والقهر الاجتماعي، عوامل كامنة تم التحذير منها مرارا وتكرارا، ليس فقط في بلدان أمريكا الجنوبية، بل في بلدان الشرق الأوسط أيضا وفي مقدمتها مصر ذات المائة مليون نسمة، بينهم أكثر من 40 مليون تحت خط الفقر بسبب السياسات العامة منذ عقود.
وجود طبقة تتمتع بالثراء الشديد والحصانة لن يكون كافيا لمنع اجتياحها وتدمير ممتلكاتها وقتل أفرادها بدم بارد، واختطاف آخرين والمطالبة بفدية.. وممارسة أبشع أنواع التعذيب عليهم والاعتداء الجنسي على بناتهم بل وشبابهم أيضا.
هذه الصورة القاتمة القاسية هي ما نراها في الفيلم المكسيكي الكبير “النظام الجديد” New Order للمخرج مايكل فرانكو، الذي عرض ضمن مسابقة مهرجان فينيسيا الـ 77، منافسا بقوة على “الأسد الذهبي” وغيره من جوائز المهرجان العريق.
إنه دون شك، أكثر أفلامه الستة طموحا، وفيه يصور باستخدام الكاميرا المحمولة معظم الوقت، “ديستوبيا” مرعبة تدور في المستقبل القريب في المكسيك، يكشف عن جانب جديد من الموضوع كلما تعمق فيه، ينحرف بالحبكة، يضع الشخصيات أمام مصائرها الغامضة، يجعل المتفرج طرفا في الفيلم، حيث لا يمكنك أن تدير وجهك لثانية واحدة، فأنت أيضا أصبحت متورطا، سواء كضالع ضمن المذنبين أو في أوساط المتمردين.
من أجواء البذخ والرخاء والاسترخاء، الى أجواء الصخب والعنف. فهذا فيلم عن العنف الطبقي حينما يصل إلى ذروته. ويشعر المشاهد بالرعب والتوتر، فأسلوب البناء والسرد في الفيلم يصاعد من توترنا، مع كل ما نشهده وكأننا أمام أحد أفلام الرعب غير أنه عمل واقعي تماما، وكل شيء فيه مبرر وواضح ومفهوم.
في البداية، حفل زفاف كبير داخل أحد قصور البورجوازية.. رجل من كبار المهندسين المرتبطين برجالات السلطة، يزوج ابنته الشابة “ماريانا” لمهندس معماري شاب. الجميع يلهون ويرقصون ويتناولون الشراب. الجو شديد الجمال والعذوبة. الفتاة جميلة رقيقة كالنسيم، والشاب طاووس صغير.
هناك هجوم يقع في بداية الفيلم على مستشفى. رجال مسلحون يهاجمون المستشفى ويلوثون الجدران بالصبغة الخضراء. لكن لا أحد من بين رجال النخبة الاجتماعية الذين يحضرون حفل الزفاف، يعير اهتماما للفوضى القائمة في الخارج. هنا يحضر الوزراء وكبار المسؤولين وبينهم “فيكتور” رجل المهام الصعبة المرتبط بدوائر السلطة. الجميع ضالعون في شبكة مصالح واحدة، هي شبكة الفساد الذي يحكم في المكسيك. وحتى والد العروس “ايفان” يدفع رشاوى ضخمة للوزير لتسهيل الحصول على المشاريع التي لا تخدم سوى “الطبقة العليا”.
يحضر حارس البوابة يخبر سيدة القصر، والدة العروس ان “رونالدو” على البوابة يريدها في كلمة. من هو رونالدو؟ هو رجل مسن، كان يعمل من قبل في القصر خادما مع زوجته “ليزا” التي ترقد الآن بين الحياة والموت تحتاج لاجراء عملية جراحية عاجلة في القلب. ولكنه لا يملك من ثمن العملية (200 ألف بيزو) سوى 50 ألف فقط. الأم تتردد.. ترتبك ثم تعود وتمنحه مبلغا صغيرا تقول إنه كل ما استطاعت جمعه!
خزانة الأسرة داخل غرفة النوم تمتليء بالمال والشيكات التي انهالت على ماريان كهدايا الزفاف. لكن القاضي الذي سيعقد القران لم يصل بعد. شقيق ماريان (دانيال) يرفض أن يمنح رونالدو شيئا بل يأمر بطرده. لكن ماريان القلب الرقيق في العائلة تصر على أن تأتيه بالمبلغ المطلوب أي 150 ألف. لكنها تكتشف أن أمها قامت بتغيير أرقام الخزانة، وقد غادر رونالدو محبطا. تقرر ماريان أن تأخذ بطاقتها المصرفية وتصحب معها في سيارتها الحارس المخلص “كريستيان” ابن “مارتا”.
