يوميات مهرجان فينيسيا الـ 77 (3)
أمير العمري
من الأيام الأولى يبدو مهرجان فينيسيا ناجحا بشكل يثير الاعجاب، في تنظيم هذه الدورة الاستثنائية. البرتو باربيرا مدير المهرجان، كان قد اتخذ مع إدارة البينالي بالطبع وهي المؤسسة التي تنظم “الموسترا” مع تظاهرات أخرى، قرارا أعلن عنه في الثامن عشر من مايو الماضين بإقامة الدورة الـ 77 رغم أن كل الظروف التي كانت قائمة كانت تدفع الى إعادة النظر في إقامة الدورة من الأصل والاكتفاء بوجودها الافتراضي عبر شبكة الانترنت.
ما حدث أن باربيرا نجح مع فريقه، خلال ثلاثة أشهر فقط، في تنفيذ نظام دقيق لم يتم حتى الآن تجاوزه، سواء في طريقة حجز المقاعد أو الدخول الى القاعات أو داخل القاعات نفسها حيث تم ترقيم جميع المقاعد والصفوف ووضع إشارات ارشادية واضحة للجميع، مع وجود عدد كبير من طاقم الاستقبال الذي تم تدريبه وتأهيله للتعامل مع جمهور القاعات. ويرجع النجاح التنظيمي وهو أساسي في هذا النوع من النشاطات، إلى الدرجة العالية من الوعي التي يتميز بها الجمهور سواء مشاهدي السينما أو الصحفيين والنقاد وغالبيتهم بالطبع من الايطاليين والأوروبيين. والسبب دون أدنى شك يرجع الى نظام التعليم من الصغر الذي يدرب الأطفال على تقاليد الذهاب الى السينما والمسرح والمتاحف وغيرها.
لم أشاهد مثلا أي شخص يخالف النظام ويدخل مدعيا أن لديه مقعدا في الداخل ثم يستولي على مقعد ليس له، والمكلفون بإدخال الصحفيين مثلا لا يسألونك عن اثبات لتذكرتك بل يكتفون بالبطاقة الصحفية اعتمادا على نزاهتك الشخصية.
هذه هي المرة الأولى التي أشاهد الأفلام داخل قاعات السينما الأصلية على الشاشات الكبيرة منذ أكثر من ستة أشهر، وربما أسعدني الحظ أن اشتريت جهازا رقميا للعرض في أواخر العام الماضي قبل أن يعرف العالم وباء كورونا. وأصبحت أتمكن من مشاهدة الأفلام من خلال السينما المنزلية. لكن المهرجان يختلف بالطبع في كل شيء.
ذكرت بعض المصادر هنا أن عدد ضيوف المهرجان والحاضرين قل بمقدار النصف عما كان عليه العام الماضي، وأن العدد بلغ نحو 6 آلاف شخص، سواء من تلقوا دعوات أم جاءوا على نفقتهم الشخصية. وكان العدد السابق 12 ألف شخص. وهذا ما يجعل من هذا المهرجان مهرجانا كبيرا بحق فعدد ضيوف أي مهرجان عربي مهما بلغ كرمه وحفاوته لا يبلغ الألف بأي حال. ومهرجان كان يصل عدد من يحضرونه نحو 30 ألف أو أكثر قليلا.
ويجب أن نعرف أن هذا العدد لا يشمل الجمهور العام بالطبع، لكن القياس يكون على مدى تفاعل “أهل السينما” مع المهرجان الذي يأتون اليه خصيصا، فمهرجان روتردام مثلا يبيع ما يقرب من 360 ألف تذكرة لجمهوره، لكن ليس معنى هذا أنه من ضمن المهرجانات الكبيرة.