بعد انصرف ماريان وكريستيان مباشرة، يقع الهجوم الوحشي المدمر على القصر.. مجموعات من المسلحين يقفزون من فوق الأسوار. لم تمنعهم القوات. ولم يتصد لهم أحد بل إن كبير الحراس ينضم إليهم. إنه أحد المتواطئين. يشهر سلاحه، ويبدأ الجميع مسلسل العنف والابتزاز والسرقة والنهب والقتل وسفك الدماء. كل شيء في القصر يتم نهبه أو تدميره، بل ويرغم المسلحون “إيفان” رجل العائلة، على تحويل عدة ملايين من حسابه فورا، ويرضخ هو بعد أن يقتلون زوجته أمام عينيه. كما يقتلون أيضا زوجة الابن “دانيال”. وتنتشر الجثث في كل مكان. لكن الخادمة المخلصة “مارتا” تتمكن من البقاء على قيد الحياة رغم مقاومتها للمسلحين. وهي تتصل بكريستيان، تسأله عن ماريان، فيروي لها ما وقع. تطلب منه عدم العودة الآن إلى القصر. وفيما بعد، ستذهب للبحث عن ماريان لدى ابنها كريستيان وتتعرض معه لمحنة شاقة.
قوات الجيش جاءت متأخرة وقامت بسد الطرق. لن تتمكن ماريان من الوصول الى منزل المرأة المريضة “ليزا”. جندي وجندية سيأخذان ماريان من كريستيان ويأمرانه بالبقاء في منزله، بدعوى أنهما سيقومان بتوصيلها. لكنها ستمر بالجحيم نفسه، فستجد نفسها داخل معسكر اعتقال وضعوا فيه آلاف الأشخاص من أبناء الطبقة العليا. تعذيب وتنكيل واغتصاب وتجريد من الملابس وشتائم قذرة وضرب وحشي يعود للقرون الوسطى.. ثم تصويرهم أمام الكاميرا وهم يرجون أهاليهم الاستجابة لما يطلبه الخاطفون ودفع الفدية المالية المطلوبة.
الآن اتضح تماما أن الجيش ضالع في الأمر. والجنود يعملون بأوامر من الكبار. سيتم دفع الفدية لكنهم لن يطلقوا سراح ماريان بل سيطلبون المزيد.. الواضح أن هناك انشقاق أ وتمرد داخل مجموعات العسكر، فالجندي والجندية اللذان أحضرا ماريان، يطالبان بنصيب أكبر لذلك فهما يخرجان عن “الانصياع” الواجب للطغمة العسكرية التي تسير الأمور. لذلك سيكون مصيرهما أسود. وماريان شهدت بعينيها ما يحدث والمسؤولين عنه داخل معسكر الجيش، فهل يمكن أن يتركوها تعود هكذا بكل بساطة؟
سيتضح أن كبير القادة العسكريين، صديق فيكتور، هو محرك الأمور. وسيتعرض كريستيان ووالدته لمحنة أبشع وأكثر قسوة. وأما الأب “ايفان” فسيتم ايداعه مصحة خاصة لعلاجه من الجروح التي أصيب بها، وستعين والدة العريس ممرضة خاصة للإشراف عليه، فلابد أن تظل الصلة بين أبناء الطبقة، فهم لا غنى لهم عن بعضهم.
هذا عمل كبير استخدم فيه آلاف من الكومبارس.. صور في المواقع الطبيعية، كما استخدمت تقنيات الكومبيوتر لتوليد لقطات في أشهر ميادين العاصمة المكسيكية، يعج بالفوضى والسيارات المحترقة والجثث التي تسد الطرق.. الخ.
كاميرا لا تتوقف بل تظل تلهث وراء الشخصيات والأحداث، وموسيقى كلاسيكية تستخدم بحرص لتصعيد الشعور بالصدمة، وتمثيل على أرقى المستويات، ومونتاج سريع يجعلك داخل الحدث، ينقلك من المجال الخاص، إلى المجال العام، وكذلك بين الطبقات، إلا أن الفيلم بأسره يقدم تلك الصورة المرعبة بقدر كبير من الحيادية، فهو لا ينحاز الى من يقتلون ويسرقون ويدمرون، تماما بقدر عدم تعاطفه بالطبع، مع رموز الطبقة المستغلة الفاسدة. إنه يكتفي برسم معالم الصورة وتجسيدها وتقديمها كإنذار لما هو قابل للحدوث في أي وقت طالما استمرت الأمور على ما هي عليه: طبقة تثري وتكتنز الثروة، وطبقة أخرى لا تجد ما تأكله، ومؤسسات أمنية وعسكرية فاسدة تقف وراء الفساد والمفسدين، تحميهم بل وتشترك معهم، لكنها أيضا، تتستر وتقف متفرجة لا تتدخل عمدا، بينما تجري أعمال الخطف والنهب والسلب والقتل، بل تقيم كيانا لا مثيل له سوى في الدولة النازية والفاشية، لممارسة الابتزاز لتحصل بطريقتها الخاصة، على نصيبها من كعكة الفساد التي صنعتها!
إخراج مايكل يتميز بسيطرة كاملة على المشاهد. ولعل المشهد الأول الرومانسي الناعم للحفل الراقص، حفل الزفاف المفترض، يعتبر واحدا من أعظم مشاهد حفلات الزفاف التي عرفتها السينما، بل إنه يقارن فعلا بالمشهد الافتتاحي في “الأب الروحي” ولكن دون أي محاكاة أو اقتباس بل يظل له خصوصيته وملامحه الخاصة. وعندما يقع الهجوم ينتقل الفيلم من الجو الناعم الى الصخب المميت، ويظل يتوغل بنا في تلك الرحلة الجهنمية القاتمة، التي تغيب فيها الروح الإنسانية تماما ويظهر الانسان بكل وحشيته. لكنها وحشية ترد على تلك “الوحشية الناعمة”..