- في اليوم الأول شاهدت 4 أفلام. كتبت عن الفيلمين الأولين وهما فيلم الافتتاح “الروابط”، وفيلم “تفاح” اليوناني الذي افتتح به افتتاح قسم “آفاق”. وفي المساء شاهدت الفيلم الإيراني (ضمن آفاق) “الأرض الخراب” The Wasteland وهو الفيلم الروائي الثاني لمخرجه أحمد بهرامي. ويقول المخرج إنه بمثابة تحية الى والده الذي كان عاملا، والى جميع العمال الذين يمارسون الأعمال الشاقة. والفيلم يدور في منطقة قاحلة منعزلة في اطراف إيران، قرب الحدود العراقية، حيث يوجد مصنع- ان جازت الكلمة بالطبع- لإنتاج قوالب الطوب الذي يستخدم في البناء، بل هو أقرب الى ما يسمى في مصر بـ “القمينة” التي تنتج الطوب بطريقة بدائية يدوية.
يعمل في هذه المهنة الشاقة تحت الحرارة الشديدة للشمس، مجموعة كبيرة من العمال منهم مجموعة من الأكراد. وجميعهم يحملون أسماء عربية تماما مثل لطف الله وهو رجل يبدو كهلا لكن يقال لنا انه في الأربعين من عمره، وهو الذي قضى عمره في هذا المكان، يعمل لدى صاحب المصنع الذي يجمع العمال ليخبرهم أنه قرر بيع المكان بعد أن أصبح البناء يتم بألواح الخرسانة والأسمنت بدلا من الطوب الذي لم يعد يجدي في السوق بعد هبوط أسعاره. وبالتالي أصبح في حل من أمره بالنسبة للعمال الذين يجب أن يبحثون لهم عن عمل آخر، مع وعد منه بدفع ديونه المتأخرة لهم منذ أكثر من 9 أشهر. لكنه يحتفظ بالمرأة الجميلة لنفسه ونعلم أنه اتخذها زوجة مؤقتة.
الفيلم يتناول أجواء العمل الشاق والظروف السيئة التي يعمل فيها هؤلاء العمال الذين ينتمون الى أعراق وثقافات مختلفة، كما يلمس الاحتكاكات التي تقع بين السنة من الأكراد، والشيعة من إيران، ويلمس كذلك فكرة تحكم صاحب العمل في العمال، وكيف يستخدم شخصا منهم يوقع بينهم بحيث يضمن السيطرة على الجميع. في الفيلم مشاهد شديدة القوة خاصة المشهد الأخير.
ويصور المخرج خطبة صاحب العمل في العمال بعد أن يطال لطف الله بجمعهم، عدة مرات (حوالي 4 مرات) نراها في كل مرة من زاوية مختلفة وبتفاصيل أكثر، ثم ردود فعل العمال عليها بعد انصرافهم. وشأن غالبية الأفلام الإيرانية، يغلب الطابع شبع التسجيلي على المشاهد. وربما يكون المخرج قد اختار أبعادا ضيقة للشاشة أي 1 في 1.1 لكي يوحي بالجو الخانق الذي يعمل فيه العمال في تلك المنطقة المقفرة، ولكني لا أجد هذا قد ساهم في بشكل افضل من الشاشة العريضة غي توصيل الرؤية الفنية خاصة وأن الطبيعة كانت تقتضي اهتماما بشكل أفضل بتفاصيل الصورة. والحقيقة أنني لم أعد أفهم لماذا أصبحت حكاية الشاشة الضيقة على هيئة صندوق خانق، موضة منتشرة هذه الأيام رغم أنها لا تضيف شيئا من الناحية الدرامية كما رأينا مثلا العام الماضي في فيلم المخرج الروسي الكبير أندريه كونتشالوفسكي عن مايكل أنجلو، وبالمناسبة سيعرض بعد يومين الفيلم الجديد لكونتشالوفسكي بعنوان “الرفاق الأعزاء”، ولكنه سيكون هذه المرة عن موضوع روسي تماما يتعلق بالفترة الشيوعية.
لسبب ما، أو ربما لأكثر من سبب، لم يحدث أبدا أن وجدت شيئا خاصا يميز الممثلة البريطانية تيلدا سوينتون عن غيرها من الممثلات في بريطانيا عموما من طراز هيلين ميرين وجليندا جاكسون وفانيسا ريدجريف بل وحتى من الجيل الأحدث مثل كيت ونسليت وايميلي واطسون وروزاموند بايك. هناك شيء ما مبالغ فيه في أدائها بل وفي شكلها وحركاتها أيضا. وفيلمها الجديد “الصوت الإنساني” للمخرج الاسباني بيدرو ألمودوفار موجود في فينيسيا وهو فيلم قصير (30 دقيقة) ناطق بالانجليزية لم تتوفر لي فرصة مشاهدته بعد. لكن يجب أن أضيف أن تيلدا سونتون من الممثلات سعيدات الحظ دائما. وغالبا الحظ أكثر قليلا من الموهبة رغم أنني لا أشكك في موهبتها بالطبع!
لم أستطع أن افهم ولع بعض جمهور السينما خاصة من الشباب، بأفلام المخرج الكوري Park Hoon-jung بارك هون- وونغ، المليئة بالقتل وتقطيع الأوصال، وبتر الأطراف وخرق العينين، إلى أن تصبح الدماء أنهارا في قصص بليدة سخيفة طويلة حد الملل والارهاق من دون أي لمسة خاصة أو رؤية جديدة للعنف. استمتعنا من قبل بفيلم شديد العنف مثل “كلاب المخزن” لتارانتينو، لكن ليس لأنه يمتليء بالدم، بل لطرافة بناء مشاهده وطرافة الموضوع والشخصيات والحوار، كما استمتعنا بفيلمه الأسبق “Pulp Fiction الذي يعتبر أحد الافلام التي غيرت شكل النوع تماما. أما الأخ وونغ، فهو لا يمتلك رؤية أو حسا سينمائيا خاصا، بل ينقل عن هوليوود بفجاجة وقبح.. ويجعل الممثل الذي يقوم بدور الشرير يتقمص طريقة أداء آل باتشينو دون خفة ظل باتشينو وقدرته على الارتفاع بمستوى الدور والفيلم كله. قضيت أكثر من ساعتين مساء أمس حتى ما بعد منتصف الليل أشاهد فيلمه المعروض في فينيسيا بعنوان night in paradise “ليلة في الفردوس”، أحاول فقط ان أعرف ما الذي يدفع مخرجا شابا الى الوقوع في هذا المستنقع من الدماء مع كل هذه الفجاجة!
ما خرجت به من الفيلم أنك ان كنت من محبي الأكل الصيني مثلي فسوف تكره منظره وطعمه بعد هذا الفيلم، فستشعر انه ملوث بالدماء!
قابلت صباح اليوم الناقد الصديق محمد رضا، وجلسنا بعض الوقت ثم انضم إلينا انتشال التميمي مدير مهرجان الجونة السينمائي والفنانة بشرى التي أصبحت عمليا، رئيسة المهرجان، وأدهشني بل وأسعدني، أنهما جاءا من مصر رغم الحظر وبعد المرور بتجربة اختبار الخلو من فيروس كورونا، ثم اجراء اختبار آخر في فينيسيا بعد 3 أيام من الوصول، وربما أيضا اختبار ثالث ان كان سيمكثان أكثر من خمسة أيام وعلمت أنهما باقيان حتى العاشر من الشهر لاختيار بعض الأفلام التي تصلح لمهرجانهما. وهو شيء يدعو الى التقدير والاعجاب، أقصد ذلك الإصرار الجميل على التواجد والحضور والاهتمام باستقدام أفضل الأفلام المتوفرة.، علما بأنني لم أر أي مسؤول لأي مهرجان عربي آخر حاضرا هنا.
أخذنا صورة تذكارية بمناسبة هذا اللقاء في هذه الدورة التاريخية نظهر فيها جميعا ونحن نرتدي الأقنعة أو الكمامات الواقية. لكني لن أنشر الصورة لسبب بسيط هو أنني لم أستأذن أصدقاءنا في نشرها.
كنت قد ذكرت فيلم “غزة حبي” وقلت إنه للأخوين طرزان وقد أخطأت فالصحيح أنه للشقيقين (التوأمين غالبا) ناصر، أي عرب وطرزان ناصر. وقد شاهدت الفيلم وأعجبني كثيرا كما اعجبني أيضا أداء الممثل المصري الشاب أحمد مالك في الفيلم الأسترالي “الفرن”. لكني سأكتب عنهما فيما بعد.